القائمة الرئيسية

الصفحات

بحث الخطأ والصواب بين النص والخطاب

بحث الخطأ والصواب بين النص والخطاب
بحث الخطأ والصواب بين النص والخطاب

الحقوقي محمد عنوز

صدر مؤخراً كتاب بعنوان ( الخطاب الإسلامي والقضايا المعاصرة ) للباحث سماحة السيد حسن عز الدين بحر العلوم، تضمن مقدمة ومدخل وثلاثة فصول وكل فصل تضمن عدد من المحاور الحيوية، وكانت بالشكل الآتي :

  • الفصل الأول : العولمة والديمقراطية وموقف الخطاب الإسلامي 
  • المحور الأول : الخطاب الديني والإسلامي 
  • المحور الثاني: الخطاب الإسلامي إتجاه العولمة 
  • المحور الثالث: الخطاب الإسلامي إتجاه الديمقراطية
  • المحور الرابع: العولمة والديمقراطية
  • الفصل الثاني: العولمة وحقوق الإنسان والخطاب الإسلامي 
  • المحور الأول : حقوق الإنسان من منظور إسلامي 
  • المحور الثاني: العولمة وحقوق الإنسان 
  • الفصل الثالث: الخطاب الإسلامي بين العولمة والديمقراطية 
  • المحور الأول : توطئة 
  • المحور الثاني: موائمة الخطاب الإسلامي بين العولمة والديمقراطية 

قبل الدخول بما ذكره الباحث وما توصل إليه من نتائج، لابد من القول بأن عنوان البحث بحد ذاته له قيمة فكرية كبيرة تحمل دلالات تحفز إنتباه القارئ وتجعله يتوقف أمامها ليجد بأن الحياة متسارعة في تحولاتها وتفرض تساؤلات وقضايا عديدة لابد من تناولها والإجابة عليها إنطلاقاً من كونية الدين وارتباطه بالحياة الكونيةً، ومن ميزة هذا البحث إنه لم ينتهي إلى حد معين بل حمل في طياته تساؤلات تعني من حيث الجوهر إن الحياة متواصلة وتتطلب جهد متواصل في البحث والتفسير والتأصيل من دون الخلط والتدليس أو التسطيح، وهذا ما سار عليه البحث حيث توقف عند النص الإلهي وميّزه عن الخطاب الإنساني ( لدينا نص ... هو كل ما ثبت وروده عن الله تعالى ورسوله (ص)، وهو فوق النقد والإتهام، وهناك خطاب إسلامي، وهو ما يستنبطه ويفهمه الفقيه العالم والخطيب والمفكر والباحث من النص والخطاب الديني وهذا لا قداسة ولا عصمة له، بمعنى، أن الخطأ قد يطال ذلك الفهم والإستنباط فالمجتهد يخطئ ويصيب..... ) ص5 . 


وهنا نفضل أن يكون الحديث عن نص ديني بدلاً من خطاب ديني كما يذهب الباحث، وذلك لأن النص الديني يحضى بالقدسية ويشمل كتاب الله وسنة الرسول الكريم (ص) وأهل بيته (ع) بحكم العصمة، وكذلك النصوص الدينية غير الإسلامية ( المسيحية واليهودية ) غير المحرفة طبعاً، ونقول النص الديني الإسلامي أو النص الديني المسيحي بإعتباره ذات قدسية وبذلك لا يجوز الإجتهاد في مورده لكونه نص، أما الخطاب ديني فهو أيضاً يكون خطاب ديني إسلامي أو خطاب ديني مسيحي، لكونه يصدر من الإنسان وهو قائم الأساس على الإجتهاد في التفسير والتأويل للنص الديني، وبذلك يمكن القول خطاب إسلامي على وفق هذا المعنى، لغرض تجنب الإلتباس الذي لابد أن يحصل بين الخطاب الديني والخطاب الإسلامي، فالخطاب الإسلامي هو خطاب ديني في الأساس.


علماً أن مضمون التمييز الذي ذهب إليه سماحة السيد حسن بحر العلوم، بقدر ما هو معروف ولكن من الناحية العملية معرفته في الأوساط العامة ملتبسة بشكل جليّ، ومن هنا نتطلع إلى جهد أوسع في التركيز عليه ليكون أساس وعي الإنسان، لأنه يشكل جوهر الجدلية بين النص والخطاب، فمن خلاله نستطيع التعامل مع حالة الإلزام وحالة الإجتهاد، على إعتبار لا إجتهاد في مورد النص كما يذهب فقهاء الشريعة والقانون، ومن دون ذلك يخلق الأمر لنا إشكالية جدية إزاء الخطأ والصواب بسبب الخلط الجزافي بين النص والخطاب، أو كنتاج لقلة المعرفة السائدة، أو جراء حمية الدفاع عن الدين إلى درجة تجاوز حدود الدفاع وحججه والوقوع في جُب اللاموضوعية وهزالة الحجة مما يجلب الضرر أكثر بكثير مما يتصور المدافع من نفع يستهدفه من ذلك الدفاع غير الواعي.


إن قراءتنا لهذا الكتاب وضعتنا أمام كم كبير من المفاهيم التي يحتاج المجتمع أن يتعرف على مقاصدها الفعلية الأمر الذي يتوجب العمل على نشرها لا لسبب سوى تحقيق إستقامة في العلاقة على صعيد العبادات والمعاملات، بمعنى أن تتجلى عبادات الإنسان من خلال معاملاته، فالعبادات والمعاملات هما وحدة واحدة، فمن غير المقبول أن تكون المعاملات متناقضة مع العبادات، فجدوى العبادات نتلمسها في المعاملات، ولذلك نجد المجتمعات تقيس العلاقات على أساس المعاملات بغض النظر عن طبيعة العبادات التي يؤديها الإنسان.


كما أن المحاور والمفردات الواردة في هذا البحث نرى إنها بحاجة إلى أن تدعم بوقائع معاصرة تساعد على ترسيخ أهمية ما توصل إليه الباحث من تمييز وكشف للكثير من حالات سوء التفسير والجمود وعدم مواكبة الحياة، لذا نتطلع إلى أن يوظف الباحث جزء من وقته لجعل كل محور فصل في كتاب لما فيه من أهمية معرفية في ظروفنا الحالية. 

فمما ذكره الباحث آنفاً تصبح المشكلة الحقيقة في مجتمعنا الإسلامي أو في عموم المجتمع الإنساني هي مشكلة الخطاب وكيف يتوفر على مقومات إيصال النص ببعده الإنساني، والتي تدلل عليه الكثير من الشواهد في حياتنا اليومية.

فقد أخذنا الباحث في المحور الأول من الفصل الأول إلى نتيجة ملموسة تؤشر إلى تطور أدوات العلم والمعرفة في عالمنا المعاصر وأهمية توفير الدلائل على أصالة الخطاب الإسلامي، وهذه العملية تحتاج حسب رأي الباحث ص 29 إلى : 

  • 1- إستيعاب الواقع المعاصر من خلال المنهج العلمي والموضوعي .
  • 2- إعتماد قراءة جديدة ومنهج جديد لا يتناقض مع المنهج الموروث في معالجة الواقع المعاصر.
وفي ذات الوقت يؤشر الباحث على حالة غير موضوعية، تتسع للأسف الشديد، بمرور الزمن بحكم إبتعادها عن جوهر النص الديني بالمقياس الشرعي والبعد الإنساني وبحكم المُخاطٍب لا يتوفر على حجج متناسبة مع النص الديني وقدسيته القائم على أساس الحجة والبرهان وليس شيء أخر، وهذه الحالة غدت ظاهرة ملموسة، حيث ( يبالغ كثير من الكتاب والمفكرين الإسلاميين في خطابهم إلى الحد الذي يفقد هذا الخطاب قدرته على التأثير في الآخر، إذ يبدو وكأنه تحد مطلق لا يمكن مناقشته في عالم قائم على الجدل والمناظرة والإستشهاد بالوقائع والتجارب والخبرات والعلوم والمعارف والإكتشافات والمخترعات والتقنيات المتطورة المرئية وغير المرئية. وهذه المبالغة لا تأتي من الثقة بالنفس بقدر ما تأتي من اليقين المطلق للشخص والذي يتصوره يقيناً مطلقاً للآخر أيضاً عليه أن يتبناه ويؤمن به. وهذه اليقينية نفسها تحتاج إلى عقلانية لجعل الطرف الآخر يفكر بمدى يقينية الخطاب المطروح من قبل هذا الكاتب أو ذاك المفكر) ص 29.


وفعلاً إن الحياة تحمل لنا شواهد عديدة من الماضي البعيد والقريب في آن واحد، والتي تؤكدها لنا حالة التنافر المتجسدة في السلوك العام، حيث تبذل جهود كبيرة من قبل الكثير من المهتمين والمفكرين والباحثين في الكشف عن الجوهر الإنساني في التعايش، وقبول الآخر لا تكفيره، على إعتبار الأديان بالدرجة الأساس هي إنسانية الطابع والمنهج والأدوات. وبذلك من غير المقبول وضع سور وهمي بين المعتقدات والقيم الأخلاقية العليا لكون الأديان السماوية تشترك بذات الجوهر القيّمي وإن إختلفت بالمعتقدات بهذه الدرجة أو تلك.


وحول العولمة نجد الباحث يميز بين ما هو سائد من خطاب وتعامل مع هذه الظاهرة الموضوعية بقوله بأن العولمة ( ليست نظرية يمكن أن تقبل أو ترفض على أساس التحليل العقلي أو المحاكمة الذهنية ) ص 44، بل يذهب أكثر من ذلك لغرض الدقة والكشف عن المكون الموضوعي لظاهرة العولمة وبالتالي يحض المجتمع على البحث في كيفية التعامل معها كأدوات ومنهاج عمل دون التركيز ( على الأبعاد الثقافية ) على الرغم من أهمية تلك الأبعاد، والتي بالإمكان الحفاظ عليها بذات الأدوات والمنهاج التي جاءت بها العولمة، ولذلك يأتي تأكيد الباحث بهذا الشأن على أمر في غاية الأهمية ويحمل دلالة حرص واضحة على إعتبار ( أن التمسك بالعناصر الثقافية وحدها لا يمكن أن يحل الأزمة في العلاقة بين الإسلام وبين الفكر العالمي المعاصر. فالتمسك بالعناصر الثقافية وحدها ... يعني عزل الإسلام عن كونيته وإضعاف حججه الكثيرة والمنطقية والمقنعة ) ص45، ونحن نذهب أبعد من ذلك ونقول إن عملية التمسك بتلك العناصر ولوحدها هي ممارسة عدمية تتعارض مع جوهر الإسلام كدين، وتتناقض مع الإسلام كمنهج حياة. 
ويستمر سماحة الباحث في بحثه ليكشف عن الأراء الإيجابية والسلبية حول العولمة ومواقف الإسلاميين منها مشيراً إلى إستخدام الجانب العلمي من العولمة ومشاركة الحضارات الأخرى على وفق المشترك الإنساني بالتعايش، فالحضارة الإنسانية هي سبيكة حضارات الأمم والشعوب على مر التاريخ بإتجاه الماضي وبإتجاه المستقبل ومن دون تمييز بينها، فالحضارة هي مشترك موضوعي من دون أدنى شك، وهذا بكل الإعتبارات يجسد كبرى مقاصد الشريعة الإسلامية، ولذلك يستند الباحث على أن ( الحكمة ضالة المؤمن ) ص 67 في تأكيده على عدم وجود ( موقفاً سلبياً أو تحريماً ) من منظومة الإتصالات، منظومة المعلومات، منظومة التقنيات، وهذا تأكيد على دور العقل في حياة الإنسان، وأهمية توفير المعطيات كي يتمكن من الوصول إلى القناعات المعللة والدالة المتساوقة مع المصلحة العامة بأبعادها الخيّرة.
إن إدراك هذه الحقيقة يمهد السبيل لتعزيز وتطوير الحضارة الإنسانية بشكل واعي بكل معنى الكلمة ويضمن المشاركة الفعلية في بنائها، وهذا يمر عبر بناء الدولة التي تأخذ بنظر الإعتبار حصيلة المنتج الإنساني من الناحية النظرية والعملية في هذا المجال، والإسلام في هذا الإتجاه الإيجابي من الحضارات السابقة وليس في الإتجاه السلبي المطلق الذي يكون من الناحية العملة إتجاهاً عدمياً، حيث ( يتخوف الكثير من الكتاب الإسلاميين والقوميين من عولمة الدولة لأن ذلك يعني إقامة دولة مستمدة من إرادة المجتمع المدني من خلال عقد يفوض هيأة سياسية إقامة الدولة ونظام الحكم الديمقراطي الذي يتخذ وظيفة أساسية هي تحقيق مطالب المواطنين وحماية حقوقهم الأمر الذي يضرب شكل وجوهر الدولة في العالمين العربي والإسلامي في الصميم لأن تلك الدولة يجب أن تتبدل وترجع إلى إرادة مواطنيها مما يظهر مخاوف كثير من الكتاب العرب والإسلاميين بالهلع المقرون بالمطالبة بالحفاظ على شكل الدولة الاستبدادية على أنها خصوصية وإمتداد لدولة السلف الأمر الذي يتناقض مع الحقيقة ومع وظيفة الدولة في الإسلام ) ص 88.

إن الديمقراطية تحمل في جوهرها وسائل سلمية، وهي تنمو وتتعمق في حياة أي شعب في بيئة سلمية بلا جدال، وإن تلك البيئة وتلك الوسائل مرتبطة بظروف المجتمع ومدى الوعي الإجتماعي العام وإدراكه لضرورة العيش في ظل الديمقراطية، ومن حيث نشأت الديمقراطية أي من حيث البدء بممارستها على وجه التحديد أو السير على وفق نهجها ( من الخطأ القول بأن الديمقراطية نشأت فقط خلال التطور السلمي الهادئ وإنها ضد الثورة ، فكثير من الديمقراطيات قامت بعد حروب وثورات وإنتفاضات مسلحة أيضاً حتى وصلت إلى الإستقرار الذي يضمن عدم إندلاع العنف في المجتمعات الديمقراطية ) ص 92، وفعلاً إن تجارب الشعوب تؤشر لنا تنوع في نشأة ووسائل الديمقراطية بإستخدام العنف الثوري كالكفاح المسلح أو الثورة الشعبية المسلحة أو الإنقلاب العسكري وبعد ذلك تم ترسيخ الحياة السلمية عن طريق إحترام إرادة الأمم وما تتفق عليه من دساتير وقوانين وأنظمة منظمة للدولة والمجتمع، وهناك شعوب تمكنت منذ البدء بإستخدام الوسائل السلمية في عملية التحول كالتظاهرات والإعتصامات والعصيانات المدنية على الرغم من أن تلك التجارب لا تخلو من عنف أو إستخدام مفرط للقوة من قبل الأنظمة. 

يشير الباحث إلى ( إن النظام الديمقراطي هو ذلك النظام الذي بحسب تعريفه إذا ذهب حاكم وجاء حاكم آخر لا يتغير النظام ولا الإطار العام ولا الإتجاه السابق في إدارة الأمور، أي لا تتغير الحقوق ولا يتغير القانون ولا الدستور ولا الضمانات المتوفرة لإجراء إنتخابات لتقرير سيادة الشعب ) ص 94 ، وهنا يتطلب تفكيك هذا النص، فمن حيث الجوهر نتفق مع المعنى العام بأن النظام يتغير إلإ أن الحقوق لا تتغير، ولكن الدستور والقانون قد يتغيران بإتجاه قضايا فكرية أعمق وحقوق أوسع، وهذا ما تؤكده التجربة الفعلية للشعوب لارتباط ذلك بمنطق التطور والتقدم الإجتماعي، فإن تغيّر النظام لا يعني تغيّر الأسس الإقتصادية والإجتماعية والثقافية للنظام الذي يجسد الإرادة العامة للمجتمع إنما يعني تغيّر الفئة الحاكمة لا أكثر، وتغيّر آليات وضمانات وسلم الأوليات وأدوات تحقيق الحقوق الإساسية للمواطن أو للمجموعة العرقية أو الدينية وسرعة الإنجاز ومكافحة الفساد وتحقيق تنمية فعلية بكل الإنجاهات، وهذا الفهم للنظام الديمقراطي يتطلب نشره على أوسع نطاق، لكونه يتعلق في صميم الحقوق الناتجة عن المواطنة في أي دولة، فالإدارة المنشودة هي الإدارة التي تلبي حاجات الناس الأساسية. 

وفي هذا السياق نرى بأن المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على أفراد المجتمع ومدى إدراكهم لها وإستعدادهم لتنظيم حياتهم وطريقة عيشهم، بمعنى إختيار النظام الإجتماعي والإقتصادي الذي يريدون وما يتطلب ذلك من مشاركة في بنائه وإستقراره ونموه وبهذا الإتجاه يشير الباحث إلى ( إن ما يتحقق من تطور وإستقرار هو ملك المجتمع الذي تحافظ عليه الدولة الديمقراطية وليس ملك الحاكم وعلى هذا كانت النزعة الفردية على الصعيد السياسي من سمات النظام الإستبدادي دون الديمقراطي . فالنظام الديمقراطي هو نظام مؤسسات لا أفراد.) ص94، وبهذا المعنى فإن إدارة الدولة هي مسؤولية المجتمع ( أفراد وجماعات) من خلال مؤسسات وآليات تقوم بإرادة المجتمع ومن هنا تصبح ملكاً له، أما المؤسسات والآليات التي تقوم بإرادة الحاكم سرعان ما تكشف عن سمات الإستبداد ولا تدوم بحكم تبدل الحكام وبقاء الشعوب.

إن الباحث في ص 105 يذكر ا( إن مبدأ تداول السلطة مبدأ دستوري تتم مراعاته في الدول الديمقراطية ) ويستند في ذلك إلى كتاب – الديمقراطية ووسائل الاتصال والمشاركة الشعبية – تأليف إسماعيل صبري عبد الله ص 24- 25. 

وهذا تعبير حسب زعمنا لا يحمل الدقة، فالتداول أحد المبادئ الديمقراطية ومؤشر لعمق الديمقراطية في النظم السياسية للدولة عندما يقترن مع آليات أخرى يستلزمها النظام الديمقراطي، فالتداول المجرد يمارس في النظم الوراثية على سبيل المثال لا الحصر والنظم التي يتحكم فيها حزب واحد أيضاً، وهذا المبدأ تتضمنه الدساتير في الأنظمة الديمقراطية، وفي حالة عدم ذكره تتضمنه دساتير بعض الدول مما يجعلنا نؤشر عليها بأن دول ذات أنظمة ليست ديمقراطية.

لذلك نرى بأن المبادئ الدستورية هي تلك المبادئ التي تتجسد بصيغة نصوص في دستور دولة ما تؤشر شكل الدولة وأسس نظام الحكم فيها وحقوق مواطنيها وحرياتهم الأساسية، وهذه المبادئ على تعددها وتنوعها تستند على مصادر متباينة، فقد تكون مصادر دينية أو غير دينية، وبذلك لا يمكن لنا القول على سبيل المثال بأن النص/ المبدأ الديني هو مبدأ دستوري، إنما هو نص/ مبدأ ديني تجسد في دستور هذه الدولة وقد لا يتجسد في دستور دولة أخرى، كما هو الحال مع مبدأ تداول " السلطة " ، أو مبدأ توارث " السلطة " في الدول ذات النظم الوراثية في الحكم. فالمبادئ الدستورية لا يعني وجودها سمة ديمقراطية، على الرغم من سمات الديمقراطية وجود دستور للدولة، على إعتبار إن محتوى المبادئ ومصادرها والقوى الإجتماعية التي تتبناها وتحميها وتعمل بها هي الأسس المعيارية في تحديد طابعها الديمقراطي من عدمه.

ونرى في الفصل الثاني من الكتاب بين ص 139- 214 قد اختار الباحث عنوان ( العولمة وحقوق الإنسان والخطاب الإسلامي ) وقسمه إلى محورين، المحور الأول ( حقوق الإنسان من منظور إسلامي ) والمحور الثاني ( العولمة وحقوق الإنسان )، فالعنوان بحد ذاته يعبر عن إدراك لإشكالية فكرية تحتاج جهود كل الباحثين وتقديم تصوراتهم حولها وفتح آفاق بإتجاه إزالة الإلتباس حولها من منطلق وحدة الإنسانية ابتدءا وإنتهاءاً، ومن خلال هذا الفصل بمحوريه يتأكد للجميع حقيقة إقرار الإسلام لتلك حقوق الإنسان بنصوص واضحة وآليات عملية تستند إلى تكريم بني آدم ( ولقد كرمنا بني آدم ... ) سورة الإسراء ، الآية 70، على أساس من درجة التقوى ( أكرمكم عند الله أتقاكم ) سورة الحجرات، الآية 13، على إعتبار أن كرامة الإنسان هي صلب حقوق الإنسان والتي لا يمكن أن تصان بدون تلبية حاجاته الإساسية من مسكن ومأكل ومشرب وضمانات إجتماعية وصحية. 

ومن هنا نجد أن الباحث يؤشر وبحق على الكثير ممن تصدى لفظاً أو كتابةً لموضوع حقوق الإنسان في الإسلام يعمل على عزل لا بل قطع الإسلام عن مراحل تطور البشرية حيث يقول ( إن مشكلة الفكر الديني ومشكلة الخطاب الإسلامي تتمثل في إنهما يتحدثان عن حقوق الإنسان في الإسلام على إنها منظومة منفصلة عن تاريخ البشرية وما أنجزته الأمم ..... وكأنها بديل عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي دخلت في كل دستور ديمقراطي معاصر. ) ص 141- 142 .

ويستكمل الباحث تأكيد إشارته ( يمكننا القول، إن كل حكم ورد في الشريعة الإسلامية سواء جاء منها في العبادات أو المعاملات أو علاقة الإنسان بغيره أو بنفسه غنما جاء من أجل ضمان حقوق الإنسان في الوجوه المختلفة ) ص 142، وهذا أمر التأكيد عليه هام جداً والتذكير به أمر ضروري على إعتبار الإنسان وحقوقه بالعيش الكريم محور الشرائع السماوية. 

إن هذا التقدير يكشف صورة من صور خطأ الخطاب الديني بإعتباره من مصدر قاصر وصواب النص الديني بإعتباره من مصدركامل، كما يؤشر إلى حجم الضرر الذي يسببه الخطاب الإسلامي في إطار المجتمع الإسلامي، وبذات الوقت في علاقة المجتمع الإسلامي بالمجتمعات غير الإسلامية، إذ أن النص الديني جاء للناس كافة، ولأجل الناس كافة، وبالناس لابد أن ينتشرمن خلال قوة المثل بواسطة الإستقامة في الحياة، وهذا ينسجم كلياً مع وحدة الإنسانية وإحتياجات الإنسان على وفق المراحل التأريخية، وما أدل على ما نذهب إليه هو ظهور الأحلاف قبل ظهور الدين الإسلامي وشهدها النبي محمد (ص) قبل نزول الوحي عليه، والتي أشار إليها الباحث ( ومن الأحلاف التي إطلع عليها النبي محمد (( صلى الله عليه وآله )) أحلاف بني عبد مناف، ومنها حلف (( المطيبين )) وأحلاف بني عبد الدار ومنها الأحلاف لتسوية منازعاتهم حول السقاية والرفاد والحجابة واللواء والندوة ........ حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان ) ص143- 144.

ولقد وصف الباحث حلف الفضول بكونه ( ... يتضمن قيما أخلاقية اصيلة، اساسه العدل والإنتصار للمظلوم ضد الظالم، وهو دليل على المستوى الرفيع الذي كان عليه مجتمع مكة ) ص 144، وتوصل كذلك إلى حقيقة تميّز هذا الحلف وفردانيته بالقول ( إن المجتمع المعاصر برغم ما توصل إليه من تنظيم وتطور إلا أنه غير قادر على أن يعقد حلفاً مشابهاً لحلف الفضول ) ص 144، ونحن نشاركه الرأي، ونذهب أبعد من ذلك، ونشير إلى أن إمكانية عقد حلف مثل حلف الفضول في قرية من قرى هذا العالم غير قائمة، لا بل وفي المستقبل نزعم أيضاً عدم وجود قدرة لعقد مثل ذلك الحلف المتميز بكل أبعاده، وبالأخص بذات الدوافع التي لم تكن المصلحة المباشرة أو المصلحة المادية للمتحالفين من بينها، إنما الدافع الأساس هو رفض الظلم ومنع وقوعه في بطن مكة، وهذا الحلف قد حضره النبي محمد (ص) مع أعمامه آنذاك، وأكد ( ص ) تأييده للحلف بقوله ( لو دعيت به في الإسلام لأجبت ) .
إن عدم القدرة على إنتاج حلف من طراز حلف الفضول تكمن في :

  • 1- تَغيّر المبادئ الأخلاقية وتراجع فاعلية مكارم الأخلاق في المجتمع وبالأخص فاعلية التضامن والتكافل الإجتماعي. 
  • 2- سيادة نزعة البحث عن المنفعة المادية أو المصلحة المباشرة في العلاقات الإنسانية، عند التعامل مع هذه الحالات.
  • 3- تنامي نزعة التخلي عن المسؤولية الفردية كعامل دافع ومجسد للمسؤولية الجماعية، عندما يتطلب الحال التصدي للظالم. 
  • 4- ضعف أو إنعدام الثقة بقدرة الآليات الإجتماعية العامة على رد المظالم وإحقاق الحق، بإستثناء الدافع العشائري، والذي يتفاعل بغض النظر عن موضوع الظلم.

مما تقدم من منطلقات فكرية تجسدت في سلوكيات بحكم النظرة القاصرة بشكل عام والتي تتغافل أهمية دور الفرد والجماعات وبالتالي المجتمع كرأي عام في صياغة وترسيخ المفاهيم وآليات التعامل خصوصاً في الموقف من الظلم بمختلف مصادره واشكاله، وقول الحق والإنتصار له، فعند تجاوز مثل تلك المنطلقات الفكرية التي لا توفر بيئة صالحة لإنتاج حلف كحلف الفضول، عند ذاك يمكننا الحديث عن إمكانية إنتاجه في مجتمعنا المعاصر أو المجتمع ما بعد المعاصر، ويتجلى ذلك برفض للظلم والتصدي للظالم كأفراد وجماعات في مختلف مجالات الحياة في محل العمل والدراسة والسكن، مع القريب والبعيد، وهذا هو العدل والأنصاف. 

وبعد أن تحدث الباحث عن المنظور الإسلامي لحقوق الإنسان والجذور التاريخية لها في الإسلام وتحت عنوان ( القيمة القانونية لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية )، أشار في ص146 إلى ( إن القوة الإلزامية لهذه النصوص تصل إلى درجة السمو إلى ما لا تصل إليه غيرها من النصوص من حيث القوة، وأن الرسول (ص) ومن بعده الأئمة ( ع) طبقوا الأحكام القرآنية وألزموا الرعية والتزموا بها. فهي من الناحية العملية نصوص ملزمة قطعاً ).

وحسب إعتقادنا فأن القوة الإلزامية لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية نابعة من قوة الإلزام التي يحملها النص الديني وبالتالي تستمد تلك الحقوق قيمة قانونية وقيمة دينية لدى المجتمع، وتتجلى تلك القيمة من الناحية العملية بشكل تصاعدي أو تنازلي مع درجة إحترام المجتمع للثوابت الدينية والنصوص القانونية، ومدى الإلتزام بأداء واجباتهم، والتي يعتبر إحترام حقوق الإنسان في صميم تلك الواجبات. 

إن الإشكالية التي أشار إليها الباحث، لا تستحق التوقف عندها، فحسب بل البحث المعمق عن سبل جدية، ووسائل فعلية لتقليص الهوة بين النصوص وتطبيقها، لعلاقة ذلك بالمسؤولية بكل أبعادها، ومن هنا يشدد الباحث على أن ( لا مجال للتهرب من أحكام الشريعة الإسلامية والتنصل من المسؤولية المستندة إليها، إذ يجد الإنسان نفسه مسؤولاً أمام الخالق وأنه مراقب من قبله حيث رقيب غيره، وأنه لا مجال للتحايل على النصوص امامه ..... ) ص 146 . 

وفي هذا السياق فإن الجزاء في هذه الحالة آخروي، ومع ذلك لا يمكن تجاوز الجزاء الدنيوي والذي تستلزم مجريات الحياة أكان مستند على النص الديني أو النص الوضعي بسبب التهرب المتزايد في واقع الحال من إحترام مبادئ حقوق الإنسان. 
كما إننا نرى في مختلف الدول وخلال كل مراحل التاريخ بما في ذلك أيامنا الحاضرة، كان ولا يزال التهرب من الأحكام الدينية ظاهرة ملموسة لا يمكن غض الطرف عنها، ويتم ذلك بشتى الصور، منها تغيب النص أو تحريفه أو تفسيره بشكل لا ينسجم مع جوهره وأبعاده الإنسانية.

وتبقى موضوعة القوة الإلزامية والقيمة القانونية تقترن بمستوى وعي المجتمع وقناعاته بالردع الإلهي والردع المجتمعي في إطار الأعراف أو التشريعات الوضعية، فمن دون الإدراك الذاتي لا يمكن الحديث عن تقليص الهوة بين النص والتطبيق، لأن الإشكالية الحقيقية لا تكمن في النص وما يتضمنه من ضمانات فعلية للحقوق، إنما الإشكالية كامنة في ممارسات الإنسان ذاته وعلاقته مع أخيه الإنسان بما ينسجم مع جوهر النص الديني. 

لقد تضمن البحث، أيضاً، مصدر الحق في الفكر الإسلامي وأجاب الباحث عن سؤال ( هل الحقوق مستحقة للإنسان أم هي فضل من الله تعالى ) ص 150 وقسم الحقوق إلى قسمين، قسم ترجع مسبباتها إلى الله تعالى وقسم إلى القوانين الوضعية، وضوابط الحرية والحقوق العامة في الإسلام كـ ( حق تقرير المصير في الإسلام : معاملة أهل الذمة، عدم التدخل في شؤون الدول، حق تقرير المصير للكيانات التي دخلت الإسلام ) ص 160 - 164، وحق تقرير المصير في القانون الدولي حق السلام العالمي، حق الحياة، حق الكرامة، حق الحرية، حق العمل ....... ) ص 164 – 192، وقد وضح المنظور الإسلامي لتلك الحقوق والمنظور الدولي الحديث في ضوء القوانين واللوائح والإعلانات الدولية.

كما هو واضح فإن التوقف عند كل حق يحتاج إلى وقت أطول ومساحة أوسع غير متاحة في قراءة وعرض كتاب، ولذلك سنتوقف عند بعض ما يتطلب التوقف حسب زعمنا ونحاول مجادلة الباحث بهذا القدر الممكن، فقد جاء في ص 170 - 171 ( ولم يحرم القانون الدولي العام الحرب بين الدول، فلم ينص ميثاق الأمم المتحدة على تحريم الحروب بين الدول عدا الحروب التي تؤدي إلى تهديد السلم والأمن الدوليين أي الحروب التي تؤدي إلى حرب عالمية فقط ، أما الحروب بين الدول فإن كل ما جاء به الميثاق هو عدم اللجوء إلى إستخدام القوة بين الدول )، وهذا النص يؤشر لنا عدم التمييز بين نص الميثاق وما يتضمنه من مقاصد وآليات وبين ممارسات الدول في واقع الحال التي لا تحترم تلك النصوص وتتجاوزها حد خرقها من جهة، ومن جهة أخرى طبيعة نظام الهيئة الدولية / الأمم المتحدة الذي جاءت صياغته صياغة ممكن وصفها عبارة عن شرنقة لا تساعد على إتخاذ القرار الرادع دون توافق إرادات الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن.

إن القانون الدولي أوجب ( ..... أطراف أي نزاع من شأن إستمراره يعرض الأمن والسلم الدولي للخطر أن يتلمسوا بادئ ذي بدء بطريقة المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية ..... ) - البند (1) من المادة (33) من ميثاق هيئة الأمم المتحدة - وهذه وسائل سلمية دون جدال ولا تقتصر على نزاعات معينة بل تشمل كل نزاع أكان يؤدي لتهديد الأمن والسلم الدولي أو إستمراره يؤدي إلى ذلك، فإن أي نزاع هو عبارة عن بؤرة توتر قد تفضي إلى حرب وكل حرب هي تهديد للأمن والسلم الدولي في ظروفنا المعاصرة جراء تشابك المصالح، والحال هذا قد يدعو مجلس الأمن أطراف النزاع لذلك - البند 2 من المادة 33 من ميثاق هيئة الأمم المتحدة – في هذا دلالة على التحريم في إستخدام القوة والحرب بهذا الأساس يحرمها القانون الدولي المعاصر، كما إن مقاصد الهيئة الدولية في البند (1) من المادة (1) تشير إلى ( حفظ الأمن والسلم الدولي، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية، وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها ). 
والبند (3) من المادة (2) من ميثاق هيئة الأمم المتحدة يشير إلى أن ( يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر)، والبند (4) من ذات المادة يشير إلى أن ( يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد بإستعمال القوة أو إستعمالها ضد سلامة الأراضي أو الإستقلال السياسي لأية دولة أو على وجه أخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة ). أليس كافية هذه النصوص لكي نقول بأن الحرب محرمة في القانون الدولي؟ والحال يتعلق بعدم إلتزام تلك الدول بمقاصد الأمم المتحدة.

كما إن المادة (51) من ميثاق هيئة الأمم المتحدة أعطت حالة واحدة فقط بحق إستخدام القوة وهي حالة مشروطة بالدفاع المشروع لصد العدوان الواقع على دولة ما وبشكل مؤقت لحين أن يتخذ مجلس الأمن الدولي التدابير المناسبة لحل النزاع بالوسائل الممكنة. 

فالقانون الدولي المعاصر حرم اللجوء بإستخدام القوة أو التهديد بها إلا في حالة الدفاع الشرعي على وفق المادة 51 منه، ( ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات في الدفاع عن أنفسهم إذا إعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء - الأمم المتحدة – وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي ، والتدابير التي إتخذها الأعضاء إستعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى مجلس الأمن فوراً، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس بمقتضى سلطاته ومسؤولياته المستمدة من أحكام هذا الميثاق من الحق في أن تتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لإتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه ) وبذلك يعتبر عدم إستخدام القوة من مبادئ القانوني الدولي العرفي، عدا ذلك يعتبر عمل عدواني من الناحية القانونية، وما نذهب إليه بهذا الإتجاه لا نجد له صدى في الممارسة العملية على صعيد العلاقات الدولية إذ بؤر التوتر قائمة والحروب مستمرة في هذه المنطقة أو تلك، وهذا يتطلب وقفة جادة أمام قدرات الهيئة الدولية وتجربة ستة عقود لوضع محددات وآليات تؤدي إلى عدم إستخدام القوة بشكل فعلي ومنع الحروب أو إلزام أطراف أي نزاع بإلتماس الوسائل السلمية أولاً في حل النزاعات التي قد تحصل بين أعضاء الأمم المتحدة.

فطالما المنظمة الدولية قائمة على أساس التوافق بين الأعضاء الخمسة دائمي العضوية في مجلس الأمن فإن بؤر التوتر تستمر والحروب تندلع هنا وهناك وهذا لا يعني أن القانون لم يحرم إنما المجتمع الدولي بشكل عام لا يزال يمارس عملية خرق لقواعد ومبادئ القانون، وإن مصالح الدول وإرتباطاتها تؤثر على درجة إحترامها لتلك القواعد والمبادئ.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع