القائمة الرئيسية

الصفحات

اتجاه مخيّب لمحكمة الجنايات الثالثة بدمشق في التعويض على الضحية

محكمة الجنايات الثالثة

اتجاه مخيّب لمحكمة الجنايات الثالثة بدمشق في التعويض على الضحية

منذ سنوات بعيدة شاهدت فيلماً لعادل إمام يتحدث عن موظف اختلس مبلغ كبير من المال، ثم قام بتسليم نفسه للسلطات لينال عقابه، وحينما سأله المحقق عن السبب الذي دعاه لتسليم نفسه، أجرى له عملية حسابية بسيطة عن السنوات القليلة التي سيمضيها بالسجن مقابل ظفره وتمتعه بقية عمره بهذا المبلغ الكبير، فتكون العملية رابحة بالنسبة له، لأنه لن يستطيع جني مثل هذا المبلغ لو عمل بكدّ وشرف طيلة حياته.

تذكرت هذا الفيلم الأسبوع الماضي حينما نطقت محكمة الجنايات الثالثة بدمشق بحكم غيابي في قضية تزوير، استطاع فيها المتهم تزوير وكالة مكنته من بيع منزل بمبلغ يعادل نصف مليون دولار، فكانت تسعيرة هذه الفعلة الآثمة لدى محكمة الجنايات الأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات (عملياً سنتين وثلاثة أشهر)، والإلزام بتعويض يقدّر بـ 1300 دولار فقط.

واستذكرت أيضاً الغرض من العقاب:

((القصد من العقاب هو حماية مصالح الجماعة بتوطيد النظام الاجتماعي....
والغرض النهائي للعقوبة منع الجاني من العود إلى ارتكاب الجريمة، وهو ما يسمى بالحماية الخاصة {للمجتمع}، ومنع الغير من الاقتداء به، وهو ما يسمى بالحماية العامة {للمجتمع}. ))
جندي عبد الملك – الموسوعة الجنائية – ج5 – ص8

وتساءلت:

هل تحقق هذه العقوبة الخفيفة الغاية منها كردع ووقاية للمجتمع

ووقائع القضية بالتفصيل تتلخص بالتالي:
في منتصف العام 2011 قام شخص بتزوير وكالة كاتب عدل استطاع بموجبها نقل ملكية منزل في منطقة المزرعة بدمشق وتهريبه للغير عدة مرات.
مالك العقار المقيم خارج سوريا منذ سنوات طويلة، حينما علم بالجريمة تقدم بادعاء للنيابة العامة في الشهر التاسع 2011، مع إثبات من الكاتب بالعدل بأن الوكالة التي تمّض بموجبها نقل ملكية العقار ليس لها أصل عنده ولم يقم بتنظيمها، ونصّب نفسه مدعياً شخصياً بحق الجناة،

ألقي القبض على المزور وكانت نتيجة التحقيق معه بالأمن الجنائي حافلة، فقد تبين وجود جرائم تزوير أخرى عديدة كنقل ملكية عقارات بمنطقة الكسوة، سحب رصيد قدره ستة ملايين ليرة من مصرف بموجب وكالات مزورة، تزوير أختام لمديرية النقل ومديرية الجمارك (تزوير وثائق سيارات).

أثبتت التحقيقات الموسعة التي قام بها قاضي التحقيق أن العصابة التي ينتمي لها المزور باعت المنزل عام 2011 بمبلغ 26 مليون ليرة (هناك عقد وصور شيكات بالثمن)

بالمحصلة أمضى المزور وشريكه أشهر قليلة بالسجن، ثم أخلي سبيلهما بعدها، والمعلومات المتوفرة عنهما أنهما هاجرا إلى ألمانيا مع المهاجرين.

تابعت القضية الجزائية رحلتها البطيئة والمملة حتى حطت رحالها أخيراً أمام محكمة الجنايات الثالثة، وسارت المحاكمة غيابياً بحق المزور وشريكه، وتقدمت جهة الادعاء الشخصي بطلباتها المتضمنة إلزام المتهمان بتعويض تترك تقديره للمحكمة، التي أصدرت حكمها آخر العام الفائت القاضي من حيث النتيجة الحكم على المتهمين بـ
الأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات !!!
وإلزامهما بدفع تعويض مقداره 500 ألف ليرة !!!!!!

من الملفت للانتباه فعلاً أن المحكمة جنحت لفرض الحد الأدنى من عقوبة تصل لـ 15 سنة، على جريمة تفشت بشكل سرطاني في المجتمع نتيجة الظروف الراهنة، مما يتطلب من القضاء التشدد في مكافحتها.

وبالرغم من كون الحكم غيابياً ما يعني أن المحاكمة ستعاد بمجرد القبض على المحكوم عليه، غير أن هذا الحكم الرحيم والمخفف جداً سيفيده كثيراً عند احتساب التقادم والذي يقدر في هذه الحالة بعشر سنوات، بينما لو تشددت المحكمة قليلاً في الحكم فسترتفع هذه المدة وقد تصل لعشرين سنة.

والأمر الذي يخيّب الأمل فعلاً هو التعويض البخس الذي قضت به المحكمة بمبلغ 500 ألف ليرة، لشخص سُرق منه منزل قيمته 26 مليون ليرة.

فمن الناحية العملية إذا احتسبنا فارق العملة، بين 26 مليون منتصف عام 2011، و500 ألف عام 2015 تكون المحكمة حكمت بمبلغ 1300 دولار تعويض عن خسارة منزل ثمنه نصف مليون دولار!!!
في حين تنص المادة 129 من قانون العقوبات أن "العطل والضرر" من بين الإلزامات المدنية التي يحكم بها القاضي الجزائي، ومن المعلوم أن التعويض عن الضرر الذي ألحقه الجرم بالمدعي الشخصي يشمل الخسارة التي لحقت فعلاً بضحية الجرم، ثم الربح الذي كان منتظراً أن يحصل عليه المضرور لولا وقوع الجريمة، وهذا ما تجاهلته المحكمة تماماً.

أضع هذه القضية برسم الزملاء محبي الطريق الجزائي، مستذكراً قول المرحوم الدكتور عبد الوهاب حومد: 
((اختصاص المحاكم الجزائية في القضايا المدنية اختصاص استثنائي، لأن مهمتها الأولى هي تطبيق العقوبة))
{أصول المحاكمات الجزائية – طبعة 1952 – ص232}

وبالتالي يجب على رجال القانون أن يذكروا جيداً أن القاضي الجزائي يضع دعوى الحق الشخصي في المرتبة الثانية من اهتمامه، لأن وظيفته الرئيسية والأولوية بالنسبة له هي دعوى الحق العام، ومعاقبة المجرم الماثل أمامه.

وخير الختام استذكار قول العلامة الدكتور عبد الوهاب حومد:
((يكفي أن يكون القاضي المدني فقيهاً، أما القاضي الجزائي فمن الواجب أن يكون بالإضافة إلى فقهه، عالماً بعلم النفس وبعلم الاجتماع وعلوم أخرى))
المرجع السابق – ص8
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع