القائمة الرئيسية

الصفحات

بحث ودراسة قانونية في الدعوى الإقرارية - القانون السوري

دعوى إقرارية في مهب الريح (1 من 3)

بحث ودراسة قانونية في الدعوى الإقرارية - القانون السوري
بحث ودراسة قانونية في الدعوى الإقرارية - القانون السوري 

بقلم المحامي عارف الشعال 

سواء تفقنا أم اختلفنا مع اتجاه قانوني سلكه الأستاذ "طارق بيك برنجكجي" (ب م 16 بدمشق) في قضية ما، ولكن لا نملك إلا أن نحترم حسّ العدالة والمرهف، وسلطان الحق العالي الذي يتمتع به، فهو قاض لا نمطي، ويعرف جيداً من خبر الأحكام التي يصدرها، أن له أسلوب مفتاح في القضية التي يعالجها، ينقب باحثاً عن العدالة الكامنة في ثناياها، فإذا ما بدت ملامحها، بدأ ينسج الخيوط القانونية حولها ليصنع منها رداءً بديع الصنعة الحقوقية.

عُرضت عليه قضية إشكالية دقيقة للغاية موضوعها فسخ تسجيل عقار تمّ تسجيله بالسجل العقاري تواطؤاً ضد مالكه بدعوى إقرارية كما يلي:

ادعى شخص بأنه اشترى منزلاً في منطقة راقية في دمشق، قائلاً إنه ابتاعه من نجل مالكه في السجل العقاري، الذي سبق أن اشتراه من ابيه بعقد عادي كما زعم، وبالفعل أقام الدعوى على المالك قيداً وعلى ابنه، وسارت كأي دعوى إقرارية معروفة، فحضر أحد المحامين بموجب وكالة قضائية قديمة عن المالك قيداً، وحضر نجل المالك، وأقرا بالدعوى جملة وتفصيلاً، فصدر الحكم بتثبيت البيع، واكتسب الدرجة القطعية بإسقاط الحق من الطعن فيه، ونقلت ملكية هذا المنزل في السجل العقاري وفقاً لهذا الحكم.

عَلِمَ المالك قيداً (الأب) بما حصل، عندما حاول الشاري المزعوم استلام المنزل عن طريق دائرة التنفيذ، فلجأ للقضاء يعرض ظلامته ويطلب إنصافه من الغش والتواطؤ بين الشاري المزعوم، ونجله، والمحامي الذي أقرَّ بالدعوى نيابة عنه وأبرز من الأدلة ما يكفي لإثبات التواطؤ. 

ما هي الدعوى المناسبة في هذه الحالة، ونحن أمام تسجيل عقاري تمَّ بموجب حكم مكتسب الدرجة القطعية؟؟
في الواقع هناك ثلاثة دعاوى يمكن لأطراف الحكم القطعي رفعها للنيل منه:

  • الأولى: دعوى انعدام الحكم.
  • الثانية: دعوى إعادة محاكمة وفق الشروط والمدة المعروفة.
  • الثالثة: دعوى مخاصمة قضاة، وهي غير مقبولة في حالتنا هذه لأن الأطراف أسقطوا حقهم من الطعن بالحكم وفق الطرق العادية.

في الحقيقة لم يرفع المالك أياً من هذه الدعاوى الثلاث، وإنما رفع دعوى فسخ تسجيل عقاري، واختصم فيها الشاري المزعوم ونجله فقط!! 


وكانت هذه الغلطة الأولى التي ارتكبها المدعي، إذ أن دعوى فسخ التسجيل بسبب الغش والتواطؤ، تنصب على تسجيل عقاري تمّ بواسطة عقد بيع أو هبة أو وصية، أو غير ذلك، فقد يكون أمين السجل العقاري قد ارتكب خطأَ أو تواطؤ ما، أو أن يكون هناك مطاعن على العقد نفسه، أما فسخ التسجيل العقاري إذا تمَّ استناداً لحكم قضائي، فهو يستهدف النيل من الحكم نفسه الذي قضى بالتسجيل، وهو يتمتع بحصانة وحجية معروفة، وطرق النيل منه محدودة وضيقة للغاية، وهي محصورة بما ذكرنا آنفاً، بالانعدام أو إعادة المحاكمة فقط.


فضلاً عن ذلك فإن المدعي لم يختصم المحامي الذي قام بالإقرار بالدعوى والذي بات طرفاً فيها، والذي تجب مخاصمته طالما ينسب له التواطؤ مع الشاري المزعوم والإقرار له بالبيع بدون معرفة وكيله المالك، وكانت هذه هي الغلطة الثانية بالدعوى، وقد تسببت ببعض اللغط أثناء سير الدعوى.


والغلطة الثالثة كانت حينما تقدم المدعي بعد أشهر طويلة من رفع الدعوى بطلب عارض بـ "إعادة المحاكمة" وكانت المدة القانونية المحددة له قد انقضت منذ زمن طويل بالطبع.

في الواقع نحن نسلط الضوء على مثل هذه الأخطاء بسبب التأثير السلبي لها على الدعوى، لأنها أخطاء شكلية تقتضي من المحكمة ترك موضوع النزاع جانباً، والبحث على مخارج قانونية بغية تلافيها، وقد يسهل على القاضي الناظر بالدعوى في مثل هذه الحالة الاتجاه لردّ الدعوى، إن كان يعاني من اكتظاظ القضايا في محكمته، أو ليس لديه رغبة بالبحث عن مخارج قانونية لأخطاء لا ذنب له فيها قد ارتكبها المدعي، مما يقتضي توخي الدقة والعمق في تأسيس الدعوى وإدارتها، وخاصة إذا كانت حساسة ودقيقة كهذه القضية.

في الواقع كانت الأدلة التي تثبت التواطؤ والغش كثيرة في الدعوى، منها مثلاً:

إشارة دعوى تثقل العقار المبيع لمصلحة نجل المالك الذي أقر بالبيع للشاري المتواطئ يزعم فيها شراء المنزل من أبيه بموجب عقد فُقد منه، وكانت نتيجة هذه الدعوى ردها موضوعاً بعدما أنكرها الأب.

دعوى أخرى على محلين تجاريين بين نفس الأطراف وقام المحامي نفسه بالإقرار بها ثم حصل تنصل من إقراره وما تزال الدعوى قائمة حينها.

محاولات عقيمة لم تفلح لاستلام المنزل عن طريق دائرة التنفيذ بواسطة عقد إيجار مفبرك على ما يبدو.
ضبط شرطة قديم نظمته الوالدة بحق الابن الذي أقر بالبيع تتهمه فيه بالشتم والتهديد بالقتل، (دليل عقوق).

أثناء سير القضية قرر الأستاذ طارق وقف تنفيذ الملف التنفيذي الذي كان يهدد بإخراج المالك من المنزل، كما قرر إدخال المحامي الذي قام بالإقرار بالدعوى الأولى في هذه القضية، واكتسب هذا القرار الدرجة القطعية بعد استئنافه وتصديقه من لدن محكمة الاستئناف.

تمَّ تبليغ المحامي المدخل أصولاً ولكنه تغيب عن حضور جلسات المحاكمة، كما تغيب عنها ايضاً نجل المالك الذي انتزعت ملكيته، والمدعي في هذه الدعوى.

دفع وكيل المدعى عليه بأن إدخال المحامي بالدعوى غير قانوني ويتضمن تصحيحاً لخصومة أخطأ بتوجيهها المدعي، فردَّ الأستاذ طارق على هذا الدفع في حيثيات الحكم بأن الإدخال ليس تصحيحاً، ولكنه يندرج ضمن صلاحيات المحكمة المطلقة، وغايته سماع أقوال المدخل وما لديه من وثائق ومستندات.

قرر الأستاذ طارق استجواب المدعى عليهما والمُدخل (الشاري المزعوم والابن والمحامي) فتخلف الابن والمحامي وحضر الشاري المزعوم للاستجواب بعد تلكؤ لعدة جلسات، (طبعاً لو تغيب عن الاستجواب لأعطى المحكمة بتغيبه تفويضاً قانونياً، بأن تستنج سوء نيته المطلق، بدون معقب عليها)

في معرض إجابته على أسئلة الأستاذ طارق الدقيقة والعميقة، أدلى الشاري المزعوم في جلسة استجوابه، بوقائع غير مقنعة لآلية شراء المنزل كانت حاسمة بإظهار سوء نيته بشكل لا لبس فيه، تمهّد الطريق للإجهاز على الحكم الصادر بالدعوى الإقرارية. [تراجع أقواله في الصفحة 5 من القرار المرفق].

تكونت قناعة لدى طارق بيك بأحقية المدعي في دعواه وبأن التواطؤ والغش بلغ حد اليقين الكامل، وبما أن المحكمة تملك تكييف الدعوى وفق أساسها القانوني السليم، عملاً باجتهاد للهيئة العامة لمحكمة النقض، وآخر للمحكمة الإدارية العليا أدرجهما طارق بيك في الصفحة 9 من قراره المرفق.

بدأ رحلة من التجليات القانونية الفلسفية، تكييفاً للدعوى متلمساً المتون القانونية السليمة، فبدأ بالتغريد قائلاً:

((طلب فسخ التسجيل أعم من طلب إعادة المحاكمة، باعتباره يستند إلى مراجعة للحكم، والمراجعة حالة أعم من الطعن، إذ كل مراجعة تتضمن طعناً بالحكم وجرحاً له، إلا أن ليس كل طعناً بالحكم يعني مراجعة له))

ثم استنبط الأدلة على سوء النية ووصل لخلاصة منطقية مفادها:
((أي شخص لديه محامين ويقدم على شراء عقار لابد بداية أن يطلع على صحيفته العقارية، فهي الساس وهي وجوده وكينونته، وهي اصلاً معدة لاطلاع الغير وللشهر العلني، وإن وجود إشارة دعوى يعني أن الشاري ملزم بها وبنتائجها وآثارها، وإن تتبع هذه الإشارة يقود المدعى عليه إلى الحكم الصادر نتيجتها))

((إن شراء أي عقار يقتضي متابعة صحيفته العقارية، التي هي أصلاً معدة لمن يود الشراء ليكون على بينة من كل شيء))

((كيف لشخص على درجة من العلم والتعلم والاستشارة القانونية أن يشتري عقار من شخص وعلى صحيفته إشارة تفيد أن شراء هذا الشخص موضع نزاع حقيقي!!))

((إن سوء النية حالة تُستشف من ظروف الشراء، لا يمكن للمحكمة أن تشقّ عن صدر أحد، ولا أحد أيضاً يقر أمام المحكمة بسوء نيته، 
ولكن هل من يشتري عقار من غير مالكه يعد حسن النية؟؟))

وبعدما استعرض في القرار أدلة الغش وسوء النيّة التي بلغت حد اليقين، بدأ طارق بيك يتلمس الطريق للنيل من الحكم المبرم، عن طريق التشكيك بصحة التمثيل فقال:

((إن تاريخ تنظيم وكالة المحامي القديم يعود للعام 2000، (قبل 13 سنة من الإقرار) وإن الوكالة تنتهي بإتمام العمل الموكل به الوكيل، ولا يعقل أن يقوم الموكل بكل وكالة قضائية بعد انتهاء العمل بعزل المحامي الوكيل، إذ أن ذلك يسيء لسمعة الوكيل وسمعته ويفتح باباً للمداعاة بين الوكيل وموكله بلا سبب))

((لا يقبل التذرع من الشاري بأن وكيل البائع حضر وأقر بالدعوى، وهو يقوم مقام الأصيل، لأن الوكيل هنا وكيل قضائي ولابد أن يكون إقراره بموجب تفويض خاص، إن لم يذكر بصك التوكيل فبموجب عقد بين البائع والمشتري))

وفي لمحة ذكية ذات دلالات عميقة، أحالنا طارق بيك على رأي للعلامة السنهوري ورد في: (الوسيط، ج2، ف 250 – ص490 الحاشية) اتكأ عليه في القرار عندما قال:

((يعتبر الإقرار دليل تقدم الاستحقاق عليه بزمن سابق ولا يعتبر سبباً من الأسباب الناقلة للملكية، وإن حكمه هو ظهور ما أقر به المقر لا ثبوته ابتداءً،

وبناء عليه فإن استحقاق نقل الملكية هو عقد البيع، ثم يتبعه الدليل وهو الإقرار))

وبما أن هذا الدليل (عقد البيع) غير موجود بحوزة الشاري المزعوم، فضلاً عن أنه اشتراه من غير المالك قيداً مما يثبت الغش والتواطؤ بين الشاري ونجل المالك والمحامي!!

بمعنى أن الإقرار يجب أن يسبقه عقد، وأن المحامي قام بالإقرار بعقد بيع غير موجود بالأصل.

واستخدم طارق بيك صلاحيته في تكييف الدعوى وفق الأصول القانونية متكئاً على الاجتهاد المستقر والمتواتر والذي استفاض بذكره بمتن القرار، واتجه نحو انعدام القرار الصادر بالدعوى الإقرارية، استناداً لحيثيات ملفتة، متقدمة، جريئة، مثيرة للجدل، تقول:

((الغش يفسد كل شيء حتى الأحكام))
وأن الغش والتواطؤ بين كل من الشاري المزعوم، ونجل المالك، والمحامي، أدى بالضرورة لعدم "إعلان" المالك قيداً بالدعوى، أي أنه كمدعى عليه أصلي لم يعلم بالخصومة نهائياً، وبالتالي فإن الخصومة لم تُعقد بمواجهته، وأن:

((التواطؤ نتج عنه خصومة معدومة، نتج عنها حكم معدوم))
((إن الغش يفسد كل شيء، وقد أفسد الخصومة، وأضحت معدومة، مما ألحق الانعدام بالحكم بكامله))

ومن حيث النتيجة قرر الأستاذ طارق بيك فسخ تسجيل العقار موضوع الدعوى باعتبار الحكم الصادر بالدعوى الإقرارية معدوماً، وفوق ذلك قرر إلزام المدعى عليهم المتواطئين بدفع تعويض على التضامن مقداره مليون ليرة سورية.
-------------------------------------

سنستعرض في الجزء الثاني مصير هذا القرار في محكمة الدرجة الثانية ومحكمة النقض، وأستميح حضراتكم أيضاً بإبداء تعليق مقتضب حول القرار.

وفي الجزء الثالث، نستعرض مصير هذه القضية في الهيئة العامة لمحكمة النقض بعد اللجوء لدعوى مخاصمة القضاة.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع