القائمة الرئيسية

الصفحات

بحث انفصال الأقاليم في الدولة الفيدرالية - دراسة دستورية

انفصال الأقاليم في الدولة الفيدرالية - دراسة دستورية

بحث انفصال الأقاليم في الدولة الفيدرالية - دراسة دستورية
بحث انفصال الأقاليم في الدولة الفيدرالية - دراسة دستورية

د. أحمد علي عبود الخفاجي

من المواضيع المهمة في النظام الفيدرالي هو عدم قدرة الوحدات الأعضاء في دولة الاتحاد الفيدرالي على الانفصال من الاتحاد بعمل منفرد، فمما لاشك فيه أن جهاز النظام الفيدرالي معقد يتطلب الحرص والحذر في إدارته وحسن سيره ومراعاة إرادات الأعضاء ورغباتها، حتى لا يؤدي الأمر إلى انفصال الأقاليم عن الوطن الأم([1]).


إنَّ عملية اتفاق عدة أقاليم داخل الدولة الواحدة لتكوين دولة فيدرالية لا يعدّ اتحاداً بين دول مستقلة، وإنما هي دولة واحدة مركبة، تضم عدة أقاليم تشكل جميعها وحدات فيدرالية داخل الدولة الفيدرالية، بشرط الاحتفاظ بجزء من سيادتها الداخلية، وهي تشبه المحافظات في الدولة البسيطة([2]).


ففي الوقت الذي يتكون الإتحاد بين أقاليم الدولة الواحدة تصبح الدولة ذات سلطة مركزية واحدة، يضاف إليها وجود سلطات وجود إقليمية لا مركزية متعددة تمارس اختصاصاتها بموجب الدستور الفيدرالي، كما أن وحدة سلطة الدولة الفيدرالية تتجلى بوضوح في كونها تمتد على كل إقليم الدولة ومواطنيها بصورة مباشرة ومن دون استثناء، وهذا يعني أن سلطات الأقاليم لا يمكن أن تكون حاجزاً أو ستاراً بين سلطة الدولة الفيدرالية وبين سكان هذه الأقاليم فهم وإنْ كانوا من رعايا هذه الأقاليم إلا أنهم بالدرجة الأساس مواطنو الدولة الفيدرالية([3])، فهم يساهمون ببنائها بعد تحررهم من الولاء القديم لدولهم ونزعاتهم الإقليمية على أساس من الوحدة القومية([4]).


إنَّ الاعتبارات السابقة في قيام دولة فيدرالية واحدة لم تكن لتحقق لولا شعور الأقاليم الداخلة في هذه الدولة بالمساواة الحقيقية بعضها بالبعض الآخر، بغض النظر عن الفوارق القائمة على الاعتبارات الجغرافية المتمثلة بالمساحة وعدد السكان والاعتبارات المحلية المختلفة.

لذلك فإن عدم تحقق هذا المبدأ الأساس (المساواة) يعني وجود جملة من السلبيات التي قد تؤدي بنهاية المطاف إلى الشعور بالغبن من إقليم إلى آخر، أو الشعور بالتفوق والسيطرة من الولايات الكبيرة على الولايات الصغيرة، والتي تستطيع عندها أن توجه الإدارة الفيدرالية لخدمة مصالحها المحلية من خلال وضع مصالحها فوق مصالح الجميع وتتصرف من خلال ذلك، مما يؤدي إلى فقدان الثقة بين الوحدات المختلفة المكونة للنظام الفيدرالي، هذه الثقة التي تعد من صميم جوهر إرادة الدولة الفيدرالية في قدرتها على إدارة الحكومة الفيدرالية([5])، وعادةً ما يتولد عن هذا الشعور بعدم المساواة نتيجة خطيرة جداً تتمثل باللجوء إلى وسائل تعتقدها الأقاليم المغبونة بأنها أنجع من البقاء في ظل النظام الفيدرالي، ومن بين هذه الوسائل المطالبة بالانفصال عن إقليم الدولة. 


وهنا يثار تساؤل مهم: هل يحق لإقليم فيدرالي إبطال قوانين اتحادية والمطالبة بالانفصال؟


لقد برزت هذه المشكلات من الناحية العملية في الولايات المتحدة الأمريكية، حينما حاولت ولاية كارولينا الجنوبية سنة 1832، إبطال بعض قوانين التعريفة التي أصدرها الكونغرس مستندة في ذلك إلى أنه حين يتعدى الكونغرس حدود سلطاته الممنوحة له في الدستور، فإن لكل ولاية الحق في أن تعلن أن هذا العمل (الاختصاص) غير داخل في سلطته وأنه عمل باطل وأصدرت بالفعل تشريعاً من مقتضاه إلغاء القوانين الفيدرالية لسنة 1828 الخاصة بالتعريفية فأعلنت هذه الولاية انفصالها عن الاتحاد في سنة 1860 وتبعتها في ذلك عشر ولايات جنوبية، وذهب الرئيس جاكسون متحدياً هذا التصرف بقوله (إنَّ سلطة الإلغاء لا تتفق مع وجود نظام الحكم الفيدرالي وتتعارض صراحة مع نصوص الدستور وروحه، ولا تتفق والمبادئ التي قام عليها ...)، وأرسل بالفعل السفن إلى ميناء شارلستون لتنفيذ التعريفة الفيدرالية([6]).

وأثيرت هذه النقطة مجددا عام 1861 بشأن قضية الرقيق، إذ تحالفت الدول الجنوبية مع ولاية كارولينا الجنوبية مما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية، التي انتهت عام 1865 بانتصار الاتحاديين. ومن نتائج هذه الحرب أن استقرت بعض الحقائق في الفقه الدستوري الأمريكي، وهي:

1- إنَّ الدستور هو الذي يمنح السلطات، والكونغرس لا يملك سلطة التشريع إلاّ في الحدود التي أقرها الدستور.

2- إنَّ سلطة الكونغرس، وفي الحدود المقررة دستورياً، هي سلطة عليا.

3- ليس لأية ولاية عضو في الاتحاد الفيدرالي الحق في إبطال السلطة العليا للكونغرس، وذلك برفض تشريع معين، وكذلك ليس للولايات الحق في الانفصال عن سلطات الحكومة الاتحادية.

وقد عُضّد ذلك أيضاً بقرار المحكمة العليا الأمريكية، باعتبار أن الولايات (الأعضاء في الاتحاد) ليس لها الانفصال، والسبيل الوحيد للانفصال هو بالتعديل الدستوري([7]).

وهناك سابقة أخرى في هذا المجال، إذ تقدمت ولاية استراليا الغربية عام 1943 إلى البرلمان البريطاني مطالبة فيها بتشريع قانون يتيح لها الانفصال عن الكومنولث البريطاني، وتشكلت لجنة في البرلمان البريطاني مكونة من عدة أعضاء من كلا مجلسي البرلمان (اللوردات والعموم) لدراسة طلب استراليا، وتوصلت هذه اللجنة إلى قرار يقضي بأنه نتيجة للاتفاقات الدستورية فإنَّ القضية خارج اختصاص البرلمان البريطاني، إذ أن البرلمان لا يملك اختصاصاً بالنظر في طلب الانفصال مقدم من ولاية عضو في الاتحاد، انفردت بطلبها الانفصال([8]).

إنَّ تقدير حق الانفصال مختلف فيه بين الفقه الدستوري، إذ ظهر اتجاهان تمثلا بالآتي: 

- يرى بعض الفقه الدستوري أن الدولة الفيدرالية هي صورة من صور اللامركزية وهذه الدولة عبارة عن جماعات تمتلك هيئات خاصة بها، لها حق الاستقلال الجزئي، وللدولة العضو حق الانسحاب من الاتحاد وهو ما يميزها عن المحافظات والمقاطعات والكميونات([9]). 

وأهم ما يؤاخذ على هذا الرأي هو الإقرار بحق الأقاليم لا يعدو أن يكون حقاً جزئياً في الاستقلال والإقرار بحق الانفصال، إنما يعد أمراً متناقضاً، فالانفصال يعطي حقاً كلياً في الاستقلال، بينما عدم الانفصال هو الذي من الممكن إطلاق الوصف عليه بتمتع الإقليم أو الولاية بالاستقلال الجزئي.

يضاف إلى ذلك أن هذا الرأي واجه الفرض الخاص بتكوين الاتحاد الدستوري من دول كانت سابقاً مستقلة عن بعضها وذات سيادة، ولذا ذهب باستمرار سيادة هذه الدول ولكنه أغفل الفرض الخاص بتكوين الدولة الفيدرالية من أجزاء الدولة ذاتها قبل صيرورتها بالشكل الفيدرالي، كما حدث في العراق والمكسيك والبرازيل([10]).

- بينما يذهب الرأي الراجح في الفقه الدستوري إلى أن من أهم الفوارق الأساسية التي تميز بين الاتحاد الكونفيدرالي والاتحاد الفيدرالي هو أن في الأول يظل الحق للدولة الداخلة في الإتحاد في أن تنفصل عنه، بينما يترتب على وحدة الدولة الفيدرالية عدم قدرة الأقاليم على الانفصال عنها([11])، بل لابد أن يعالج الدستور أيضاً كل ولاء أو تضارب عميق الجذور في التأريخ، وذلك بتشجيع الولاء للاتحاد بدلاً من المواقف الانفصالية([12])، لتوفير الحماية الكبرى على الشكل الفيدرالي للدولة([13]).

كما أن عدم الحق بالانفصال من الدولة الفيدرالية قائم على أساس أنها دولة مركبة قائمة على أساس الدستور، فليس للوحدات الأعضاء الحق في الانفصال؛ لأن الاتحاد لم يقم على أساس التعاقد الذي يكون لطرفيه الحق بإلغائه، ولا وجود لهذا الحق في الدول الفيدرالية، باعتبار أن الدستور فيها يصبح هو القانون الأساس الذي تسري أحكامه على كل الدولة الاتحادية بما فيها الولايات الأعضاء في الاتحاد([14]).

وهنالك من الدساتير ما نصت صراحةً على عدم قدرة الأقاليم على الانفصال، ومنها دستور الإكوادور لسنة 2015 فقد نصت المادة (238) منه على أنه (تتمتع الحكومات اللامركزية ذات الحكم الذاتي باستقلالية سياسية وإدارية ومالية، وتخضع لمبادئ التضامن، وحكم الدوائر التوافقي، والإنصاف بين الأقاليم، ولا تسمح تحت أي ظرف، بالانفصال الجغرافي عن الدولة)، بل ذهبت بعض الدساتير أبعد من ذلك وعدّت ذلك جريمة يعاقب عليها القانون وواجب الشعب التصدي لها حفاظاً على كيان الدولة، ومنها دستور الأرجتين لسنة 1994 الذي نص صراحةً في المادة (127) منه على أنه (...أعمال الأمر الواقع العدائية بينهما أي بين الأقاليم هي أفعال حرب أهلية، تعتبر بمثابة انفصال أو تمرد، على الحكومة الفيدرالية أن تقمعها وتعاقب عليها طبقاً للقانون)، وقد نصت المادة (22) من الدستور نفسه على ذلك بوصفها جريمة عصيان وفق معايير يمكن انطباقها على حالة إعلان الانفصال إذ نصت على أنه (تُعامل أية قوة مسلحة أو أي اجتماع لأشخاص يدعون حقوق الناس أو يتقدمون بالتماسات باسمهم كجريمة عصيان)، ونصت المادة (1) من دستور البرازيل لسنة 1988 المعدل 2015 على أنه (جمهورية البرازيل الاتحادية، المكوّنة من الاتحاد الذي لا ينفصل للولايات والبلديات...)، وغيرها من الدساتير الأخرى كدستور المكسيك لسنة 2007([15]).

وأخيراً فقد جاء الدستور العراقي لسنة 2005 بالنص على عدم جواز انفصال الأقاليم عن الدولة مؤكداً في المادة (1) منه على أنه (جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، ... وهذا الدستور ضامنٌ لوحدة العراق)، ولم يكتفِ الدستور العراقي بهذا النص للتأكيد على وحدة العراق فقد جاءت المادة (109) منه تنص على مسألة الوحدة ضمن اختصاصات الحكومة الاتحادية بقولها: (تحافظ السلطات الاتحادية على وحدة العراق وسلامته واستقلاله وسيادته ونظامه الديمقراطي الاتحادي).

الهـــــــــــوامش






([1]) د. أحمد سويلم العمري، دراسات سياسية - أصول النظم الاتحادية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1961، ص364. 


([2]) د. محمد كامل عبيد، النظم السياسية الدولة والحكومة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1962، ص516. 


([3]) د. منذر الشاوي، القانون الدستوري نظرية الدولة، دار القادسية للطباعة، بغداد، 1981، ص252. 


([4]) يحيى أحمد الكعكي، الصراع الدولي والحل الفيدرالي في لبنان، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1978، ص51. 


([5]) المصدر نفسه، ص59. 


([6]) د. محمد الهماوندي، الحكم الذاتي والنظم اللامركزية الإدارية والسياسية دراسة نظرية مقارنة، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1990، ص187. 


([7]) علي عبود بحر العلوم، الفيدرالية الجغرافية وآفاقها المستقبلية في العراق، رسالة ماجستير، معهد العلمين للدراسات العليا، النجف الأشرف، ص126. 


([8]) د. محمد عمر مولود، الفدرالية وإمكانية تطبيقها كنظام سياسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع (مجد)، بيروت، 2009، ص55-56. 


([9]) محمد بكر حسين، الاتحاد الفيدرالي بين النظرية والتطبيق، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة عين شمس، 1977، ص39. 


([10]) الشافعي محمد بشير، نظرية الاتحاد بين الدول وتطبيقاتها بين الدول العربية، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة الإسكندرية، 1963، ص104. 


([11]) د. عمر أحمد حسبو، النظام الاتحادي في دولة الإمارات العربية المتحدة دراسة نظرية وتطبيقية في ضوء النظم المقارنة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995، ص85. 


([12]) روبرت بوي و كارل فريدرك، دراسات في الدولة الاتحادية، ج1، ترجمة: وليد الخالي وبرهان دجاني، الدار الشرقية للطباعة والنشر، بيروت، 1966، ص3. 


([13]) د. مصطفى أبو زيد فهمي، النظرية العامة للدولة، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 1997، ص49. 


([14]) د. آدمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري العام، ج2، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1983، ص123-124؛ د. عبد الغني بسيوني عبد الله، الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري، مطابع السعدني، القاهرة، 2004، ص102. 


([15]) نصت المادة (2) من دستور المكسيك لسنة 2007 على أنه (الدولة المكسيكية "وحِدة" واحدة لا تنقسم).
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع