القائمة الرئيسية

الصفحات

معضلة القاعدة القانونية الجديدة، والنضال لتطبيقها

معضلة القاعدة القانونية الجديدة، والنضال لتطبيقها

معضلة القاعدة القانونية الجديدة، والنضال لتطبيقها
معضلة القاعدة القانونية الجديدة، والنضال لتطبيقها

بقلم المحامي عارف الشعال 

لا يخفى على أهل القانون المشاكل التي يثيرها النصّ القانوني الجديد الذي يستحدثه المشرع عند تطبيقه عملياً على أرض الواقع، فهو يحتاج وقتاً قد يطول، حتى يستقر ويألفه المشتغلون به ويصبح لديهم من العاديات.

النص الجديد، بذرة ينثرها المشرع في التربة، يتولاها رجال القانون، كل من موقعه، بالرعاية سقياً وتسميداً، فقهاً واجتهاداً، فتنمو وتكبر لتصبح شجرةً باسقةً ترسخ جذورها في الأرض، وتتسامى أغصانها باتجاه الشمس، فإذا ما سقمت هذه الشجرة أو شاخت، تدخل المشرع ثانية بالعلاج المناسب.

قُيض لزميلنا المحامي "معن عثمان"، أن يبدأ برعاية البذرة التي نثرها المشرع في الفقرة / ز/ من المادة 223 من قانون أصول المحاكمات الجديد التي تقول:

((إذا كان المطعون ضده مجهول محل الإقامة، وجب على الطاعن تبليغه في إحدى الصحف اليومية وفي لوحة إعلانات المحكمة خلال مدة خمسة وأربعين يوماً، تبدأ من اليوم التالي لتسجيل الطعن {بالنقض} تحت طائلة بطلانه))

فقد كان وكيلاً عن المدعي بدعوى ضد عدد لا بأس به من المدعى عليهم، منهم معلوم الإقامة، بُلغ الدعوى والأحكام الصادرة فيها على موطنه، ومنهم مجهول الإقامة بُلغ بالصحف، 
حتى صدر حكم محكمة الاستئناف لصالحه، فقام بتبليغه للخصوم على موطنهم، أو بالصحف، حسب الحال.
قام أحد الخصوم بتسجيل طعناً بمواجهة أطراف الدعوى جميعاً، وأرفق معه نسخاً بعدد الأطراف المعلوم موطنهم لتبليغهم الطعن، وبقي على الطاعن التزام تبليغ مجهولي الموطن بالصحف، وقد منحه النص الجديد مهلة 45 يوم فقط من أجل ذلك تحت طائلة اعتبار الطعن باطلاً،

لا يخفى على أي متمرس بالقانون أن الحكمة من النص الجديد، تتجلى بقطع الطريق على التراخي الذي يلجأ له الطاعن الذي ليس له مصلحة بالدعوى فيعمد للمماطلة، ولا يقوم بتبليغ الطعن بالصحف للخصم الذي سارت الدعوى بحقه بهذا الشكل، ومن المعلوم أن محكمة النقض لا تنظر بالطعن قبل تبليغه للخصوم، 
ومن المعلوم أيضاً أن التبليغ بواسطة الصحف يشكل عبئاً مادياً على الطاعن، (ثمن نشر الكلمة الواحدة بالصحيفة 60 ليرة سورية، فكم كلمة يعدّ الطعن؟)
من أجل هذا الأسلوب قرر المشرع النص الجديد، قاطعاً الطريق على المماطلة، وإكراه الخصم بتكبد تكاليف قد تكون جسيمة، وهي مهلة كافية ومناسبة جداً برأيي إذا أخذنا بالحسبان إضافة مهلة الأصلية للتقدم بالطعن وهي 30 يوماً.

زميلنا معن صاحب المصلحة بالإسراع بالدعوى، انتظر خصمه الطاعن طيلة 45 يوماً، ليستكمل إجراءات تبليغ الطعن بالصحف، فلم يفعل ذلك!!
وبالتالي فقد ارتكب المحظور الذي نصّت عليه القاعدة الجديدة، وأضحى طعنه باطلاً في هذه الحالة. 
فمن الذي سيقرر الطعن وما هي آليته، هذا ما سكت عنه النصّ الجديد.
فبدأ الأستاذ معن رحلة شاقّة طويلة لم تنته بعد لتطبيق النص الجديد، رحلة مضنية بالمراجعات تجاوزت في الواقع رعاية بذرة، لتصل لدرجة النحت بالصخر.

باختصار شديد تقدم بطلب لرئيس محكمة الاستئناف لاعتبار الطعن باطلاً، بسبب المخالفة الصريحة للنص، فقرر أن ولايته بنظر الدعوى انقضت، وأن محكمة النقض هي من تقرر البطلان، وهذا رأي سديد في الواقع.

المعاناة بدأت بكيفية إرسال الملف لمحكمة النقض بدون اكتمال التبليغات، وهذه مسألة من المحظورات إذ أن محكمة النقض لا تستقبل الطعن قبل اكتمال تبليغه، فلا مجال لإرسال الملف في هذه الحالة، وبناء عليه تريث رئيس محكمة الاستئناف بإرسال الملف قبل إيجاد مخرج قانوني مناسب.
استشيرت إدارة التشريع بالموضوع خطياً، فتملصت من الإفتاء به، وقد استغرق الحصول على كتاب رحلة طويلة ومحطات عديدة، ومراجعات متنوعة لا يتسع المجال لذكرها.
راجع الأستاذ معن رئيس محكمة النقض شخصياً ليطلب الملف، وشرح له الحالة الجديدة، فرفض طلب الملف لأسباب تتعلق بالتراتبية!!
عاد أدراجه وشرح لرئيس محكمة الاستئناف ما حصل معه، فقدر معاناته، وأرسل الملف لمحكمة النقض على مسؤوليته بدون اكتمال التبليغات.
وصل ملف القضية (الطعن) أخيراً لمحكمة النقض، وسجل في دفتر قيد المحكمة كالمعتاد، ولم تفلح مساعي الأستاذ معن بأن تستثنيه الهيئة من الدور، كون الحالة جديدة وفريدة وواضحة لا تحتاج وقتاً لدراستها،
لم يطل الانتظار أكثر من شهر من الزمن حتى نظرت به الهيئة الكريمة، وكانت المفاجأة للأستاذ معن، ولنا أيضاً، أن الهيئة الموقرة لم تقرر بطلان الطعن، وإنما ترقين الطعن وإعادة الملف لمحكمة الاستئناف، وكرست مبدأً جديداً وملتبساً فعلاً مفاده، أن مهلة الـ 45 يوم تبدأ في هذه الحالة، من تاريخ تقديم طلب خطي لتبليغه بالصحف، بالرغم من أن النص يقول صراحة أن هذه المهلة تسري من اليوم التالي لتسجيل الطعن!!
وقد استدلت برأيها هذا بالمادة 344/ آ أصول (المتعلقة بالتبليغ في المناطق غير الآمنة).

في الواقع أنا شخصياً لا أتفق مع ما ذهبت إليه الهيئة الموقرة التي أحترم أعضائها وأقدر فعلاً فهمهم العميق للقانون.
بتقديري الشخصي أن حس العدالة المرتفع لدى الهيئة الكريمة هو الذي وقف خلف هذا النهج المفاجئ، فقد أبى عليها هذا الحس العالي، الإطاحة بالطعن وإبطاله لهذا السبب، إذ قد يكون لدى الطاعن عذر ما بالتخلف عن التبلغ بالصحف يقتضي منحه فرصة أخرى لتبليغه، وهذا ما فعلته الهيئة.

ولكن بالمقابل هذا النهج يعيد المتقاضين للمربع الأول!، 
فماذا لو لم يتقدم الطاعن بطلب للتبليغ بالصحف؟
وكيف ستجبره محكمة الاستئناف على التقدم بهذا الطلب لتسري المدة؟؟

إزاء هذه الإشكاليات سيجد المطعون ضده نفسه مضطراً للقيام بنفسه بهذا التبليغ وتحمل تكاليفه الباهظة، وبالتالي يغدو النص الجديد أثراً بعد عين، وهذا ما لا يريده المشرع بالتأكيد.

لا يخلو تطبيق أي قاعدة قانونية جديدة، من قسوة، ولكن الأسباب الكامنة خلف إقرارها تسوّغ هذه القسوة بالتأكيد، 
القسوة بالتطبيق، هي التي تمنح النص الجديد القوة والوجود، ولولاها لأُفرغ من مضمونه، وبات كأن لم يكن.
القسوة تكون في البداية فقط، ومع مرور الوقت، ستغدو من المسلمات والبديهيات، وسيعتادها المتقاضون ويتفهموها.

على سبيل المثال مهلة الطعن بالنقض لأي حكم ثلاثون يوماً، فإذا قُدم باليوم الواحد والثلاثون ستكون نتيجته الحتمية هي الردّ شكلاً، بدون التماس أي عذر للطاعن، وبدون أن يعتبر الرد قسوة غير مبررة، فقد اعتاد المتقاضون هذا الأمر، وبات لديهم من المسلمات.

هناك حكمة تقف خلف إقرار مختلف القواعد الشكلية، لا يتسع المجال لعرضها في هذا المقام، الحكمة الذي يتوخاها المشرع، لا تتحقق إلا بالتطبيق الصارم للنص.

لذلك أرجو ألا يستقر هذا المبدأ، وأن يتم العدول عنه بأقرب فرصة.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع