القائمة الرئيسية

الصفحات

خالد المالكي.. أحد الرواد القلائل للمدرسة العلمية في تفسير النص في سوريا

بقلم المحامي عارف الشعال

قبل أن يسمى وزيراً للعدل بستة سنوات، كان المرحوم "خالد المالكي" رئيساً لمحكمة الصلح المدنية الثانية بدمشق، وإلى تلك الأيام ترجع بدايات نشوء المكانة الرفيعة التي احتلها في وجدان أهل القانون، حيث لفتَ الأنظار إليه بفهمه العميق للقانون، وحسه المرهف للعدالة، وتعامله مع النصوص من منطلق البحث عن قصد المشرع، وروح القانون، وهو ما يطلق عليه فقهاء القانون المدرسة العلمية في التعامل مع النص، والتي ترى أن التفسير يجب أن يتجه إلى التعرف على إرادة المشرع الحقيقية وقت وضع النص باعتبار أن التشريع قامت به إرادة واعية تهدف لتحقيق غاية معينة، (د. عبد المنعم فرج الصدة – أصول القانون - ط 1972 – دار النهضة العربية – ص 273)
خالد المالكي.. أحد الرواد القلائل للمدرسة العلمية في تفسير النص في سوريا

ففي مستهل عام 1974، (كان سنه 31 عاماً) تلك الفترة التي شهدت الغلوّ والتشدد بتطبيق أحكام قانون الإيجار الاستثنائي المنحاز لصالح المستأجر، عُرضت عليه قضية "تخمين" ظاهرها بريء، وباطنها خبيث، فأصدر فيها حكماً شهيراً، اجتهد فيه وكرّس مبدأً قانونياً (عرف فيما بعد بعقد الاصطياف) ممتنعاً عن تطبيق قانون الإيجارات، وأخضع العقد موضوع تلك القضية للقواعد العامة لعقد الإيجار في القانون المدني، وأقرت محكمة النقض هذا الاجتهاد بعدما طعن فيه المحامي العام نفعاً للقانون، 

فبالرغم من عدم وجود نص صريح في القانون يعالج هذه الحالة، ولكن الأستاذ المالكي خالف ظاهر نصوص قانون الإيجارات مستنبطاً قصد المشرع من وراء التشريع الاستثنائي.

حيث استأجر شخص منزلاً في دمشق لمدة ثلاثة أشهر بغرض الاصطياف، وسارع مباشرة لإقامة دعوى تخمين مأجور يرمي من ورائها لتثبيته مستأجراً خاضعاً للتمديد الحكمي لعقد الإيجار ولقواعد تحديد الأجرة المتدنية، مستغلاً أحكام القانون التي تقف لجانبه، والتي يمكن أن يتسبب تطبيقها بنتائج كارثية على المؤجر المسكين الذي اضطرته الحاجة الماسة لتأجير منزله، فرفض الأستاذ المالكي الدعوى بقرار رائع، اعتبر فيه أن المستأجر لغاية الاصطياف، والتي تعتبر رفاهية، لا يعتبر طرفاً ضعيفاً في العقد يستحق حماية قانون الإيجارات الاستثنائي،

((ننشر القرار كاملاً لنستمتع بالسبك المحكم للحيثيات التي مهّدت للنتيجة التي خلص إليها القرار- علماً أنه منشور في ملحق الجزء الخامس من التقنين المدني للاستانبولي))

ومن الملفت للنظر أن القرار صدر خلال مدة العقد الوجيزة، بعد شهر وتسعة أيام من إبرام العقد، وهي مدة قياسية، مما يؤشر على منح جلسات متقاربة، وهذا يدلُّ على الجدية الكبيرة التي أولاها المرحوم للقضية، ولم يحاول التهرب منها بإطالة أمد التقاضي بإجراء كشف، أو إعطاء جلسات متباعدة،

ومن الملفت أيضاً أن المستأجر، أدرك عقم محاولته استغلال التشريع الاستثنائي فلم يطعن بالقرار، مما دعا المحامي العام آنذاك للطعن به نفعاً للقانون ليرى موقف محكمة النقض من هذا المبدأ الفريد، وهذا الطعن يدل على حياة قضائية سليمة في تلك الأيام.

((كانت القرارات الصادرة عن محكمة الصلح آنذاك تصدر بالدرجة الأخيرة، وتقبل الطعن بطريق النقض فقط، إلى أن تم تعديل قانون أصول المحاكمات عام 1979 وأصبحت تقبل الطعن بالاستئناف فقط، وفي العام 2001، أعاد المشرع رقابة محكمة النقض على القضايا الإيجارية بموجب قانون الإيجارات رقم 6 كما هو معروف))

تلقفت محكمة النقض القرار برحابة صدر وأيدت الاجتهاد الذي جاء فيه وتكرس المبدأ فعلاً بعد هذا القرار طيلة عقدين تقريباً حيث صدر قانون أواخر الثمانينات يعتبر العقد لغاية الاصطياف مؤقت ويستثنى من أحكام قانون الإيجار.

بعد ذلك ترقى الأستاذ المالكي لقاض بدائي، ثم مستشار في محكمة الاستئناف، وكان نهجه دائماً في الأحكام التي يصدرها، تلمس روح القانون وغاية المشرع من وراء النص، (المدرسة العلمية) وكان يمقت كثيراً رحمه الله من يتبع المدرسة الأخرى التي تُدعى في الفقه (مدرسة الشرح على المتون) وكان يطلق عليهم، "مدرسة عبيد النص".

وقد أصدر في تلك الفترة كتابه الشهير "قاضي الأمور المستعجلة" ضمنه في القسم الثاني نماذج عملية لأحكام قضائية مستعجلة، (أصدر بنفسه هذه الأحكام)، تعتبر أحكاماً متقدمة في الجرأة، والعدالة والفهم القانوني العميق لوظيفة قاضي العجلة.

ثم عيّن عضواً في إدارة التشريع وكانت فترة ذهبية في حياته القانونية سمحت له بالاطلاع الواسع على كمية كبيرة من التشريعات والشروحات الفقهية والاجتهادات القضائية،

بعد ستة سنوات من القرار الشهير عن (عقد الاصطياف) كان نجمه قد لمعَ من بين القضاة المتميزين الذين يحظون بشهرة واحتراماً واسعين بين أهل القانون، الأمر الذي ساهم بتسميته وزيراً للعدل يوم (14 كانون الثاني 1980)، وكان سنه آنذاك 36 عاماً، فهو من مواليد (5 أيار 1943).

وبذلك خسرت المؤسسة القضائية، قاض فذّ متميز، ربما لو استمر في منصبه يحكم بين الناس، لكانت له اجتهادات وآثار قانونية تعتبر ثروة نحن بحاجة ماسة إليها.

ومن مآثره التي حدثني عنها بلسانه حينما كان قاضياً للصلح، عرضت عليه قضية إخلاء لعلة التملك، ولكن المستأجر لم يكن يملك منزل مستقل صالح للسكنى ولكنه يملك حصصاً عقارية كثيرة في عقارات سكنية، بالإضافة لملكية عقارية تجارية تدل على ملاءة مادية كبيرة (أعتقد أنه تاجر البناء الشهير "الجراقي" مالك البناء المعروف بطريق الصالحية).

فقبل الدعوى وحكم بإخلائه من المأجور معتبراً إياه من المستأجرين الذين لا يعتبرون طرفاً ضعيفاً بالعقد، نظراً لملاءته المادية، ولأن تقاعسه عن الخروج من الشيوع وتحرير الحصص العقارية الكثيرة التي يملكها في عقارات سكنية، يعتبر تعسفاً منه باستعمال الحق، القصد منه استغلال حماية القانون والبقاء مستأجراً.

وقد صدّقت محكمة النقض قراره حينها مقتنعة بما ذهب إليه من حيث النتيجة ولكنها لم تورد أية حيثيات في قرارها، مكتفية بعبارة: (حيث أن أسباب الطعن لا تنال من القرار الطعين، تقرر رفض الطعن)، وعندما استفسر من الهيئة عن سبب اكتفائهم بهذه العبارة المقتضبة بدعوى فيها اجتهاد فريد، قيل له أنهم بالرغم من اقتناعهم بعدالة القضية، ولكنهم لا يريدون تكريسه مبدأً قانونياً، خشية إساءة استخدامه بدون معايير واضحة.

رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه، كان من خيرة رجال القانون.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع