القائمة الرئيسية

الصفحات

في تتبع مصدر الاجتهاد بقلم المحامي عارف الشعال



كان لدينا قضية تحكيمية منذ عدة سنوات بين الموكل المتعهد وإحدى الشركات المساهمة المغفلة، وكانت هيئة التحكيم برئاسة أحد كبار القضاة المحترمين (عضو مجلس قضاء أعلى) 

في تتبع مصدر الاجتهاد بقلم المحامي عارف الشعال

أثناء سير القضية، اتفق الموكل مع خصمه "رئيس مجلس إدارة الشركة" على حلٍ مرضٍ للطرفين، وكان هذا الاتفاق شفهياً ولا يوجد عليه شهود، ثم تراجع الخصم عن الاتفاق بعد فترة، فأردنا إلزامه بهذا الاتفاق فتقدمنا للهيئة بطلب عارض لتثبيته وإلزامه به، وقمنا بتوجيه اليمين الحاسمة لرئيس مجلس الإدارة كوسيلة لإثبات الاتفاق،

نحن نعلم أن توجيه اليمين الحاسمة للشخص الاعتباري موضوع شائك ومثير للالتباس واللغط، ولكننا استندنا لرأي في الفقه على رأسه العلامة السنهوري يجيز توجيهها إذا كانت الواقعة المراد التحليف عليها متصلة بممثل الشخص الاعتباري بالذات، ((السنهوري – الوسيط – ج2 – فقرة 275 – ص530 /// القاضي أنس كيلاني – موسوعة الإثبات – ج3 – فقرة 202 – ص382))

رفضت الهيئة توجيه اليمين الحاسمة بذريعة أن الاجتهاد القضائي الصادر عن محكمة النقض بالقرار رقم 3519 تاريخ 31/ 12/ 1956 والمنشور في مجلة القانون لعام 1956 الصفحة 11، يقول بأن اليمين الحاسمة لا توجه إلى رئيس مجلس إدارة الشركة المساهمة المغفلة، لكونه يعتبر وكيلاً، والوكيل لا يحلف إلا على واقعة متعلقة بشخصه، كما لا يجوز تحليف اليمين على مجرد علمه لكونه ليس خصماً أصلياً في الدعوى، وقررت تكليف الطرفين تقديم أقوالهما النهائية.

لفت نظري أمر غريب في الاجتهاد الذي اتكأت عليه الهيئة، فقد صدر في آخر يوم من عام 19566، وبالتالي يفترض أن يُنشر بأعداد السنة التالية من مجلة القانون، أي في العام 1957، فكيف تم نشره بالصفحة 11 من المجلة في نفس السنة، فضلاً عن أن الصفحة 11 تقع في العدد الأول أو الثاني من تلك السنة، وهذا يتناقض مع تاريخ صدور الاجتهاد المذكور!!

فقمت بالرجوع للعدد المذكور من المجلة (ومكتبتي تتضمن المجموعة الكاملة) فلم أجد أثراً للاجتهاد، فبحثت عنه جيداً في كافة أعداد تلك السنة فلم أجده، فبحثت في أعداد السنة التي تليها فلم أجده أيضاً !!!

فراجعت رئيس الهيئة (قبل موعد الجلسة) وأخبرته بأن الاجتهاد الذي استندوا إليه ليس له أثر، فصارحني بأن عضو هيئة التحكيم المستشار (فلان) هو المسؤول عن ذلك وهو الذي أحضر الاجتهاد، فراجعت المستشار، قال أنه وجد الاجتهاد بمجموعة (تقنين البينات لاستانبولي) وبالفعل رجعت للمجموعة المذكورة، وهي موجودة في مكتبتي أيضاً، فوجدت الاجتهاد منشور بالمجموعة، بنفس رقم القرار والتاريخ، ومن نفس المصدر، فإذن الخطأ بالإسناد وقع في مجموعة استانبولي، وهو خطأ جسيم بدون أدنى شك، وفي الواقع هناك العديد من مكامن الضعف في هذه المجموعة التي تجعلها في مرتبة متأخرة بين مجموعات تصنيف الاجتهادات، ولعل مردَّ ذلك أن المرحوم استانبولي ليس مختصاً بالقانون، ومؤهله العلمي شهادة الثانوية العامة فقط.


في يوم جلسة التحكيم أحضرت معي مجموعة أعداد مجلة القانون لعام 19566 (بلوكة) وأبرزت للهيئة صورة ضوئية عن الصفحة 11 المذكورة، وعن الصفحة 10 و12 أيضاً وهذه الصفحات لا تتضمن الاجتهاد الذي استندت له الهيئة بالطبع، وطلبت من الهيئة مطابقة صورة صفحات المجلة مع الأصل الذي أحضرته، وفي الواقع كنت أعتزم الرجوع لسجل القرارات في محكمة النقض لتلك السنة، ومراجعة القرار الذي يحمل ذات الرقم ومعرفة محتواه من باب الفضول والتزيد، ولكن رأيت عدم جدوى ذلك حالياً، وليس من وظيفتي فعل ذلك، وأن هذه المراجعة يجب على الهيئة أو الخصم أن يقوما بها، واكتفيت بإعادة الكرة لملعب هيئة التحكيم وأبرزت مذكرة تتضمن طعناً بالاجتهاد المزعوم بوصفه لقيطاً ليس له أباً معروف ولا أصل أو مصداقية وطلبت إعادة توجيه اليمين الحاسمة لرئيس مجلس الإدارة.

فاستمهل الخصم للجواب.
ثم استمهل ثانية!!!
ثم استمهل ثالثة!!!!!
وكان من المستغرب فعلاً تساهل الهيئة بإمهاله المرة تلو الأخرى بذرائع واهية، بالرغم من اعتراضنا.

ثم حضر وأبرز بياناً يفيد بتغيير رئيس مجلس إدارة الشركة والمجلس برمته، وتنصيب مجلساً جديداً برئيس جديد غير ذلك الذي وجهت له اليمين الحاسمة، وبالتالي لم يعد من الجائز تزوجيه اليمين للرئيس الجديد لمجلس الإدارة لأن الاتفاق لم يتم معه، فأسقط بيدنا، فطلبنا الحكم بأساس النزاع، والذي يقل مردوده على الموكل عن ذلك الذي افق عليه مع رئيس مجلس الإدارة السابق وطلبنا تثبيته.

وقد كان ملفتاً للنظر أن الزميل وكيل الخصم، بدلاً من الدخول بجدال حول جواز توجيه اليمين للشخص الاعتباري، فضَّل تغيير مجلس إدارة الشركة، وهي مسألة معقدة وتحتاج لاجتماع هيئة عامة وإعلام وزير التجارة، وهيئة الأوراق المالية، وحضور مندوب عن الوزارة وغير ذلك من إجراءات !!! 

الزملاء الكرام:
لاحظت خلال ممارستي للمهنة، أن من المحتمل أن يقوم البعض من الأساتذة للاستعانة باجتهادات محرفة أو غير صحيحة، 
لذلك أنصح الزملاء إذا وجد بمذكرة الخصم اجتهاد غريب أو مصيري يتوقف عليه البت بالنزاع، أن يرجع لمصدر الاجتهاد ويتفحصه ملياً،

ومصدر الاجتهاد دائماً هو سجل قرارات المحكمة نفسها التي أصدرته، 
وهذا السجل محفوظ في مستودعات المحاكم، لا يتلف بمرور الزمن.

من جهة أخرى، ومن الناحية القانونية: فإنه لا يجوز فعلاً توجيه اليمين إلى الشخص الاعتباري أو من يمثله (نقض-ق 2295 – تا 21/ 9/ 2003 – مجموعة الحسيني في الإثبات-قا 1493 وما بعدها)

ولكن العلامة السنهوري له رأي مقتضب في المرجع المذكور أعلاه يستشف منه جواز توجيه اليمين للشريك في الشركة، أو مدير المصرف في حالات معينة، وهناك رأي في الفقه قريب له يمكن تتبع أثره للمهتم في كتابات أحمد نشأت وسليمان مرقس.

ولكن المفارقة المدهشة، أن الاجتهاد الذي كان محل خلاف مع هيئة التحكيم والذي أورده المرحوم استانبولي مجهول المصدر يتبعه الاجتهاد القضائي الحديث، فقد أورد الأستاذ الحسيني في مجموعة الإثبات المتميزة تحت القاعدة رقم 1495 اجتهاد حديث لمحكمة النقض برقم 449 تاريخ 18/ 3/ 1991 استند للاجتهاد المزعوم صدوره في العام 1956، مما يعني أن هذا الخطأ والجهالة بمعرفة مصدر الاجتهاد بات ركيزة يؤسس عليها!! مما يحتاج معه لباحث ينقب ويبحث عن أصل هذا الاجتهاد إن كان له وجود.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع