القائمة الرئيسية

الصفحات

تاريـخُ التشــريعـات والنُظـم القانونيّـة في فلســطينْ (الحلقــة الخامســة)


قانون-عبر العصر الحجري الوسيط (Mesolithic) ويسمّى بعصرِ الميزوليت والنيوليت، يبدأ من 10000 سنة ق.م حتى 5000 سنة ق.م، هجر الإنسان الفلسطيني القديم المغاور والكهوف وانتقل إلى السهول والوديان حيث أقام التجمعات السكانيّة على شاكلة القرى وسكن فيها.

وقد تميز هذا العصر بانتقال السكان الفلسطينيين إلى الزراعة وتدجين الحيوانات وصناعة الأدوات الزراعية، حيث يعتقد المؤرخون أن فلسطين كانت مهد الزراعة الأولى في التاريخ ومنها انتقلت الزراعة إلى بقية أصقاع الأرض، وهو ما جعل المؤرخون يطلقون على هذه الحضارة الزراعية البدائية أسم الحضارة النطوفية نسبة إلى وادي النطوف غربي بيت المقدس وهو موطنها الأصلي.

وهناك الكثير من المواقع في إقليم فلسطين يرجع تاريخها إلى الحضارة النطوفية ونذكر منها جبال مدينة القدس، والمنطقة الواقعة غرب بحيرة الحولة في الشمال، لكن أهمها هي مدينة أريحا في جوار البحر الميت، والتي يعود تاريخها إلى ما قبل الألف السابع ق.م، وهذه المدينة المسوّرة سبقت بآلاف السنين أي استيطان مدني معروف حتى الآن، وحتى قبل الأهرامات الفرعونيّة المصريـة؛ ولذلك فقد اعتبر المؤرخون مدينة أريحا أقدم مدينة في التاريخ. المكتوب.

وعبر العصر الحجري الوسيط، عبد الإنسان الفلسطيني الأول الكواكب، وأن أسماء الأصنام والآلهة، وإن تعدّدت وكثرت، ترجع كلها إلى ثالوثٍ سماوي، هو: الشمسُ والقمر والزهرة, وهو رمزٌ لعائلة صغيرة، تتألف من أبٍ هو القمر، ومن أمٍ هي الشمس، ومن أبنٍ هو الزهرة, وقد كانت أكثر أسماء الآلهة، هي في الواقع نعوتٌ لها، وهي من قبيل ما يطلق على الأسماء الحسنى لله في الدين الإسلامي الحنيف.(1)

وقد لفت الجُرمان السماويان: الشمس والقمر نظر الإنسان إليهما بصورة خاصة، لما أدرك فيهما من أثرٍ في الإنسان وفي طباعه وصحته وعمله، وفي الجو الذي يعيش فيه، وفي حياة زرعـه وحيوانـه، وفي تكوين ليلـه ونهاره، وتبدّل الفصول التي تمر عليه, فتوصل بعقله يوم ذاك إلى أنه نفسه، وكل ما يحيط به من فعل هذين الجرمين ومن أثر أجرامٍ أخرى أقل شأناً منهما عليه, فنسب إليها نموّه وتكوينه وبرءه وسقمه، وحياة زرعه وماشيته، ورسخ في عقله انه إن تقرّب وتعبّد لهما، ولبقية الأجرام، فإنه سيرضيها، وستغدق عليه بالنعم والسعادة والمال والبركة في البنين، فصار من ثم عابد كواكب.

ونجد في قصّة كيفية اهتداء أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام إلى عبادة إلهٍ واحدٍ، الواردة في سورة الأنعام، تفسيراً لسبب تعبد الإنسان للأجرام السماوية, (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين * وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جنّ عليه الليل، رأى كوكباً قال هذا ربي * فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي * فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي هذا أكبر * فلما أفلت قال يا قومِ إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).

كوكب الزهرة هو من لفت نظر إبراهيم، وبهره بحسن منظره وبلونه الزاهي الخلاب، فتعبد له، واتخذه ربّـاً، فلما أفل، ورأى كوكباً آخر أكبر حجماً وأجمل منظراً منه، تركه، وتعبد للكوكب الآخر، وهو القمر فلما أفل، ورأى الشمس بازغةً، وهي أكبر حجماً وأظهر أثراً وأبين عملاً في حياة الإنسان وفي حياة زرعه وحيوانه وجوّه ومحيطه، ترك القمر وتعبّد للشمس، فيكون قد تعبّد لثلاثة كواكب هي القمر والشمس، والمشتري أو الزهرة على ما جاء في أقوال المفسرين، وذلك قبل أن يهتدي إلى التوحيد. 

ويشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى عبادة الإنسان الأول للأجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر(2)، ففيهما قال تعالى (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون), وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام البارزة الظاهرة التي بهرت نظر الإنسان الفلسطيني القديم، ولا سيما الشمس والقمر والزهرة، وإن كانت الأخيرة غير بارزة بروز الشمس والقمر، غير أنها ظاهرة واضحة مؤثرة بالقياس إلى بقية الأجرام، وذات مظهرٍ جذاب، ولون باهر خلاب، وقد يكون هذا المظهر الجميل الأخاذ هو الذي جعلها ابناً للشمس والقمر في أساطير العرب الجنوبيين، حيث اعتبر الجاهليون القمر أباً في هذا الثالوث، وصار هو الإله المقدم فيه، وكبير الآلهة, وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين, وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل التغليب، وعلى الذهاب إلى أن هذا المركز الذي يحتله القمر في الديانة العربية الجنوبية لا نجده في أديان الساميين الشماليين، مما يصح أن تجعله من الفروق المهمة التي تميز الساميين الجنوبيين عن الساميين الشماليين ممن وصلوا إقليم فلسطين.

ويرجع أولئك المستشرقون هذا التباين الظاهر بين عبادة الساميين الجنوبيين وعبادة الساميين الشماليين وتقدم القمر على الشمس عند العرب الجنوبيين إلى الاختلاف في طبيعة الأقاليم، والى التباين في الثقافة، ففي الأقاليم العربية الجنوبية يبقى القمر هادياً للناس ومهدئاً للأعصاب، وسميراً لرجال القوافل من التجار وأصحاب الأعمال في الليالي اللطيفة المقمرة، بعد حرّ شديد تبعثه أشعة الشمس المحرقة، فتشل الحركة في النهار، وتجعل من الصعب على الناس الاشتغال فيه، وتميت من يتعرض لأشعتها الوهاجة في عز الصيف القائظ, إنها ذات حميمٍ حقاً، فلا عجب إذا ما دعيت ب "ذات حمم"، "ذات حميم"، "ذات الحميم" عند العرب الجنوبيين, ولذلك لا يستغرب إذا قدمه العرب الجنوبيون في عبادتهم على الشمس، وفضلوه عليها, وإذا كَانت الشمس مصدراً لنموّ النباتات نموّاً سريعاً في شمال جزيرة العرب، فإن أشعة الشمس الوهّاجة المحرقة توقَفُ نموّ أكثر المزروعات في صيف الأقاليم العربية الجنوبية، وتسبب جفافها واختفاء الورد والزهر في هذا الموسم، فلا بد أن يكون لهذه الظاهرة أثرٌ في العقلية التي كونت تلك الأساطير. 

ويرى "هومل"(3) أن ديانات جميع الساميين الغربيين والعرب الجنوبيين هي ديانة عبادة القمر، أي أن القمر فيها مقدمٌ على الشمس، وهو عكس ما نجده في ديانة البابليين, ويعلّل ذلك ببقاء الساميين الغربيين بدواً مدة طويلة بالقياس إلى البابليين, كما يلاحظ أيضاً أن الشمس هي أنثى، وأما القمر فهو ذكر عند الساميين الغربيين، وهو بعكس ما نجده عند البابليين. الشرقيين.

وهذا ويؤكد المؤرخين أن الإنسان الفلسطيني الأول قد تعبّد للشمس في مواضع مختلفة من فلسطين, وهي عبادةٌ ترجع إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، في زمنٍ لا يستطيع المؤرخين تحديده، لعدم وجود نصوص لديهم يمكن أن تكشف لنا عن وقت ظهور عبادة الشمس عند العرب القدماء, رغم أن أقواماً آخرين من غير العرب من الساميين، مثل البابليين والكنعانيين والعبرانيين قد عبدها, وقد أشير في مواضع عديدة من كتاب العهد القديم إلى عبادة الشمس بين العبرانيين، وجعلت تعاليم التوراة الموت عقوبة لمن يعبد الشمس, ومع ذلك، عبدها هؤلاء, وقد اتخذت جملة مواضع لعبادة الشمس فيها عرفت ب "بيت شيمش" (Beth Shemesh) .

والشمس أنثى في العربية، فهي إِلهة، أما في كتابات تدمر فهي مذكّر، ولذلك فهي إلهٌ ذكر عند التدمريين, ويرى " ولهوزن"(4) (Wellhousen) أن ذلك حدث بمؤثرات خارجية, وكانت عبادة الشمس شائعة بين التدمريين, وورد في الكتابات التي عثر عليها في "حوران" أسماء أشخاص مركبة من شمس وكلمة أخرى، ويدلّ على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة, وذكر "سترابو" (5) أن (Helios) أي الشمس، هي الإله الأكبر عند النِبط, ولكن الكتابات النبطية لا تؤيد هذا الرأي, والإله الأكبر فيها هو "اللات" , فلعل "سترابو" قصد ب Helios اللات, وإذا كان هذا صحيحاً، فتكون اللات هي الشمس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د. جـواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، الجزء الثاني 1980م، ص 681 وما بعدها.
(2) على الرغم من هدم الإسلام لعبادة الكواكب، وتحريم السجود للشمس وللقمر، والصلاة لهما، واجتثاث كل ما له صلة بتلك للعبادة، لا نزال نرى بعض العوام يغضبون إذا مس أحدهم الشمس أو القمر، وبتقرب الأطفال إلى الشمس بأسنانهم التي يخلعونها ويرمونها في وجه الشمس لتعطيهم أسنان غزال، أي أسنانا جميلة بيضاء، إلى غير ذلك من أوابدٍ يعرفها عوام أهل فلسطين.
(3) لمزيد من الاطلاع، أنظر: ديتلف نيلسون وفرتز هومل و ل. رودوكاناكيس وأدولف جرومان، التاريخ العربي القديم، ترجمه فؤاد حسنين علي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958م.
(4) يوليوس ڤلهوزن (بالالمانية:Julius Wellhausen) وهو مستشرقٌ ألماني له دراسات قيّمه عن العرب مثل كتابه (بقايا الوثنيّة العربيّة).
(5) مؤرخ وجغرافي وفيلسوف يوناني، ولد في كبادوكية (أكاسيا) سنة 63 ق.م لأسرة ثرية، توفي سنة 23م، ووالدته جورجية الأصل، تتلمذ على يد الكثير من الجغرافيين والفلاسفة في اليونان وروما وكان من الفلاسفة الرواقيين وكسياسي كان من أنصار الامبريالية الرومانية؛ قام برحلاته المشهورة في البلاد المختلفة في الإمبراطورية الرومانية حتى وصل إلي حدود الجنوبية لنهر النيل في أفريقيا لدراسة المعالم التاريخية والجغرافية، ألف كتاباً أسماه مقتطفات تاريخية «Historika Hypomnimata» وذكر رحلاته في موسوعته (التاريخ الجغرافي) التي تتكون من 47 مجلداً لمختلف البلدان والأماكن في أوروبا وآسيا وإفريقيا، ولم تعرف موسوعته الجغرافية كثيراً في أيامه، وكانت مجهولة في القرون الوسطى حتى ظهرت إلى الوجود في عهد النهضة الأوربية في القرن السادس عشر.
بقلم المستشار/ أحمد المبيض

تاريـخُ, التشــريعـات والنُظـم ,القانونيّـة, في فلســطينْ (الحلقــة الخامســة)

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع