القائمة الرئيسية

الصفحات

تاريخ التشـريعات والنظـم القانونيّـة في فلسـطين (الحلقـة الثانيـة)


يعرّف القانون (The law) بأنه مجموعة القواعد الملزمة التي تنظّم سلوك الفرد داخل الجماعة، والتي يترتّب عن مخالفتها الجـزاء. 
فالإنسان مدنيٌّ بطبيعته لا يستطيع أن يحصل على حاجياته إلا بالتعاون مع غيره، فكان لا بد من وجود قوانين لتنظيم تلك العلاقات. (1)لذلك نشأت القوانين وتطوّرت بتطّور المجتمعات، فالقوانين الحالية هي تطّور للقوانين القديمة، فلا مندوحة إذا من الرجوع للقوانين القديمة لمعرفة كيف سادت القوانين الجديدة.  
والمشرع يحتاج لدراسة النظم لفهم نشأة القوانين (Genesis of laws) لأن القانون يتكون من أجزاء ثابتة وأخرى متغيّرة بتغيّر العصور والمجتمعات. 

فالدراسة التاريخية بالنسبة للمشرع كالمختبر (Lab) بالنسبة لعالم الطبيعة. 
والدراسات القانونية تتكون من ثلاث أنواع: القوانين الحاضرة والمعاصرة (القانون الوضعي) والقوانين الماضية (تاريخ النظم القانونية)، وما ينبغي أن يكون عليه القانون في المستقبل (نظرية التشريع). 

هذا ويرى بعض الباحثين أن نشأة القانون وتطوّره مر بأربعة مراحل هي: 
المرحلة الأولى: مرحلة القوّة والانتقام الفردي عندما عاش الإنسان الأول في جماعات صغيرة متضامنة ومنفصلة عن غيرها من الجماعات الأخـرى.

وحتى تدافع تلك الجماعات عن نفسها، كانت القوة (The Force) هي التي تنشئ الحق وتحميه، فقامت العلاقة بين هذه الجماعات على التبعية والخضوع لرئيس القبيلة ذو السلطة المطلقة، فكان يوقع على الفرد المعتدي العقاب أو على أسرته، ثم أصبح توافقيا (Consensual)، أي باتفاق الجماعـة. 

ومن صور العقاب طرد الجاني من الجماعة أو القصاص، أو تسليمه لأهل المجني عليه؛ وبتطور المجتمعات لجأ رؤساء الجماعات إلى الكهّان ورجال الدين لحل المنازعات فازدادت قوتهم حكماً وإلزاماً وبذلك حلّت العقوبة بالتحكيم (Arbitration) محل الانتقام الفردي (Individual revenge). 

المرحلة الثانية: مرحلة التقاليد الدينيّة: وفيها عبد الإنسان آلهة مختلفة، كالظواهر الطبيعية، وكان يخشى غضبها، وكان الكاهن يتولى القيام بالشعائر الدينية وبالتالي أصبحت معظم الأحكام تُنسب للآلهة مما أكسبها قوة الإلزام. 

المرحلة الثالثة: مرحلة التقاليد العرفيّة: بقيت التقاليد الدينية سائدة زمناً طويلاً وبفضل تطور المجتمعات حل محلها الأعراف والتقاليد وبذلك نشأ الحكم الديمقراطي، وهو حكم الأغلبية، فأصبحت الأحكام تصدر باسم الشعب.

المرحلة الرابعة: وهي مرحلة تدوين القانون (Codify law) وذلك بعد اكتشاف الكتابة وتدوين المجتمعات لقوانينها السارية.
كما صاحبت فكرة الجزاء فكرة القانون من نشأته في شكل أعراف، وتطوّر مفهومه على مر العصور حتى استقراره في معناه الحديث.
ففي العصور الغابرة حيث كانت تنعدم فكرة السلطة العامّة المتمثلة في الدولة، كانت كل جماعة مستقلة بأعضائها عن أخرى، لا تخضع في علاقتها وصلاتها بالجماعات الأخرى لقيد ولا نظام أو حكم سوى حكم القوة (2) أما داخل الجماعة حيث كانت الأسرة وكان النظام الأبوي قائماً، فكان أعضاؤه يخضعون لسلطة رب الأسرة أو رئيس العشيرة، وكل غريب عن هذه العشيرة كان يعد عدواً يحل قتله.
وكان الاعتداء لا يجلبُ على صاحبه وزراً ولا عاراً، بل كان السلب مسلكاً شريفاً ومبعثاً للفخر، والانتقام واجب تحتّمه المروءة. 
ولمّا كان الفرد غير مستقل بحقوقه وواجباته لان شخصيته كانت مندمجة في شخصية الجماعة، فان كل اعتداء على عضو من أعضائه يعتبر وكأنه واقع على الجماعة نفسها، فتهب بأجمعها للأحد بالثار، ويتحمّل أفرادها جميعاً تبعيّة الاعتداء، ويتضامنون جميعاً في المسؤولية مع أسرة المجني عليه، فكل جماعة كانت تعيش على تضامن مشترك يجعل منها كتلة واحدة إيجاباً وسلباً، يشترك جميع أعضائها في الحقوق ولكلٍ منهم أن يطالب بحق أخيه أو بثأره، ويلتزم كل منهم بمسؤولية أخيه فيتحمل تبعة فعله. (3)
ومع تطوّر المجتمعات، حُصر الأخذ بالثأر في جرائم الاعتداء على الأموال كما في السرقة مثلاً، فقد كانوا يلزمون السارق برد المال المسروق لمالكه كنوعٍ من الردع في تطبيق الجزاء.

ثم وجدت الجماعة أن من مصلحتها حقن الدماء وعدم الاحتكام إلى القوّة مدفوعة إلى ذلك بغريزة البقاء وحب العيش، فظهر نظام التصالح و التحكيم (Conciliation and arbitration system) وكان التصالح يتم بين المنازعين دون وساطة أحد أو نتيجة لتدخل وسيط بينهما. 

ثم ارتقت الجماعات خطوة أخرى وألفت الاحتكام إلى شخص أو أكثر يختاره المتنازعان، وكان يتم التصالح عن طريق تسليم الفاعل إلى المعتدى عليه أو عشيرته إرضاءً لها، أو عن طريق دفع الجاني أو أسرته مبلغاً من المال إلى المجني عليه أو أسرته تعويضاً عن الضرر الذي لحق بهم، وهو ما يعرف بنظام الديّة التي نشأت اختيارية فأصبح رئيس القبيلة هو الذي يقرر مقدار مبلغ الديّـة، وهذا النظام هو بدعة رائعة من بدع الذكاء البشري، ومظهرٌ نبيل من مظاهر الليونة والرحمة اللتين تسللتا إلى النفوس، ودفع من يثق بهم المتخاصمان إلى التدخل قبل استفحال الشر لأن السلطة العامة لم تكن آنذاك موجودة، أو كانت عاجزة عن فرض أوامرها ونواهيها.
وبظهور الدولة كسلطة عامّة اندثر نظام العدالة الخاصة، وأصبحت هي الساهر الأمين على نظام العدالة، بما تملك دون سواها من وسائل الإكراه المادي، وتوقيع الجزاء على كل من يخالف القاعدة القانونية بواسطة مرفق القضاء كسلطة عامة تابعة لسلطـة الدولة بمفهومها الحديث.
بقلم المستشار / أحمد المبيض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يقول العلامة أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون في مقدمته: أن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن أبناء جنسه حيث: أن الاجتماع الإنساني ضروري فالإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية، وهو معنى العمران.
(2) د. الطيب الفصايلي، الوجيز في المدخل لدراسة القانون، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 1993م، ص 88 وما بعدها.
(3) أنظر في ذلك تفصيلا: 
أميل بجاني، القانون الروماني (عصوره –مصادره-أصوله)، بيروت، 1984م
كذلك: د.أحمد إبراهيم حسن، تاريخ القانون المصري في العصر البطلمي مع دراسة في القانون الروماني، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1999م.
نجاة بضراني، مدخل لدراسة القانون مطبعة النجاح الجديدة ،الدار البيضاء، 2001م.
د. محمد عبد الهادي الشقنقيري، مذكرات في تاريخ القانون المصري، دار الفكر العربي، القاهرة، 1977م.

تاريخ, التشـريعات, والنظـم القانونيّـة, في فلسـطين


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع