القائمة الرئيسية

الصفحات

لكل عدليّة خصوصيّتها....

لكل عدليّة خصوصيّتها....
لكل عدليّة خصوصيّتها....

المحامي عارف الشعال 

بالرغم من أن قانون الأصول واحد في الدولة، ولكن تطبيقه، يختلف في جزئياته بين عدلية وأخرى. هذا ما يلمسه المحامي حينما يعتزم المرافعة في محكمة تقع بمحافظة غير تلك التي يزاول فيها عمله المعتاد، ويشعر به القاضي أيضاً الذي ينتقل لعدلية أخرى.


منذ حوالي العقدين من الزمان، شددت الرحال لمدينة "حلب" بصحبة أحد الموكلين لمعالجة ملف تنفيذي مفتوح ضده موضوعه "سُفتجة" سحبها لصالح أحد تجار حلب، الذي طرحها بدائرة التنفيذ وألقى الحجز على متجر الموكل بدمشق وبدأ إجراءات بيعه بالمزاد،


أول ما لفت نظري عندما دخلت دائرة التنفيذ الحجم الكبير جداً لقسم السندات فيها، إذ يعمل به حوالي أربعة أو خمسة مأموري تنفيذ، مقابل مأمور تنفيذ واحد لقسم السندات في "دمشق" العاصمة، التي تتميز بحجم سكان يقدر بضعف سكان حلب!! مما يدل على حجم تجارة نشط جداً في تلك المدينة العريقة، ويدل على استساغة تجارها تداول السندات التجارية بينهم بشكل أكثف من تجار دمشق على ما يبدو.


وصلنا القصر العدلي بحلب زهاء التاسعة صباحاً، فطلبت الملف التنفيذي واطلعت عليه، وكان لدي فكرة مسبقة عنه، وقمت بتدوين إفادة وأبرزت بعض المستندات، تصب في اتجاه طلب وقف التنفيذ وإحالة النزاع للمحاكم.

عندما تناول المأمور الملف قرأ إفادتي بتمعن وتفحص الوثائق التي أبرزها، وبدأ بالكتابة على الضبط.

لفت نظري أنه استغرق في الكتابة وقتاً أطول من المعتاد بالنسبة للكلمة التي يفترض به تدوينها بما يفيد فقط (رفع الملف لرئيس التنفيذ) ليقرر ما يراه، ولم أتبين ما كان يكتب إذ كان هناك حاجز مرتفع يحول دون رؤية ما يكتب.

ولكن بدا لي أنه كتب عدة جمل على الضبط التنفيذي، بما يتجاوز صلاحياته في مثل هذه الحالات، ثم طلب منّا الانتظار لحين حضور رئيس التنفيذ للدوام.


انتابني الفضول الشديد لمعرفة ما قام بتدوينه على الضبط، فطلبتُ منه الملف ثانية، فامتنع بحجة وجود قرار يحتاج للتوقيع من رئيس التنفيذ!!


لم أستوعب في البداية ما قاله، ولكن بعد حوار بسيط، فهمت منه أن العادة لديهم، أن مأمور التنفيذ يقرأ الإفادة ويقوم هو بكتابة القرار بخط يده، إذ بحكم الخبرة والممارسة الطويلة بالعمل، يعرف سلفاً ماذا سيقرر رئيس التنفيذ في هذه الحالة، فيقوم بكتابة القرار بنفسه، اختصاراً لوقت رئيس التنفيذ، الذي يبقى عليه توقيع القرار فقط !!

وفي هذه المرحلة، لحين توقيع القرار من الرئيس، يمتنع المأمور عن تسليم الملف لأي كان، وفهمت من نظرات الاستغراب والمداخلات، من بقية الموظفين والمحامين، أن هذا هو الروتين المتبع في دائرة التنفيذ في حلب، ويجب أن أرضخ له.


في الحقيقة صُعقت تماماً مما تناهى لسمعي، فبالرغم من وجاهة هذا الكلام، إذ من الشائع والمنطقي أن يكون لدى مأمور التنفيذ الذي أمضى سنوات طويلة بعمله خبرة عملية تفوق المعرفة النظرية التي يملكها رئيس التنفيذ، خاصة إذا كان حديث العهد بمنصبه.


ولكني لم أستسغ هذا المنطق مطلقاً، وانزعجت منه كثيراً بصراحة، لأنه يحمل بطياته تقييّد وتجاوز غير مقبول بحق القاضي الذي لأنه وحده صاحب القرار بالقضية التنفيذية، ولا يجوز تزجيهه بهذا الشكل الفج، فأصررت على رؤية الملف مجدداً، وتذرعت بأني أريد تدوين إفادة ثانية،


فامتنع المأمور عن تلبية طلبي بطريقة يكتنفها شيء من التحدي لهذا المحامي القادم من بعيد، والذي يجب عليه الرضوخ لقواعد اللعبة في ملعبه، وأن الأرض أرضه، وأنا الغريب!!


فحدث هرجٌ ومرجٌ شديدين، وعلا الصراخ حتى انتهى بتدخل المحامي العام في حلب شخصياً، الذي أمر الموظف بصرامة بتسليمي الملف لأدوّن به ما أشاء، بعدما أحرجته بالسؤال فيما إذا القاضي عبارة عن (بصمجي) يوقع على القرار الذي يكتبه مأمور التنفيذ بخط يده!!


عندما اطلعت على مشروع القرار الذي كتبه المأمور، كان رفضاً لطلباتي ومتابعة السير بالقضية، وهو ما أحبطني، فدونت إفادة أخرى مضمونها الاحتجاج على تجاوز المأمور لصلاحياته وقيامه بتوجيه رئيس التنفيذ لما يتوجب عليه فعله، واتهمته بأن له مصلحة بالملف، وأنه متواطئ مع طالب التنفيذ، وطلبت إحالته للتفتيش والنيابة العامة والتحقيق معه،


عندما حضر رئيس التنفيذ، وبعد فترة وجيزة طلب من المأمور أن يخبرني بمراجعته، وكان شخصاً محترماً وراقياً فعلاً، وأخبرني بلطف أن ما فعله المأمور ناجم عن روتين العمل المتكرر، ولكنه لا يتقيد نهائياً بما يكتبه، وأنه هو صاحب القرار بالدائرة، بدليل أنه اتخذ قرار مختلف في الملف الذي أراجع به، وأراني كيف وضع كلمة /بل/ كبيرة على ما كتبه مأمور التنفيذ، واتخذ قراراً مختلفاً يصب بمصلحتي جزئياً، خلاصته منحي بعض الوقت.


المهم انتهت تلك القضية بمصالحة بين التاجر الحلبي والتاجر الشامي، عُقدت في نادي الأرمن، مع تقديمنا لبعض التنازلات، آخذين بالاعتبار أن الإجراءات تتم في ملعب التاجر الحلبي.


ملاحظة:
لقد استغل التاجر الحلبي ثغرة مقصودة كانت موجودة بسند السحب (النموذج المطبوع)، وهي قيامه بتدوين المبلغ المطلوب، والمستفيد وتاريخ الاستحقاق، بخط يده، وإغفاله عمداً تدوين عنوان الموكل بدمشق، وقام الموكل بالتوقيع عليه بحسن نيّة، فقام التاجر الحلبي فيما بعد حين الاختلاف على نوعية وجودة البضاعة التي أرسلها التاجر الحلبي، بتدوين عنوان مختلف للموكل وضعه في أحد متاجره بحلب، وسار بالإجراءات بغفلة عن الموكل، الذي لم يعلم بها إلا عندما تم الحجز على متجره بدمشق.


في الواقع لا أعرف إن كانت هذه العادة ما تزال شائعة في حلب، ولم أسأل عنها في الزيارات اللاحقة بقضايا أخرى،

ولكن الفوارق بين العدليات المختلفة بالقطر لمسناه في الكثير من المناسبات، وقد تذكرت هذه الحادثة، بمناسبة إجراء استغربته يجري عليه العمل في عدلية اللاذقية أخبرني به أحد الزملاء الأفاضل من فترة، وسأتحدث عنه لاحقاً إن شاء الله.


الخلاصة:
قانون أصول المحاكمات في الدولة واحد، ولكن لكل عدليّة خصوصيتها في تطبيقه، شئنا أم أبينا.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. تحياتي استاذي هذا كلام دقيق جدا حصل معي شخصيا منذ اكثر من عقدين ايضا عندما تم حجز حصادة اشتراهاجار لي وخلال اسبوع تم حجزها واحتباسها في مرأب الحجز وكانت صدمتي كبيرة لم افهم طلاسيمها الابعد مراجعتي تنفيذ حلب المهم استغلالهم للموطن المختار المطبوع بسند السفتجة هو الحبكة وحينها صورت السند واستعملته انا في حماه ويمكن ان اكون اولهم اومن الاوائل الذين استفادوا من ذلك واصبح بعدها الموطن المختار هو مطب المدين لك تحياتي استاذ

    ردحذف

إرسال تعليق

اذا أعجبك الموضوع فلماذا تبخل علينا بالردود المشجعة

التنقل السريع