القائمة الرئيسية

الصفحات

القتل دراسة مقارنة بين الفقه الاسلامي والقانون الوضعي

إعداد المستشار / أحمد رزق
الفصل الأول 101



تعريف القتل وماهيته


البحث الأول 1011


تعريف القتل

حق الإنسان في الحياة من الحقوق الطبيعية ، التي لا يجادل في مشروعيتها أحد ، والاعتداء على هذا الحق وسلبه ، هو القتل الذي نحن بصدد دراسته 0

والقتل هو الفعل المزهق للنفس ، أي القاتل لها ، ولاخلاف حول تعريف القتل ، بأنه إزهاق إنسان روح إنسان آخر ، وجاء في تكملة فتح القدير : ( القتل هو فعل من أفعال العباد ، تزول به الحياة ) ، أي أنه إزهاق روح آدمي بفعل آدمي آخر ، فقتل الإنسان للحيوان ، لا يعتبر قتلا بالمفهوم الذي نحن بصدده ، والأمر نفسه فيما لو قتل حيوان إنسانا ، أو افترسه ، دون وجه حق 0

ولا شك في أن العلة التي تقف وراء تجريم فعل القتل ، من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى كبير عناء لإدراكها ، لأنها تتمثل في حماية حق الإنسان في الوجود ، وبالتالي حق المجتمع نفسه في الوجود ، لأن حماية وجود المجتمع ، لا تتحقق إلا بحماية وجود أفراده 0

أما في التشريع السوري ، فإن قانون العقوبات لم يعط تعريفا للقتل ، في حين أن شرّاح القانـون ، قد عرّفوه تعريفـا ، يكاد يكون متطابقـا مع التعريف الذي وضعه الفقهاء المسلمون ، فهو في كلا التشريعين ، لا يخرج عن أن يكون قضاء إنسان ، على حياة إنسان آخر ، قضاء آثما غير مشروع 0

وأخيرا : فإن جريمة القتل من جرائم الفاعل الوحيد ، إذ لا يلزم لارتكابها أكثر من فاعل واحـد وقد تتضافر جهود أكثر من شخص في ذلك بدرجة واحدة ، أو بدرجات متفاوتة من النشاط الإجرامي ، كما أن هذه الجريمة من الجرائم القابلة للشروع ، سواء كان شروعا موقوفا أو خائبا ، كما سنرى بالتفصيل في حينه 0

البحث الثاني 1012

ماهية فعل القتل

الفعل في القتل ، هو قبل كل شيء سلوك إرادي ، يزهق به الجاني روح إنسان آخر، وسبق أن رأينا أن القانون لم يضع وصفا ولا تحديدا لهذا الفعل ، فكل سلوك في نظره ، يصلح لأن يكون فعلا في الركن المادي للقتل ، مادام قد أدى إلى إزهاق روح إنسان آخر0

وعلى ذلك ، فالقانون يحدد فعل القتل بآثاره ، ولا يتطلب في الفعل ، إلا أن يكون صالحا لإحداث الوفاة ، فهو – القانون – لا يعتـدّ بشكل الفعل ، لأن القاعدة في الجرائم القصدية ، هي الاهتمام بالدرجة الأولى بالقصد الجنائي ، وهو نية القتل ، أما الفعل الذي وقع فيه القتل ، فليس سوى وسيلة الجاني لتحقيق نيته 0

ومع ذلك ، فإن الفعل وحده لا يكفي في جريمة القتل العمد ، ما لم يكن مصحوبا بالقصد الجنائي ، كما سنرى لاحقا ؛ إلا أن هذا القصد منفردا لا يكفي لحصول جريمة القتل ، ما لم يتضافر مع الفعل ، فهذا الأخير – وهو نفسه الركن المادي – لا يقوم من مجرد العزم ، أو التصميم على ارتكاب الجريمة ، حتى لو اتخذ هذا العزم شكل القول الجازم 0

وبعد كل هذا لا يهم شكل الفعل – كما رأينا – فقد يتخذ شكلا إيجابيا بفعل أو سلبيا – بالامتناع – وقـد يكون الفعل الإيجابي بحركة واحدة ، كضربة واحدة بعصا غليظة على الرأس ، أو إطلاق رصاصة واحدة على المجنى عليه في مقتل ، أو طعنه بخنجر في قلبه ، أو دفعه أمام قطار، أو إلقائه من شاهق ، أو حقنه بمادة سامة ، أو خنقه باليدين ، كما يمكن أن يتكوّن الفعل الإيجابي من عدة حركات عضلية ، وتظل مع ذلك مكونة لفعل واحد ، طالما استندت هذه الحركات ، إلى قرار إرادي واحد ، كمـن يطلق على المجنى عليه عدة طلقات أو يواليه بالطعنات ،أو يواصل تقديم جرعات السم إليه ، حتى تزهـق روحه 0

وأخيرا ، فقد يكون فعل القتل بوسيلة معنوية غير مادية ، إذا ماتوا فر قصد إزهاق الروح ، وقامت علاقة سببية بين الوسيلة المستعملة والنتيجة التي هي وفاة المجنى عليه 0
الفصل الثاني 102

القتل عبر التاريخ

لابد عند الوقوف على دراسة القتل في التشريع الحديث ، من الالتفات إلى التطور التاريخي لهذه الجريمة ، لذلك ارتأينا أن نورد شيئا من أحكام القتل عند الأمم والشعوب ، وكذلك في الشرائع القديمة استكمالا للفائدة 0

وعلى ذلك ، ستكون خطتنا في هذا الفصل ، أن نرى في البحث الأول منه ، القتل عند الجماعات البدائية ، ثم القتل في شريعة مصر القديمة ، وفي البحث الثالث نتعرض إلى القتل في شريعة البابليين ، وبعده القتل عند الرومان ، وندرس في البحث الخامس القتل عند الإغريق ، ونكرّس البحث السادس للحديث عن القتل الشريعة اليهودية ، أما البحث السابع فسوف نخصصه للحديث عن القتل في الشريعة المسيحية ، وندرس في البحث الثامن القتل في الجاهلية ، والبحث التاسع نستعرض من خلاله القتل عند العثمانيين ، ونختم الفصل بالبحث العاشر، نتكلم فيه بشكل خاطف عن القتل في الإسلام 0

البحث الأول 1021

القتل عند الجماعات البدائية

يجمع علماء الإجرام ، على أن القتل ظاهرة من أقدم الظواهر، في سلوك الإنسان الأول في المجتمعات الأولى 0

وفي المجتمعات البدائية ، لم يكن هناك من تفريق بين الأمور الجزائية والأمور المدنية ، فكل اعتداء على النفس أو المـال ، كان يعتبر جرما ، ولم يكـن ينظر فيـه إلى نية الفـاعل ، بل يكفـي أن يقــع الضرر ليكون الفعل جرما0

وكانت الجماعة التي ينتمي إليها المعتدي ، تتحمل تبعة الجرم ، وكان كل فرد منها مسؤولا عن وزر بقية أفرادها ، لأن حالة التضامن ، من شأنها أن تلقي على البريء ذنب المجرم 0

ولما نشأت المدنية وظهرت التجارة والصناعة ، وظهرت معها الملكية الفردية ، وتراخت روابط الأسرة والتقاليد الاجتماعية ، وحلـّت العلاقات الاقتصادية محل علاقات القرابة ، ترتب على ذلك ظهور المسؤولية الفردية ، فأصبح الفرد هو المسؤول عن عمله ، واعتبرت النية أساسا للمسؤولية الجرمية ، وبذلك أضحت المسؤولية شخصية ، بعد أن كانت جماعية ، وبالوقت نفسه ، فهي – هذه المسؤولية – لا تطبق إلا عند ثبوت نية الإضرار 0

أما وسائل الإثبات في الأمور الجنائية ، فكانت الإقرار والمحنة ، وكثيرا ما كان الإقرار ينتزع بالتعذيب ؛ وقد بقيت المحنة وسيلة للكشف عن الجريمة ، حتى نهاية العصور الوسطى 0

والحلف عند الجماعات البدائية ، كان وسيلة لإثبات دعوى المدعي ، في وقت لم تكن الكتابـة فيــه قد ظهرت بعد ، وقد بقي كذلك حتى بعد ظهورها ، كما يستدل من الشرائع القديمة 0

وفي الجماعات القديمة ، لم يكن القصاص قاصرا على الإنسان الجاني ، بل كان يشمل الحيوان أيضا، فالحيوان الذي يقتل إنسانا ، كان يقتص منه بالقتل 0

وكذلك أيضا ، لم يكن للحقوق الجزائية مفهوم واضح ، فكل ما كان يحدث اضطرابا في الوسط الاجتماعي ، كان أمرا محظورا يستوجب العقاب 0

ولم يكونوا يعرفون الغرامة كعقوبة ، لأن المال كان مشاعا بينهم ، كذلك لم تكن عقوبة السجن معروفة لأنهم كانوا يريدون العقاب كردّ فعل فوري 0

وحين ارتقت المجتمعات البدائية قليلا، أخذت تفرّق من أجل المعاقبة ، بين جنسية الجاني وجنسية المجنى عليه ، فإن كانا من قبيلة واحدة ، كانت المعاقبة من اختصاص المعتدى عليه وأسرته ، ويخيّر المتضرّر بين أمرين ، الانتقام الشخصي أو قبول التحكيم ، وإذا كانا من قبيلتين مختلفتين ، فالثأر هو سيد الموقف0





البحث الثاني 1022


القتل في مصر القديمة

تعتبر الدولة المصرية ، دولة قديمة راسخة الجذور في المدنيّة ، وقد مرّت مصر كما مرّ سواها من الأمم ، بالدور الأبوي قبل أن تنتقل إلى الدور الديني ، وتمثل مصر بذلك بحق الشرق القديم 0

وتقول الأساطير : إن الآلهة الملكة ( ايزيس ) ، هي التي سنـّت أول قانون منعت به لجوء أي إنسان إلى استخلاص حقه بنفسه0

فكانت مصر بدولتها القديمة ، قد جاوزت عهد الثأر والانتقام ( القضاء الخاص ) ، وكانت الدولة هي التي تعاقب المجرمين ، وقد كان المصريون القدماء يحترمون الإنسانية ويقدّسـون الحياة ، حتى إن هذه الحرمة أوحت إليهم برعاية جثث الموتى ، وصيانتها من كل عبث 0

وعيّــن الملك ( مينيس ) MENES قائــدا عسكريا محــل الكاهـن الأعظم ، ورغم أنه أدخل التدرج في العقوبات ، إلا أنها بقيت وحشية ، فمن كان متهما بقتل أحد أبويه ويثبت عليه ذلك ، كانوا يعذبونه عذابا نكرا ، ثم يقطعون من جسمه قطعا بطول الإصبع ، ويحشون المحالّ الفارغة بقش أو عيدان قصبية ، ثم يمددونه على كتلة كبيرة من عيدان الشوك ، وتوقد تحته النار حتى يستحيل رمادا 0

وإذا كان أحد الوالدين قد قتل ولده ، فالجزاء يقتصر على عقوبة معنوية فقط ، إذ كان القضاة يرغمون القاتل هذا ، على حمل الجثة بين ذراعيه ثلاثة أيام وثلاث ليال ، في الساحة العامة على مشهد من الناس ، وتحت رقابة الشرطة 0

وكانت عقوبة الإعدام جزاء لجريمة القتل المقصود ، ولم تكن هذه العقوبة لتقتصر على الفاعل فحسب ، وإنما كانت تفرض أيضا على جميع الشركاء والمتدخلين في الجريمة على السواء ، بل ونظرا لقرب تلك الحقوق من البساطة وتضامن أفراد المجتمع ، كانت جرائم الارتكاب بالامتناع معاقبا عليها ، فمن يحجم عن نجدة شخص هوجم بقصد قتله ، وهو قادر على تخليصه ، يعاقب بالموت ، وكذلك من لا يساعد جريحا التقى به ، فإذا كان من المستحيل عليه إنقاذه ، فلا أقل من أن يخبر عن الفاعل ، بغية إحالته أمام القضاء 0

ويرى ديودور الصقلي ، أن شـرائع مصر القديمة ، لم تكن تفرق في حماية حق الإنسان في الحياة ، بين حرّ وعبد ، ولا بين أجنبي ومواطن ، كما لم تكن العقوبة ، لتختلف باختلاف الطبقة الاجتماعية ، التي ينتمي إليها الفاعل 0

أما القتل الخطأ غير المقصود ، فكان المصريون القدامى يعاقبون فاعله بالنفي 0

البحث الثالث 1023

القتل عند البابليين

تعتبر بلاد ما بين النهرين ، مهدا لأقدم الحضارات ، وكان معروفا عند المؤرخين ، أن قانون حمورابي ( حوالي 1700 ق 0 م ) ، أقدم قوانين هذه البلاد ، إلا أن الألواح المكتشفة في خرائب مدن سورية ، دلت على وجود قوانين سبقـته وأقدم منه زمنا ، نشير إلى بعض منها :

1 – تقنين ( اورنمو 2061 – 2043 ق 0 م) : وهو مكتوب باللغة السومرية القديمة ، ويعتبر أقدم النصوص التشريعية المعروفة ، وهو يأخذ بمبدأ الدية والتعويض ، إذ ينص على أن الجزاء المقرر للإصابة ، أو الاعتداء الجسماني ، ينحصر في الدية الإجبارية وقد اكتشف – هذا التقنين – عام 1954

2 – تقنين ( بلالاما 1936-1927 ق0 م) : وعثر عليه عام 1948 ومكتوب باللغة الأكدية ويعتبر أقدم تقنين أكدي معروف ، ويطلق عليه تقنين ( اشنونا) ، ويحتل القانون الجنائي مركزا هاما فيه ، مثله في ذلك سائر القوانين القديمة 0

3 – تقنين ( لبت عشتار1885 – 1875 ق 0 م ) : وعثر عليه ما بين 1884 و 1905 م ، ونشر عام 1948، وهو مدون باللغة السومرية 0

4 – تقنين حمورابي : كان تقنين حمورابي قانونا لدولة كبرى ، الغرض منه توحيد قوانيـن مدنها المختلفة ، وهو الوحيد من القوانين المكتشفة ، الذي عرف بأكمله خلافا لبقية التقنينات الأخرى ، التي لم يعرف منها سوى جزء يسير ؛ وأحكام قانون العقوبات التي يتضمنها ، تدلّ على أن الجريمة والعقوبة تحت إشراف الدولة بصفة عامة ، فإشاراته عن الانتقام الفردي نادرة ، كما أنه لا يحتوي على أثر للدية الاختيارية ، إلا أن كثـرة الأخذ بعقوبة القصاص ، تظهر قانون حمورابي في حالة تأخر بالنسبة لقوانيـن ( اورنمو) ، الذي جاء قبله بأربعة قرون ، وهذا يعني أن القانـون الأكثر حداثة أكثر تأخرا في هذا المجال ، وهو تطور عكس الملاحظ في تاريخ القانون الجنائي 0

وإذا كان القـانون قد قرر مبـدأ القصـاص فــي الاعتداء على النفس ومادون النفس ، إلا أنه ميـّز ما بين العمد وغير العمد ، ففي حال القتل العمد ، يقتل الحر بالحر؛ ويعاقب بمثـل فعله إذا فقــأ عينـــا أو كسر سنا ؛ وفي غير العمد ، يلتزم بالفدية ، أما إذا كان المجنى عليه عبدا لرجل آخر، فيدفع الجاني قيمته في حال القتل ، أو ما نقص من قيمته في الأحوال الأخرى 0

وقانون حمورابي لم يعالج موضوع القتل من جميع جوانبه ، فالمادة الأولى منه ، تعالج الاتهام الكاذب بجريمة القتل ، ولكنها لا تتعرض – هي أو غيرها – للأمر بالنسبة للشروع فيه – في القتل – وكذلك فالمادة 195 منه ، تعاقب على ضرب الابن والده ، ولكنها لا تتحدث عن قتل الوالدين0

أما بالنسبة للإجهاض ، فقد عالجه تقنين حمورابي من ناحيتين الأولى : بحسب الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها المجنى عليها ، مميزا بين المرأة التي تنتمي إلى طبقة الأحرار أو طبقة الأرقاء0 والثانية بحسب النتيجة التي ترتبت على الإجهاض ، أي بحسب ما إذا كان الإجهاض قد تسبب في وفاة المرأة ، أو أنها بقيت على قيد الحياة 0

ووفقا لهذا التقنين ، فإن مجرد الإجهاض ، كان يعاقب عليه بغرامة مالية ، يختلف مقدارها حسبما أشرنا ، أما لو نتج عن ذلك قتل المرأة ، فإن بنت الجاني كانت تقتل ، إذا كانت المجنى عليها من الأحرار، وإلا فالعقوبة المالية وحدها 0

أما بالنسبـة إلى قواعد الإثبات في القضايا الجزائية ، فكانت وسيلة الإثبات : الشهادة والامتحان بالماء ، وفي بعض الأحوال يمين المدعي ، وهي يمين كانت مألوفة في أكثر القوانين القديمة ، ونجد لها تطبيقا في قوانيننا الحديثة 0

البحث الرابع 1024

القتل عند الرومان

إن أهم ما امتازت به شريعة الرومان في هذا الصدد ، هو أنها اعتبرت القتل من الجرائم الماسة بالنظام الحقوقي العام ، ولم تترك أمر ملاحقة فاعله والاقتصاص منه ومعاقبته ، لأهواء ذوي المجنى عليه بشكل مطلق ، على النحو الذي سنراه مفصلا فيما بعد 0

فبادئ الأمر، كان الرومــان يفرّقون بين الجرائــم العامة والجرائــم الخاصة ، والجرائــم العامـة في الأصل ، هي تلك التــي تمس أمن المدينة وسلامتهــا ، أو تستجلب غضب الآلهة ، وكانت هذه الجرائم في البدء قليلة العدد، إذ اقتصرت على الخيانة العظمى ، والهروب من الجندية ، والاعتداء على الديانة ، ثم امتد نطاقها فيما بعد ، فشمل ( منذ عهد الألواح الاثنى عشر) ، بعض الجرائم الني تقع على الأشخاص ، ولكن جسامتها تجعلها تهدد الأمن والسلامة العامــة في المدينة ، كالقتـل العمد والحريق العمد ، ثم استمر بعد ذلك نطاق هذا النوع من الجرائم بالاتساع 0

وكان الرومان يجعلون للدولة الحق بإنزال العقاب بالمجرم ، على الجرائم العامة ، بينما يتركون للمعتدى عليه – أو وليه – في الجرائم الخاصة ، حق معاقبة الجاني ؛ وكان لصاحب هذا الحق ، إنزال العقاب أو التنازل عنه وفق مشيئته 0

وكان العقاب على هذه الجرائم ( جرائم الأفراد ) ، يتمثل بدفع مبلغ من النقود للمحنى عليه لا للدولة ، فكانت الجرائم الخاصة إذن وحدها ، مصدرا من مصادر الالتزام في القانون الروماني 0

أما الجرائم العامــة ، فكان العقاب فيهــا بدنيا غالبا ، وبذلك نرى أنه فــي الأمور الجزائيــة قـد حلّ القصــاص محل الانتقــام من المعتــدي نفســه ، بعــد أن تحقـق مبدأ شخصيــة العقوبة ، وللمعتدي أن يفتدي نفسه بمال ، كان يجري تحديده في بادئ الأمر، من قبل حكم يتفق عليه الطرفان ، ثم حدّده قانون الألواح بعد تدوينه ، فإذا لم يدفع المعتدي الفدية ، كانت دينا في ذمته إلى الأجل المتفق عليه ، فإذا امتنع عن دفعها في الأجل المحدد ، كان من حق المعتدى عليه ، الذي اصبح دائنا بها أن يرفع عليه الدعوى 0

وباتساع الدولة وهيمنتها المتزايدة على الأفراد ، أصبحت تتدخل للقيام بنفسها بتوقيع العقاب ، على بعض الجرائم الخاصة ، فصار لها – لهذه الجرائم – عقوبات بدنية توقعها الدولة ، إلى جانب ما كان لها من عقوبات مالية خاصة ، يطالب المجنى عليه توقيعها على الجاني 0 وقد ترك له – للمجنى عليه – في مثل هذه الأحوال ، أمر الخيار بين طريق الدعوى الجزائية المقررة للجريمة الخاصة ، واستيفاء التعويض الذي يحكم به ، وبين ترك الأمر للدولة ، لتباشر بنفسها الدعوى العمومية المقررة للجريمة العامة ، وبالتالي توقيع العقوبة البدنية على الجاني ، بمعنى أن هذه الجرائم صارت تعتبر جرائم عامة وخاصة في الوقت نفسه 0

ومن أمثلة هذه الجرائم التي اكتسبت الصفة العامة بجانب صفتها الخاصة الأصلية ، جريمة السرقة وجريمة الاعتداء على النفس 0

وأول قانون من القوانين الرومانية ، عني بتنظيم أحكام جـرائم القتــل ، هو القانــون المنسـوب إلى ( نوما) NUMA ، ويعاقب على القتل المقصود بالموت ، وقـد انتقل هذا الحكم إلى قانـون الألواح الاثنى عشرية ، أما في القتل غير المقصود ، فكان يتوجب على الفاعل لمحو جريرته ، تقديم قربـان أو أضحية عن روح المجنى عليه ، بمعنى أن مرتكبه لا يحاكم أمام الحاكم 0

وبعد هذا القانون ، صدر قانون ( كورنيليا ) CORNELIA ، وهو قانون نظّم جرائم القتل ، وتميّز بميزتين اثنتين :

الميزة الأولى : أنه وضع عقوبات مختلفة ، باختلاف الطبقة الاجتماعية للفاعلين ( الجناة ) ، فإذا ارتكب جريمـة القتل المقصود ، الشخص الذي ينتمي إلى طبقة رفيعة ، عوقب بالنفي والتغريب ، بينما لو ارتكب الفعل ذاته إنسان ينتمي إلى الطبقة الوسطى في المجتمع ، عوقب بالموت ، أما إذا كان من الطبقة الدنيا ، عوقب بالصلب ؛ ثم استبدلت بها عقوبة الشنق ، ( أي حلت عقوبة الشنق محل عقوبة الصلب ) 0
وكانت جريمة قتل الأب ، تضاهي من حيث جسامتها ، جريمة الخيانة العظمى ، وكان الفصل بهاتين الجريمتين ، يناط بالحاكم المحقق ، الذي استحدثت وظيفته عام /420/ ق 0 م 0
ويروي الدكتور محمد الفاضل فيقول : ( ويبدو أن لقتل الأقرباء – الأصول – في شريعة الرومان ، أهمية خاصة ، فقد كانت عقوبة فاعله أن يجلد أولا ، ثم يلف رأسه بغطاء من جلد الذئب ، وتوضع في أرجله أحذية من خشب ، ويزجّ به في كيس من جلد البقر، ويحشر معه في الكيس ، عدد من بهائم الأرض ، من أفاع وقرود ، وكلاب وديكه ، ثم ينقل الكيس وما فيه ، بعربة يقودها ثوران ، إلى حيث يطرح في نهر( التيبر) ، فتبتلعه ومن معه الأمواج ) أ0هـ النص 0

أما الميزة الثانية التي يمتاز بها هذا القانون ، فهـي اعتبــار كل فعل تم بهدف القتل ، قتلا له عقوبته ، ولن ينس القانون أحوال إباحة القتل كقتل العبد الآبق ، أو من يهتك عرض امرأة ، وأضيفت إلى تلك الأحوال فيما بعد ، حال الدفاع المشروع ، وحال قتل كل جندي ، يقوم بأعمال السلب والنهب في الطريق العام 0

وأخيرا نذكر، أن هذا القانون غفل عن معالجة حالة القتل الخطأ ، فلم يشر إليها ؛ أما من حيث البينة فقد كان إثبات الجريمة ، يتم بواسطة الإقرار واليمين ، والشهود والمبارزة القضائية ، وهذه الأخيرة تتم في مكان مغلق ، مع المحافظة التامة على القواعد المرعية ، وأولها المساواة المطلقة بين حقوق المتبارزين ، وكانت المبارزة تنتهي غالبا بموت أحدهما ، فإذا جرح أحدهما فقط ، فإنه كان يعدم في الحال ، أو ينفى ، لأن الآلهة تكون قد تخلت عنه ، وقد هاجمت الكنيسة المبارزة القضائية ، ولكنها لم تحرّمها بشكل قاطع إلا عام 1215 م 0

البحث الخامس 1025

القتل عند الإغريق

العشيرة بالنسبة لليونانيين ، عائلة أبوية كبيرة ، تنشأ على أساس العلاقة ، العائلية التي يقويها غالبا الاشتراك في عبادة الاسلاف ؛ وعندما ترتكب جريمة بواسطة أحد أعضائها ، فالعشيرة كلها مســؤولة ، وفي الوقت نفســـه فهي – عشيرة المجنى عليه – تطالب بثأر الضحية ، ويعاد السلام إلى نصابه ، إما بتسليم الجاني إلى عشيرة المجنى عليه ، أو بدفع تعويض ، أو بطرد الجاني من عشيرته 0

وبتطور القانون فيما بين القرنين 12 ق م و8 ق م ، وظهور الكتابة في بلاد اليونان ، مرّت البلاد بمرحلة انتقال وتحول ، ومن جملة ما ترتب على ذلك ، اختفاء التضامن العائلي ، فظهر أن الثأر يمثــّل خطرا على النظام الاجتماعي ، مما أدّى في النهاية إلى أن تحلّ الدية الماليـة ، والتي تتناسب قيمتهـا مع مرتبة المجنى عليه ، والجاني محل الثأر 0

واختفى في الوقت نفسه نظام التضامن السلبي ، الذي كان يجعل جميع أفراد العشيرة ، مسؤولين عن العمل غير المشروع ، الصادر عن أحدهم ، فصار الجاني يطرد ، وتأبى العشيرة تقديم الملجأ والحماية له ، ثم ما لبث أن أصبح ذلك قاعدة عامة 0

ولعل أهم القوانين في شريعة الإغريق ، وأشدها صرامة في تجريم القتل والمعاقبة عليه ، هي قوانين ( دراكون ) ومن بعده ( سولون )0

قوانين دراكون : اختار شعب اثينا ، ستة مشرعين لوضع دستور لحمايتهم ، فأخفق هؤلاء – المشرعون – في ذلك ، وانتهى الأمر بتفويض أحدهم ( دراكون ) ، بذلك عام 624 ق 0 م 0

فأبقى دراكون لأرباب الأسر سلطتهم الداخلية ، ولكنه منعهم من اللجوء إلى القوة فيما يقع من اعتداء عليها ، – على الأسر – فإذا قتل فرد من أسرة ، فليس لأحد من أفراد أسرة المقتول ، الانتقـ ام من القاتـل أو أسرته ، فعليه إما اللجوء إلى قضاء المدينة أو المصالحة على مال ، ومؤيد ذلك الإعدام في أغلب الأحوال ، لذلك ضرب به المثل في قسوته ووحشيته 0

ألّف دراكون محكمتين ، إحداهما للقتل والحريق ، وما شابه ذلك من أفعال خطرة ، وراعى فيها القصد الجنائي وتعاقب بالموت ، والثانية للنظر ببقية الجرائم ؛ وقد بقيت أحكام جرائم القتل التي وضعها دراكون ، معمولا بها طيلة عهد الاستقلال لدى الإغريق ، ولم يجرؤ أحد على طلب تعديلها ، إذ كان جزاء هذه المحاولة التجريد المدني 0

وبموجب أحكام القتل ، فقد فرّق الاغريقيون بين القتل المقصود ، وبين القتل غير المقصود ، فالقتـل المقصود ، عقوبته القتل أو النفي المؤبد ، إلا إذا وافق أهل المقتول على المصالحة المالية ، وفي حالتي الإعدام والنفي ، تصادر أمواله لصالح الدولة ، ويحرم من جميع الحقوق السياسية والدينية ، ويحظر عليه دخول المعابد والهياكل ، بل إن الناس يعرضون عنه ، فلا يتحدثون إليه ، ولا يتعاملون معه 0

أما في حال القتل غير المقصود ، فالعقوبة نفي لمدة عام واحد ، وليس هناك من عقوبات تبعية ، كمصادرة الأموال ، أو الحرمان من الحقوق المدنية أو السياسية أو الدينية للجاني ، بل يعود هذا الأخير من النفي متطهرا من جريمته ، وفقا لطقوس دينية معينة ، ويمكن تلافي عقوبة النفي هذه ، إذا تصالح الجاني مع ذوي المجنى عليه ، وهذا يعني بالمعنى القانوني المعاصر، سقوط دعوى الحق العام تبعا لإسقاط الحق الشخصي0

هذا كله إذا كان القتل واقعا على غير الأصول ( أصول الجاني ) ، وإلا فهي جريمة كبيرة من أخطر الجرائم ، وجزاؤها الإعدام بلا معقب ، أما عقوبة الشروع بالقتل عند الإغريق ، فهي كعقوبة القتـل ، والأمر نفسه بالنسبة للمتدخلين والمحرضين والمساهمين 0

وعرف الإغريق أسباب الإباحة والتبرير، ومن ذلك قتل الطغاة ، الذين يغتصبون حقوق الشعب في أثينا ، والقتل دفاعا عن النفس أو الغير، أو المال أو الشرف ، ومع أنه لا تترتب على هذا القتل مسؤولية جزائية ، إلا أنه على الفاعل تطهير نفسه ، وفق طقوس دينية معينة 0

وتناول التجريم من يقتل نفسه أيضا ، فكان الانتحار جريمة مستهجنة ، فيها اعتداء على الآلهة وعلى الجمهورية ، لأنها – جريمة الانتحار – تفقد البلاد واحدا من المنتمين إليها والمدافعين عنها ،؛ ويرى الدارسون ، أن عقوبة الانتحار في شريعة الإغريق ، تحقق هدفين اثنين :
الأول : إرضاء الآلهة0
والثاني : تطهير الأرض التي شربت من دم الإنسان 0

وجدير بالذكر ، أن هذا القانون لم يفرّق بين دم العبد ودم الحر، فكلاهما سواء ، ولكن الشيء المستهجن والغريب في هذا القانون ، أنه كان يعاقب أدوات القتل أيضا ، من آلات وعصي وحجارة ، وغيرها من الجمادات 0

أما فيما يتعلق بالإثبات ، فكانوا يسقون المتهم من دماء قربان ، فإن مات ، انتهى كل شيء ، وإن لم يمت فهو بريء ؛ وانتهى التطور إلى قبول اليمين بدلا من التعذيب ، وهذه اليمين لم تكن توجّه إلا إلى الرجال الأحرار، أما النساء والأجانب والعبيد ، فقد ظلوا خاضعين للنظام القديم 0

كذلك كان اليونانيون يتعارفون إلى رأي الآلهة ، بواسطة الماء ، لأنه – الماء – في نظرهم ، هو النقطة التي يلتقي عندها الموت بالحياة ، فكانوا يقذفون بالمحكوم عليه إلى أعماق البحر، أو يضعونه في تابوت ويضعون هذا التابوت على زورق ، يطلقونه على الأمواج ، فإذا ابتلعه اليم ، فيكون الحكم قـد نفذ ، وإن ألقاه اليم إلى الساحل حيا ، نجا ودخل في زمرة القديسين 0



البحث السادس 1026

القتل في الشريعة اليهودية

الشريعــة اليهودية كالشريعــة الإسلامية – من حيث مصــدرها – شريعة سماوية ، فهـي نزلت كما هو معروف ، على سيـــدنا موسى عليه السلام ، لفظــا ومعنى ، وبذلــك تختلف عن القوانيــن القديمة الأخـرى ، كالقانون البابلي والمصري ، فكانا من وحي الآلهة – بزعمهم – ووضع الملوك المشرّعين 0

وكان القصاص مقرّرا في الشرائع السماوية كلها ، ومنها اليهودية ، بدليل قوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعيـن والأنف بالأنـف والإذن بالإذن والســن بالســن والجروح قصاص ) 0

وجميع الشرائع السماوية ، تعتبر القتل من أكبر الكبائر، والكتب المقدسة ، تجمع على أن أول جريمة ارتكبها الإنسان على وجه الأرض ، كانت جريمة القتل المقصود 0

وجـاء في العهـــد القديــم : ( وعرف آدم حــواء امرأته ، وحبـلت وولدت قايين ، وقالت : اقتنيـت رجـلا من عنـــــد الرب ، ثم عــادت فولــدت أخاه هابيــــل ، وكــان هابيــــل راعــيا للغنم ، وكـــان قاييــــــن عامـلا في الأرض ، وحـدث بعـد أيــام أن قاييــــن قدّم من أثمــار الأرض قربانــا للرب ، وقـدّم هابيـــل أيضـــا من أبكــــار غنمــه ومن سمانــها ، فنظــــر الرب إلى هابيل وقربانه ، ولكن إلى قاييـن وقربانــه لم ينظــر، فاغتـــاظ قاييــن جــدا ، وسقـط وجهــه ، وقـال الرب لقاييـــــن: لماذا اغتظــت ولمـــاذا سقــط وجهـــــك ، إن أحسنـــت فلا أرفـــع ، وإن لم تحســن فعنــد البــاب خطيـــة رابصــة ، وكلّــم قاييــن أخاه هابيـل ، وحدث أن كانــا في حقل ، فقام قايين على هابيل أخيه فقتله ) 0

ودلّــت جريمة ابن آدم قابيل ( قايين ) ، على أن القتل اعتداء على الإنسانية ، قال سبحانه وتعالى : ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنمـا قـتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) 0

وجاءت الشريعة اليهودية ، تفصّـل في أحكام القتل ، فقد احتفظت ببعض آثار الانتقام الفردي ، فهي تقضي بالقتل على القاتل ، عمدا سواء كان هذا القاتل إنسانا أو حيوانا ، فإذا قتل إنسان إنسانا آخر، فيقتل به سواء كان المقتول حرا أو عبدا ، ويسلّم القاتل للولي – ولي الدم – لقتله ، ولا يعترف للجاني قصدا ، بحق الملجأ 0

وجاء في التوراة : ( من ضرب إنسانا فمات ، يقتل قتلا ، ولكن الذي لم يتعمد 0000 فأنا أجعـل له مكانا يهرب إليه ، وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر، فمن بغى عند مذبحي تأخذه إلى الموت ، ومن ضرب أباه وأمه يقتل قتلا 000)0

فالشريعة اليهودية ، أعربت في كثير من نصوص التوراة ، عن رغبتها الشديدة في منع اهراق الدماء ، وفي صيانة حق الإنسان في الحياة ، وأبقت حق القصاص في يد ولي الدم ، لينتقم من الجاني ، ويثأر منه دون أن ينتظر حكما من القضاء ، فولّي الدم في نظر الشريعة اليهودية ،لا يمثّـل أسرة المجنى عليه فحسب ، إنما يمثل القانون الذي خرق الجاني حرمته ، فهو – القانون – رسول العدالة ، وصاحب الحق في الانتقام وممارسة العقاب 0

وجاء في التـوراة : ( سافك دم الإنسان يسفك دمه ، لأن الله على صورته عمل الإنسان ) ؛ وكمـا نوهنا قبــل قليـل ، فإن قتــل حيـوان إنســانا ، فيقتل الحيوان ويقتل صاحبه إذا لم يضبطه ، وقــد فصّـلت التوراة أحكام ذلــك ، فجـاء فيها : ( وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات ، يرجم الثـور ولا يؤكـل لحمه ، وأما صاحب الثـور فيكون بريئا ، ولكـن إذا كان الثـور نطاحا من قبــل ، وقد أشهــد على صاحبه ولم يضبطـه ، فقتـل رجلا أو امرأة ، فالثور يرجم وصاحبه أيضا يقتل ) 0

أما إذا كان القتل غير مقصود – سواء كان ناجما عن خطأ الفاعل أو كان قتلا عارضا – أي قضاء وقدرا – فالعقوبة هي الإقامة الجبرية ، في واحدة من مدن محددة كملاجئ لهذا الغرض ، ومدة هذه الإقامة هي رهن بموت كبير الكهنة ، أي يبقى القاتل في إقامته الجبرية هذه ، حتى يموت كبير الكهنة ، فكأن موت هذا الأخير، بمثابة عفو عام عن الفاعل هذا 0

وجديــر بالذكر، أن القانون القديم ، قد أخذ بمبدأ المسؤولية الجماعية ، فيقتل الأبناء بجريمــة الآباء ، غير أن هذا الحكم قد تبدّل في عهد الأنبياء ، وحلّت محله المسؤولية الشخصية ، وكان بنو إسرائيل قد تحضروا في ذلك العهد وتراخت عصــبيتهم القبلية ، فـقد ورد في التـــوراة : ( لا يقتل الأبنـاء عن الآباء كل إنسان بخطيئته ) 0

وقد أنكر النبي حزقيال ، على بني إسرائيل ، أخذهم بالمسؤولية الجماعية ونهاهم عنها ، ولم يبــق من آثار هذه المسؤولية ، إلا نظام شبيه بنظام القسامة ، الذي عرفه العرب في الجاهلية ، وأقرّه الإسلام ، وكان اليهود يلجؤون إليه ، في حال وجود جثة القتيل في مكان ، دون معرفة قاتله ، فكان الشيوخ والقضاة ، يطلبون إلى سكان أقرب المدن من مكان الجثة ، أن يقسموا أنهم لم يقتلوه ، ولم يشاهدوا قاتله ، فإن أقسموا ، برئت ذمتهم من قتله 0

أما عقوبة القصاص ، فتطبّـق فيما دون القتل ( سن بسن وعين بعين ) ، ويروي المرحوم الدكتور عبد الوهاب حومد فيقول : ( 000 وكانت النار مقدسة عند اليهود ، لذلك كانوا يحتكمون إلى الآلهة بواسطتها ، فمن حكم عليه ، كان عليه أن يجتاز سبع دوائر متباعدة ، وهو قابض بيده الملفوفة بسبع ورقات من التين ، على كرة من الحديد المحمى الأحمر، دون أن تحرق يده ) 0



البحث السابع 1027



القتل في الديانة المسيحية

في الديانة المسيحية ، يرى البعض : أن قتل القاتل لم يكن من مبادئها ، مستدلين على ذلك ، بما ورد في إنجيل متى ، على لسان السيد المسيح : ( سمعتم أنه قيل : العين بالعين والسن بالسن ، أما أنا فأقول لكم : لانتقموا ممن يسيء إليكم ، من لطمك على خدك الأيمن ، فحوّل له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ليأخذ ثوبك ، فاترك له رداءك أيضا ، ومن سخّـرك أن تمشي معه ميلا واحدا ، فامش معه ميلين 000) 0

ولكن الرد على هذا الزعم ، هو أن هــذه وصايا بالعفـو، وليســت نظاما يسنّ ، وقـــد كان النـــبي ( ص ) ، يحكم بالقصاص ، وفي الوقت نفسه كان يدعو إلى العفو ، بل أن الله تعالى قد حبب العفو ورغّـب فيه ، في كثير من المواضع في القرآن الكريم ، ولا يتصور أن يكون سيدنا عيسى ، يسنّ نظاما لا يقتل فيه قاتل ، ولا يضرب فيه معتد ولا يسجن ظالم ، وعلى ذلك يكون ما في الإنجيل من وصايا بالعفو في الجرائم الشخصية ليست قانونا ينفذ ، ولكنه وصية لشخص المجنى عليه ( أو وليه ) ، إن أراد اتّـبعها ، وإلا فالقانون هو الذي ينفذ 0

ويرى البعض الآخر: أن الشريعة المسيحية ، عرفت عقوبة الإعدام ، مستدلا على ذلك ، بما قال عيسى عليه السلام لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة أو الأنبياء ، ما جئت لأبطل بل لأكمل ) 0
وقد تأيّـد هذا النظر ، بما ورد في القرآن الكريم : ( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ) 0

ومهما يكن الأمر، فقد نهى الإنجيل عن القتل ، فقال على لسان السيد المسيح : (سمعتم أنه قيل للأولين لا تقتل ، فإن من يقتل يتوجب حكم القضاء ، أما أنا فأقول لكم : من غضب على أخيه ، استوجب حكم القضاء ، ومن قال لأخيه يا أحمق ، استوجب حكم المجلس ، ومن قال له يا جاهل استوجب نار جهنم ) 0



البحث الثامن 1028



القتل في الجاهلية

في العصور الأخيرة من الجاهلية كانت جرائم القتل العمد من أهم الجرائم المرتكبة وكانت عقوبتها الإعدام ويجوز للملك ان يستبدل الدية بالقصاص 0

وإذا هرب المحكوم عليه بالقتل ، واختفى أثره في أرض جماعة ، فيطلب إليهم تسليمه خلال أربعة أيام ، فإذا امتنع أو لم يعثر عليه لديهم ، كانوا مسؤولين مسؤولية جماعية ، فتصادر غلالهم وتودع في مخازن الملك أو المعبد ، أما إذا كانت – هذه الغلات مما لا يمكن حفظه ، فتباع ويحفظ ثمنها ، حتى يبت الملك في نوع العقوبة ، أو الغرامة التي ستفرض على الجماعة 0

والهدف من ذلك أمران :
الأول : وهو منع احتماء القتلة بعشائرهم أو بمن يلجؤون اليهم0
الثاني : وهو إكراه الجماعة على مساعدة السلطة ، في البحث عن المجرمين 0

أما في الجاهلية المتأخرة – ونقصد الحقبة التي سبقت الإسلام مباشرة – فنرى أن القتل كان أكثر شيوعا في البادية منه في المدن ، وكان جزاؤه الأخذ بالثأر، وهو الأصل عند الأعراب ، وغالبا ما ينتهي تكرار الثأر من كلا الطرفين ، إلى حرب بين قبيلتين ، أو بين عدة قبائل كانت تعقد الأحلاف بينهم ، للنصرة وشد الأزر مع قبيلة أخرى 0

وفي الثأر – كما سنرى في البحث المخصص له – لا يشترط الانتقام من القاتل نفسه ، فكل أفراد قبيلة الجاني متضامنون ، حيال قبيلة المقتول ، ويتحملون بكاملهم مسؤولية فعله ( فعل الجاني ) ، ويلتزم كل فرد فيها ، أن ينصر أخاه ظالما أو مظلوما 0

هذا كله في بعض أنحاء البادية ، أما في المدن ، فكان الأمر أخف وطأة من ذلك ، فاستبدلت مكة والحواضر بالثأر، الاقتصاص من القاتل نفسه ، أو بقبول مصالحته على مبلغ من المال ، وهو الدية تدفعه عشيرته وتفتديه به ؛ وبذلك نرى أن التضامن ، مازال قاسما مشتركا ، بين البادية والمدن ، إلا أن محله اختلف ، فبينما نراه في البادية تضامنا في القتل ، نجده في المدن تضامنا بالمال ، وتبقى المسؤولية الجزائية مسؤولية فردية ، فيقتص من الجاني نفسه في حال رفض المصالحة 0

أما الدية فقد كانت من الإبل ، وكان عددها يخضع لتقدير حاكم المدينة ، الذي يمثل السلطة العامة فيها ، فإذا وافق ورثة المقتول على أخذ الدية ، سيقت إليهم ، وعلقت في فنائهم ، وتسمى العقل ، ويسمى الذين يحملونها من أقارب القاتل وعصبته ( العقلة ) - بفتح جميع الأحرف - وفيما بعد ، تم تحديد عدد الإبل في مكة وبعض القبائل الأخرى ، بمائة منها أو ما يعادلها ، من فضة أو ذهب أو ما شابه ذلك 0

أما عند الأعراب ، فالدية كذلك من الإبل ، لكنها غير محددة العدد ، فهي تختلف باختلاف درجات القبائل وقوتها ، ومكانة القتيل فيها ، فإذا كان هذا الأخير من قبيلة ضعيفة أو من سواد الناس ، فديّـتــه قـد لا تتعدى عشرة من الإبل ، وإن كان حليفا ( مولى ) ، فديّته خمس من الإبل ، وإن كان عبدا رقيقا ، فديّته تكون بمقدار الخسارة التي لحقت بمالكه ، من جرّاء قتله 0

وفي هذا المقام ، لا بد من أن نذكر شيئا عن مصطلح الغطاريف ، وهو يعني الأقوياء المختالون بقوتهم ، فهؤلاء كانوا يدفعون دية واحدة فيمن يقتلون ، ويأخذون ديتين أو اكثر ، عمن يقتل منهم ، وعلى العكس ، كان هناك من القبائل ، من يكتفي بأخذ دية واحدة ، ويدفع ديتين اثنتين لأهل القتيل ، تكرما منهم عليهم 0

وقد ابتدع العرب الجاهليون ، ما يسمى بسهم الاعتذار، لتفادي القتل والاكتفاء بالدية ، وكانوا يلجؤون إلى هذا الأسلوب ، حين تثبت إدانة مجرم ، يريد الطرفان ضمنا إنقاذه ، لمكانته المحترمة عندهما ، فيضربون سهما في كبد السماء ، فإذا رجع ملطخا بالدم ، فلا يرتضون إلا قتله ، وإن رجع كما ضربوه ، مسحوا لحاهم ، إشارة إلى أنهم تصالحوا على الدية ؛ إلا أن الحال تغيرت ، حين تكونت الدولة وأصبح العقاب قائما على أسس جديدة

القتل, دراسة, مقارنة ,بين الفقه, الاسلامي ,والقانون, الوضعي

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع