القائمة الرئيسية

الصفحات

تاريخ التشريعات والنظم القانونية في فلسطين - (1)


تتجلّى أهمية دراسة تاريخ التشريعات والنظم القانونية على أرض الرسالات، فلسطين، من حجم ما تعاقب عليها من الشرائع والوصايا والألواح والمدوّنات والرسالات والقوانين والأوامر، بدأت بمن سكنها من شعوبٍ وأعراق ونُظم، شملت: الكنعانيون – اليبوسيون – الفلسطينيون – العبرانيون – البابليون – الفرس – الآشوريون – التدمريون – المصريون - الرومان – الأنباط - الفتح الإسلامي – الأمويون – العباسيون – الصليبيون – المغول - المماليك – العثمانيون – الخديويون – الانجليز – الأردنيون – الإدارة المصرية – الإسرائيليون – السلطة الوطنية الفلسطينية.

ولم يكن غرضي من وضع كتابي (تاريخ التشريعات والنظم القانونية في فلسطين) دراسة تأريخ القانون في فلسطين، وليس مجرد تصنيف نظم الشرائع والمدونات القديمة التي تعاقبت على أرض كنعان "فلسطين التاريخية"، بل البحث في الأسباب التي أدت إلى نشوئها وتطورها أو جمودها وزوالها، كالعضو الذي إن لم يستخدم، يضمر.

إذ لو اقتصر غرضي على ذلك، لفقد مؤلفي كل صبغة علمية، لأن الظواهر القانونية تتأثر بالظروف الاجتماعية، ويعتبر القانون ثمرة لتطور المجتمعات، ونتيجة لعوامل عديدة ومختلفة، جغرافية وسياسية واقتصادية ودينية وفكرية، ومن ثم فإن القانون لا يعتبر حادثة من حوادث المصادفة، أو نزعة عرضية من نزعات شرّاعه، يفرضون بها مشيئتهم كيفما شاءوا على الجماعة.

فعلى سبيل المثال، كان الحمل سفاحاً سواء ممن لم يتزوجن من البنات أو ممن تزوجن منهن يغتفر أحياناً في قوانين الفرس التي سادت أرض فلسطين في السنوات التي تلت 586 ق. م إذا لم تجهض الحامل نفسها، ذلك أن الإجهاض كان في تقدير تلك القوانين أشد جرماً من سائر الجرائم، وكان عقابه الإعدام.

ومثال آخر، كان يباح للزوج في فلسطين أثناء خضوعها للإمبراطورية الرومانية، وسريان القانون الروماني على سكانها بصفتهم رعايا يحملون جنسية روما، أن يعير امرأته لآخر, ومن ناحية أخرى كان يعاقب الزوج الذي لا يقاضي امرأته إذا اتهمت بالدعارة أو الذي يسترد زوجته بعد الحكم عليها بجرم الدعارة. 

لعل البعض يقول أن هناك تناقضاً ظاهرا بين هذه القوانين, بينما يرى " مونتسكيو " أنها غير متعارضة على الإطلاق(1)، 
لأن القانون الفارسي الذي كان يبيح الحمل سفاحاً للبنات أو المتزوجات كان نظاما اجتماعياً خاصا صاغه زرادشت، الذي لم يشجع البنات على أن يظللن عذارى، ولا العزاب على أن يبقوا بلا زواج، وأباح التسري وتعدد الزوجات، ذلك بأن المجتمعات الحربية القديمة وقتها كانت في حاجة ماسة إلى كثرة الأبناء لتجييشهم، بغض النظر كيف جاءوا إلى هذه الحياة.

وفي الثانية، لأن القانون الذي كان يبيح للروماني إعارة زوجته هو نظام إسبارطي وضع لمنح الإمبراطورية أولاداً من جنس جديد، بينما لم يهدف إلى حفظ الأخلاق.

ومن ثم كان القانون الأول قانوناً سياسياً، أما الآخر فكان قانوناً مدنياً.

ففي ظل المفاهيم السائدة آنذاك – من أخلاقية وسياسية – أبيح الفعل نفسه في حالة، وجرّم في حالة أخرى, فانعكست هذه المفاهيم في النظر إلى مشروعية الفعل من عدمها.

هذا ما يمكننا من القول بأن القانون هو وليد الفكر البشري، وظروف التاريخ الغابر، يختلف باختلاف البيئة والجيل تبعاً لتغير الفكر البشري والبيئة الاجتماعية وبتأثير من هذه الظروف والعوامل مجتمعة.

فكان لكل شعب نظم قانونية تتناسب من حيث الرقي والانحطاط مع المستوى الحضاري الذي وصلت إليه الجماعة، وتتفق مع الفكر السائد في ذلك العصر.

ودراسة هذه العوامل والظروف، واستخلاص المبادئ التي تخضع لها التشريعات والنظم القانونية في نشوئها ونموها وتطورها واتساع أحكامها، هو الغرض الرئيس الذي ينشده العلم القانوني من الدراسة التاريخية التي آمل أن تمثل لبنة أساس في بناء الوعي القانوني الجديد .

يراد بالتأريخ تعريف الوقت، فيقال: أرخ الكتاب، وأرَخه، وآرخه: وقَّته، أي بين وقته؛ وعلم التاريخ يتضمن ذكر الوقائع وأوقاتها وما جرى فيها من أحداث، وما كان لها من اثر في حياة الناس، وتاريخ علم من العلوم أياً كان نوعه يشمل نشأة هذا العلم، ومراحل تطوره، وحياة رجاله، وما قدموه من نتاج فكري لخدمة هذا العلم والنهوض به.

وتاريخ العلوم على وجه الإجمال يأتي عرضا، في كتب التاريخ العام، أثناء ذكر الوقائع والحديث عن مشاهير الرجال، والتعريف بالحالة العلمية والفكرية في عصر من العصور.

أما استخلاص هذا وتنسيقه وترتيبه ترتيباً علمياً ليكون فناً من الفنون، له موضوعه وقواعده وفوائده، فانه لم يجد عناية كافية حتى يفرد كل علم بتاريخ له في بحث منهجي متكامل.

وهذا لا يعني أن يكون السابقون قد اغفلوا تاريخ العلوم من مناهج بحثهم, فان بعضهم تحدث عنها ولكنه حديث مجمل، لا يفي بالغرض المقصود، وقد افرد ابن خلدون في مقدمته الباب السادس للحديث عن العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه، وسائر وجوهه, وما يعرض في ذلك كله من الأحوال . (2). 

فلا يتوهم البعض بأن دراسة تاريخ القانون ما هي إلا مضيعة للوقت، وبحثا عن ماض انقضى لا رجعة له، أو اجترار لمجد أفل سطوعه.

وحينما نطلع على أي بحث ناجح أو دراسة موثقة لا بد أن نلاحظ مكان الدراسة التاريخية في مقدمتها، وهذا ليس من باب العبث، كون ما سيأتي من دراسة لاحقة باتجاه الحاضر أو المستقبل لا بد أن يستند إلى الجذور التاريخية التي تسعف الدراسات الحاضرة بتجربة الأمس، لأن الماضي إذا انقضى فانه لا يموت، بل يستمر في الحاضر، مهيئا له الأسباب للاستمرار في المستقبل، والصلة بينهما تشبه نسغ النبات الذي يحمل الغذاء من أعماق الجذور الضاربة في عمق الأرض، ليمد البراعم الجديدة بما تحتاج، ويهيئ معها أسباب الحياة للبراعم التي ستتفتح مستقبلا، لتستمر عجلة الحياة بالدوران، في ديمومة النمو والعطاء المتصل (3) .

لم أقصد بتاتا من وضع هذا الكتاب إثبات تطور التشريعات والنظم القانونية في فلسطين عبر العصور، فهذا أمر مشهود، ولا يحتاج إلى إثبات، بل كان غرضي هو تعريف القارئ بمجمل الأسباب والظروف والعوامل المختلفة التي ساهمت في دفع هذا التطور، وساعدت على انتشاره من مجتمع إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، كذلك، تتبع الصلات التي تربط الظواهر القانونية في عصورها السحيقة الأولى، وهي عصور موغلة بالقدم، مع ما يقابلها أو يشابهها أو يناقضها في تشريعاتنا المعاصرة، كي يتمكن المطلع على كتابنا من عقد المقارنة العلمية بين الأمس واليوم، لا من أجل معرفة الماضي فقط، بل من أحل الاستفادة منه لخدمة الحاضر، ورسم صورة المستقبل المنشود، في حياة تزداد تعقيدا يوما بعد آخر، وتحتاج من التحضير للغد وحساب مداخلاته ومشكلاته (4).
بقلم: المسـتشار / أحمـــد المبيض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الوقت الذي اعتبر فيه مفكرو العصر الوسيط القوانين ذات صفة غائبة ومعيارية لا تمثل قواعد العمل والسلوك التي طبعت الحياة الاجتماعية حينذاك لأنها كانت ذات صفة وأحكام مثالية وأنها قامت على أسس قبلية، أي مسبقة وأزلية، إلا أن المحدثين منهم أعطى لتلك القوانين صفة اجتماعية، وربطها بالبيئة الطبيعية والخلقية، واعتبرها ظواهر اجتماعية متغيرة وان الإنسان هو العنصر الفعال فيها، وعلى رأس هؤلاء جارلس مونتسكيو، الذي ادخل فكرة اجتماعية القوانين إلى العلوم الاجتماعية، ورأى بأن القوانين هي أساس تنظيم المجتمع وتوزيع الحقوق والواجبات على الأفراد، وبان "القوانين هي العلاقات الضرورية التي تصدر عن طبيعة الأشياء"، معطيا ولأول مرة تعريفا اجتماعيا للقوانين باعتبارها ظواهر اجتماعية مكتسبة ونسبية وتتوقف على البيئة الجغرافية والمحيط والظروف والعوامل الأخلاقية.
وقد انطلق مونتسكيو في تعريفه للقوانين من كون أن النظم التشريعية، ومن ضمنها القوانين، إنما تستمد أسسها من طبيعة الناس ومن بيئتهم الطبيعية والاجتماعية، فالقوانين هي ظواهر اجتماعية تظهر نتيجة لتفاعل عناصر مختلفة كالطبيعة والجغرافيا والمناخ والأخلاق والظروف الاجتماعية.
والقوانين في رأي مونتسكيو ما هي إلا ظواهر طبيعية وسياسية ترتبط بنظام الحكم وأشكال السلطة التي تشرع تلك القوانين.
فالقوانين التي تسود في الحكم المطلق تقوم على مبدأ الخوف والتسلط، والقوانين التي تسود في الحكم الملكي تقوم على الشرف، أما القوانين التي تسود في الحكم الجمهوري فتقوم على الفضيلة، التي هي المساواة والقناعة في توزيع الحقوق والواجبات على الأفراد.
(2) مناع القطان، تاريخ التشريع الإسلامي – التشريع والفقه, مكتبة المعارف، الرياض – العربية السعودية، الطبعة الثانية, 1417 هـ - 1996 م.
(3) د. صاحب الفتلاوي، تأريخ القانون، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان – الأردن، الطبعة الأولى 1998م، ص 5.
(4) د. عبد السلام الترمانيني، الوسيط في تأريخ القانون والنظم القانونية، جامعة حلب، الطبعة الأولى 1990م، ص 8 وما بعدها.

تاريخ, التشريعات, والنظم القانونية, في فلسطين


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع