القائمة الرئيسية

الصفحات

تدريب ما لا تَجِدُه في قانونٍ ولا تستَقيهِ مِنْ كِتَابْ


بقلم المحامي محمد سقف الحيط

أذكُرُ يوماً كلّفَنِي أستاذِي عِندمَا كنتُ في فترةِ التدريبِ بإعدادِ مرافعةٍ خطيّةٍ في إحدَى الدّعاوى ، وأذكرُ حِينها أنّ تلكَ المرافعةَ قد رَيَت على أربعِ صَفَحَاتٍ ، وبعدَ جُهدٍ مضنٍ رأتْ هذهِ المرافعةُ النّور ، وبعدَ أنْ نَسَجَتْها خيوطُ الكلماتِ وزيّنتها مراجعَ كثيرةٍ وتطبيقاتٍ قضائيّةٍ شتّى وَضَعْتُها بيْنَ يديْ أسْتَاذِي وانصَرَفتُ إلى مَكْتَبِي منتظراً ملاحظاتِهِ بشأنها .

تدريب  ما لا تَجِدُه في قانونٍ ولا تستَقيهِ مِنْ كِتَابْ
تدريب  ما لا تَجِدُه في قانونٍ ولا تستَقيهِ مِنْ كِتَابْ 


وبعدَ حينٍ من الزمنِ أتانِي أستاذِي إلى مَكْتَبِي - فلمْ يَكُنْ من طبعهِ أن يناديَني إليه ، بل يأتِي ليُكلّفني بما يشاء في مَكْتَبِي - وأشار لي بأنّني وَقَعْتُ بخطأيْنِ جسيميْن ، بدأ التّفكيرُ يجولُ في خاطِرِي في كلّ حدبٍ وصوْب ، ما هممْتُ أن أشرح لَهُ وُجهةَ نظرِي ، إذا به يستأذِنُني بالرّدّ على مكالمة وردتهُ على هاتِفِه .

استّمر الريْبُ في ذهنِي يجول ، وبتّ أمَحِّصُ كلّ سطرٍ قد وردَ في ثَنَايَاها ، ورجعتُ إلى ذاتِ المراجعِِ التي استندتُ اليها ابتداءً !! ورجعت إلى مَلَفّ الدّعوى افتّشُ في سطور اللوائحِ وأوازِنُ في سطورِ البيّنات !!! وما هَدَانِي تفكيري إلى خَلَلْ ، طَالَتْ مدّة مكالمَتِهِ وطَالَت معها مدّة انشغالِي في التفكير والحسبانْ .

أنهى أستاذي مُكَالَمَتِه بعد أن انتهى صبري وأن ارتفعَ منسوبُ الادرنالين إلى حدّه الأقصى !!! جاء اسْتاذِي ، بَدَأتُ مندفعاً أشرحُ له وجهة نظري مستنداً إلى آراءِ الفقهاء الذين استعنْت بمخطوطاتهم !! وكنت أدركُ أنّ استاذِي ممن يعشقُ المستشار فتحي والي فشرحْتُ لهُ وجْهةَ نظَرِه !!!

قالَ لي استاذي : ومن قالَ لكَ أنّي على هذا أسألك ؟؟؟ أجبته : إذنْ أيْنَ الخَلَلْ ؟!؟ اقتربَ منّي وامسكَ أذني وقال لي : عندما تذكرُ اسم موكّلنا تتبعُ اسمه بعبارةِ " وكيله المحامي " أمّا عندما تذكُرُ أسم الخصم تتبعُ اسمهُ بعبارةِ " وكيلهُ المحامي الاستاذ " وأنتَ لم تُتبع اسمه بالاستاذ ، بَدَا شيءٌ من الرّاحةِ يُصِيبني ، ومن ثمّ تذكّرت أن خطاً جسيماً آخرَ قد شابَ هذهِ المرافعةِ ، سألتُه ما الخطأ ؟ قال في ختامِ مرافعتِك تقول للمحكمةِ " اقبلوا الاحترامْ " ومن أنا حتّى آمرَ المحكمة بالقبول !!! المحكمةُ لا تُخاطَبُ بفعلِ الأمر بلْ قُلْ : " وتَفضّلوا بَقبول فائق الإحترام "

لمستُ شيئاً من الانزعاجِِ على وجه استاذِي من ذلِك، غادر غرفتي وذهبَ إلى مكتبِه ، صَوّبتُ ما وقعت به من خطأ ، طبعتُ المرافعةُ مجددّاً وأخذتها إلى غرفتِهِ ، أخذَ قلمهُ بعد أنْ نظَرَ إلى ما شَابَهَا مِنْ خَلَلٍ وتأكّد من قيامي بتصحيحه ، مَهَرَ المرافعةَ بتوقيعهِ وسطَ اندهاشٍ منّي ، سألته وماذا عن القانونْ ؟؟ أجابْ لوْ أردتُ الكتابةَ في القانونِ لما كانَ في وسْعي ما صنعتْ ، ارفقِ المرافعةَ في ملفّها وأعدِ ملفّ الدعوى إلى مكانِه .

احتّل هذا المشْهدُ جزءاً كبيراً من تَفْكِيرِي ، وعادَتْ بي الذّكْرَى إلى هذا المشهدِ اليومْ بعدْ أن زوّدني بمرافعةٍ لغاياتِ تقديمها في دعوى نلتُ شرفَ أنْ أكون مناباً منه في متابعتها ، وطلَبَ منّي أنْ أبديَ إن كان لديّ ملاحظات ، وبمجرّد اطلاعي على نسخةِ هذهِ المرافعة فاذا به يكتب اسم الموكّل متبعاً إيّاها بـــ "وكيلاه المحاميان " ذاكراً اسمي قبلَ اسمه ! غَشِيَني ألمٌ شديد وأوشكت عينايَ بأن تنهمرَ منها الدّموعَ .

تذكّرت كيف كان استاذِي عقب إعداده كلّ لائحةٍ يوردها إلى مكتبي ويسألني " شو رأيك أبو حميد " ، أقولُ في ذهني : ومن أنا حتّى اعقّبَ على ما يقول !! كانَ استاذِي لا يودّ أن اشعرَ بسلطةِ الاستاذِ ، إنمّا يعاملني كمحامٍ زميلٍ يملكُ الرأيَ ويستطيعُ أن يستخرجَ من القانونِ ما يُريدُ ، وكانَ يَرَى التّدريبَ ما هوَ إلّا تدريبٌ على أخلاقيّاتٍ يجبُ أن يحملها المحامي في سلوكِه وأن تنعكس مع زملائه وقبلَ ذلك في محكمته .

كلماتٌ أجدها لا تَفي حقّ استاذِي غيرَ أنّي استذكِرُ في كلّ حينٍ قولَ الشافعيّ " الحرّ من راعَى وِدَادَ لحظة ، وانتمى لمنْ أفادهُ لفظة " . 

ويردّدها لساني في دعاءٍ أن استطيعَ حمل ما رآهُ استاذي مادةً وحيدةً تفي التدريب حقّه

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع