القائمة الرئيسية

الصفحات

دراسة قانونية بعنوان نظام الحكم الشمولي

بقلم : أ.د. حكمت شبر . استاذ القانون الدولي العام. 

دراسة قانونية بعنوان نظام الحكم الشمولي


يمكن ان ما حصل هو أن الزعماء الذين تولوا الحكم وما زالوا يعمدون إلى تطبيق القوانين الاستثنائية التي تكمم الأفواه وتقيد الحريات، وعمدوا إلى إقامة السجون بدل الجامعات والمؤسسات العلمية والصحية والاجتماعية، فهذه سورية ومنذ عام 1963 وحتى الوقت الحاضر تطبق قانون الطوارئ بقيادة حزب البعث الذي قضى على معارضيه بقتلهم أو وضعهم في السجون وملاحقة أبناء الشعب السوري وعدم فسح المجال أمامهم لينالوا ما يستحقون من الحقوق وفقاً لقواعد ومبادئ حقوق الإنسان العالمية بل حتى رئاسة الجمهورية والحكم أصبحت وراثية في الجمهورية العتيدة وصرنا نطلق تسمية الجمهوريات الملكية على هذه الدول التي تبنى رؤساؤها طريق التوريث لأبنائهم، كما نلاحظ ما يفعله الرئيس حسني مبارك من تهيئة نجله لرئاسة الحكم وكذا فعل ويفعل الرئيس القذافي.


ولم يسلم لبنان من حكم سوريا الدكتاتوري الذي تمثل بقتل المعارضين اللبنانيين والقتل والتنكيل بزعمائهم مثل كمال جنبلاط و الحريري مما استدعى أن يتدخل مجلس الأمن في تدويل قضية مقتل الحريري ويشكل لجنة برئاسة (ميليس) للتحقيق في القضية وجلب من ارتكبها للعدالة بغض النظر عن كونه مسؤولاً عسكريا أو مدنياً من السوريين، ولا زالت هذه القضية تتفاعل مما يهدد باتخاذ مجلس الأمن عقوبات اقتصادية وقد تتطور إلى عسكرية في حالة إصرار الحكام في سوريا على عدم تعاونهم وإمعانهم في اضطهاد شعبهم ومساعدتهم للإرهاب في العراق المتحرر حديثاً من نير الدكتاتورية والنظام الشمولي الصدامي.

ومن أيشع وأقسى النظم الشمولية نظام القذافي رئيس ما يسمى بالجمهورية الاشتراكية الليبية العظمى.

ولعله يتصور بأن التسميات (الاشتراكية) أو (العظمى) تحجب عن حكمه صفة الدكتاتورية وتمنحه شهادة بالعدالة والحق. فقد ارتكب هذا الزعيم من الأعمال الموصوفة بالإرهابية الكثير. ولعل من أبرز ما قام به في هذا المجال هو تآمر نظامه لإسقاط الطائرات المدنية كما حدث للطائرة الأمريكية التي أسقطت في (لوكربي) وتم قتل جميع ركابها وكذلك الطائرة الفرنسية التي سقطت في إحدى الجمهوريات الأفريقية. ولم يعترف القذافي ونظامه بهذه الجريمة وقد سميت من قبل الصحفيين العرب (لوكربي ـ القادسية) سخرية من القذافي ومن قادسية صدام. وعمد مجلس الأمن إلى فرض العقوبات الاقتصادية على ليبيا، وقد فرضت الولايات المتحدة من جانبها أنواع العقوبات على ليبيا.


وقام مجلس الأمن بتشكيل محكمة دولية لمحاكمة مسؤولي المخابرات الليبية في هذه القضية وقد حكم على أحدهما بالإدانة لارتكابه هذه الجريمة وبالحكم مدى الحياة وهو يقضي الحكم في سجنٍ خاص في اسكتلنده.


ومن مهازل القدر أن يقوم القذافي بعد ذلك الإنكار والتشدد في سياسته الخارجية وعدم اعترافه بارتكاب هذه الجرائم بتعويض عوائل المنكوبين في حوادث الطائرتين، وقد بلغت قيمة التعويضات مليارات الدولارات، فأية سياسة حكيمة لرأس هذه الدولة (العظمى)؟! ولن ينسى العالم ما ارتكبه القذافي من تبذير لموارد ليبيا النفطية، التي استخدمها في دعم الإرهاب الدولي في العديد من دول العالم. فقد موّل الحركات الإرهابية في إيرلندة مزوداً الجيش الايرلندي السري بالمال والسلاح وجعل سفاراته مراكز للمخابرات ودعم الإرهاب، حتى أن أحد أعضاء سفارته في لندن قتل شرطية بريطانية، في المظاهرات الاحتجاجية ضد ليبيا. وهل يمكن للعرب أن يتناسوا ما قام به القذافي من تحريض الإرهابي الدولي (ماركوس) لخطف وابتزاز وزراء النفط الأوبك المجتمعين في فينا، وهل نحتاج إلى دليل آخر لفضح سياسة هذا الزعيم الذي ابتلي به شعبه كما ابتلي به العالم والعرب. وقد بلغت جرائمه ذروتها عندما اغتال ضيفه موسى الصدر ومرافقيه وأنكر هذه الجريمة.

ومن الأمثلة البارزة على النظم العربية الشمولية نظام الحكم السوداني، الذي توالى على حكمه انقلابيون قتلوا زعماء المعارضة وشنوا حرباً شعواء على جنوب السودان امتدت إلى أكثر من 20 عام قتل خلالها وشرّد الملايين من المواطنين. وما زال لحد الآن ـ على الرغم من المصالحة مع زعماء الجنوب ـ تجري في دارفور أعمال القتل والاغتصاب والتعذيب، فقد بلغ عدد القتلى أكثر من (300000) مواطن على أيدي الجنجويد وتمّ تشريد مئات الآلاف مما اضطر مجلس الأمن إلى إحالة قضايا الجنجويد إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي لمقاضاتهم وإنزال العقوبات بهم وبمن ساعدهم وحرّضهم على ارتكاب هذه الجرائم البشعة بحق مواطنين مسالمين تعرضوا إلى جرائم الإبادة المحرمة دولياً. 

هذه بعض الأمثلة من جرائم النظم العربية الشمولية ولا تقل بشاعة عن هذه الجرائم ما يرتكب يومياً بحق الآلاف من الشعوب العربية من قبل حكامهم المعنيين بسياسة القتل والاضطهاد للاحتفاظ وتدعيم حكمهم الشمولي المطلق.


إن أبشع صور النظم الشمولية هو نظام البعث الذي حكم العراق 355 عاماً بقيادة زعيم لم يعرف يوماً معنى الإنسانية. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن هذا النظام ليس له شبيه في الوقت الحاضر أو حتى في تاريخ الإنسانية من حيث التنكيل والقتل والإبادة الجماعية والتشريد الجماعي والتحكم المطلق من قبل رأس النظام، فلم نرَ جرائم بشعة في عهود احتلال العراق من الفرس و الإسكندر المقدوني والمغول والعثمانيين حتى العهد الحاضر مثل ما عرفه العراق على يد هذا الحاكم الذي لم يتورع في ارتكاب كل ما في جعبته من وسائل لقتل وإرهاب الشعب.


ولا يمكن مقارنة هذا النظام بالحكم المطلق إبان تكوين الدول القومية في أوربا، فقد تجاوز نظام صدام كل ذلك، فلم يكن الملوك أو الحكام الفاشيون كهتلر و موسوليني يضطهدون ويقتلون شعوبهم بما يشبه الإبادة وإنما كانوا يشنون الحروب على الدول الأخرى بغية تقوية نظمهم وزيادة ثرواتهم. لكن النظام الشمولي العراقي عمد منذ استلامه الحكم في عام 1968 إلى تسليط أجهزته القمعية ضد جميع معارضيه مستعملاً وسائل الاغتيال والتعذيب والاغتصاب، حتى إذابة أجساد معارضيه في أحواض التيزاب. فقام بتصفية جميع الأحزاب وقادتها اليمينيين واليساريين ولم ينجُ من حكمه حتى قادة حزب البعث، الذي كان لهم بعض الرأي فيما يجري من أحداث.


فقد تصرف هذا الرجل بالعراق كاملاً ولم يُثنِه ما ندعوه بسيادة الأمة ومؤسساتها، فوهب في عام 19755 نصف شط العرب في معاهدة الجزائر لإيران دون علم ودراية الشعب العراقي في سبيل أن يقضي على ثورة الشعب الكردي المطالب بحقوقه في الحكم الذاتي ومساواته بإخوانه من عرب العراق، كما وهب الأردن منطقة حدودية كبيرة (الرويشد) والسعودية منطقة الحياد وكان حتى نهاية عهده يتصرف بالأموال والثروات العراقية وفقاً لمصالحه الشخصية، فالكل يعلم أن 5% من حصة النفط التي كانت لـ (كولبنكيان) جيّرها لنفسه وكانت توضع في حساباته وعائلته في سويسرا وغيرها من الدول الأوربية ملكاً خالصاً لهم، ولا زالت فضيحة كوبونات النفط إبان الحصار، الذي اشترى عن طريقها الكثير من الشخصيات السياسية والدبلوماسية العربية والأجنبية بدون أن يعلم أبناء الشعب العراقي بمثل هذه التصرفات التي لجأ إليها بغية تدعيم نظامه، في الوقت الذي كان يموت فيه أطفال الشعب العراقي جوعاً ومرضاً.


ومن أفظع ما لحق بسيادة العراق من آثار مدمرة لعناصر هذه العصابة التي جرّت الويلات على أهل العراق، الحروب الثلاث التي خاضها صدام حسين ضد جيرانه مما تسبب في النهاية لخضوع العراق كاملاً للاحتلال نتيجة تصرفاته وحماقاته. وسأبحث بالتفصيل في جناية هذه الحروب والآثار المدمرة التي لحقت بنا.


وقبل دخول العراق الحرب ضد إيران لابد لنا أن نلقي الضوء على الخطوات السابقة لذلك، إذ مهّد رئيس النظام العراقي البائد بتمزيق معاهدة الجزائر أمام ما كان يدعى بالمجلس الوطني مدعياً أن إيران خرقت تعهداتها بموجب اتفاقية الجزائر لعام 1975.


غير أن الحقائق التي ظهرت آنذاك تكذب ادعاءاته حيث أراد الانتقام لكرامته المهدورة من قبل شاه إيران فقد اضطر إلى التوقيع على المعاهدة نظرا لضعف موقفه آنذاك. وكان في تصوره أن الوقت قد حان لأنهاء المعاهدة نظراً للفوضى التي عمّت إيران بعد نجاح الثورة الإسلامية بقيادة الخميني.


ولكن هل تجيز قواعد القانون الدولي ونصوص اتفاقية الجزائر إلغاء الاتفاقية من طرف واحد؟ الجواب كلا فقد قضت اتفاقية جنيف للمعاهدات بقدسية واحترام اتفاقيات الحدود بين الدول لأن عدم الالتزام يؤدي إلى منازعات خطيرة تعرض السلم الإقليمي والدولي للخطر. كما أن الاتفاقية المذكورة تحيل إلى طرق عديدة لفض النزاعات الطارئة بتفسير أو تجاوز أحد الأطراف، حيث تفرض على الطرفين المتنازعين اللجوء إلى التحكيم أو محكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن لفضّ النزاع القائم بين الطرفين. لكن تصرف الرئيس العراقي كان خروجاً عن قواعد الاتفاقية وقواعد القانون الدولي منطلقاً في ذلك من عنجهية وغرور كبير لا يليق برئيس دولة يتعامل مع الدول الأخرى في محيط العلاقات الدولية إذ إنه لم يلجأ حتى إلى مشاورة السياسيين والعقلاء من أبناء الشعب العراقي لاتخاذ مثل هذه الخطوة الخطرة على مصالح العراق والدول المجاورة، وهذا ما حصل فعلا فقد استمرت الحرب العراقية التي بدأها رأس النظام العراقي مدة ثمان سنوات. وقد دخل الأراضي الإيرانية بدون إعلان الحرب المتّبع في مثل هذه الحالات. فقد علمنا بأنه أمر الجيش بالدخول من سيارته حينما كان متوجها في سفرة راحة.


 وهذا ما كلف العراق وإيران والدول العربية المجاورة الكثير من الأرواح والأموال، فقد قتل في هذه الحرب أكثر من مليوني إنسان وعوّق مئات الآلاف ورملت الآلاف من النساء وهدرت أموال كثيرة تقدر بمئات المليارات، والتي كانت تحيل العراق في حالة استخدامها للإعمار إلى إحدى الجنان الوارفة الظلال.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع