القائمة الرئيسية

الصفحات

محامي من وحي الخيال

 محامي من وحي الخيال


دخل المحامي قاعة محكمة "استئناف الجنح" لحضور دعواه التي كانت مرفوعة للتدقيق، ويتوقع النطق بالحكم يومها.
لفت انتباهه الهدوء التام في القاعة لدرجة الصمت المطبق، وكان واضحاً أن المحامين والمتقاضين واقفين بعيداً عن منصة القضاء بحالة انتظار وترقب.


التفت نحو قوس المحكمة فوجد المستشارَين ووكيل النيابة فقط يعلونه، وكان مقعد رئيس المحكمة وكاتب الضبط فارغاً، فجال بنظره أرجاء المحكمة بحثاً عنهما فلم يجدهما بالقاعة، فاستنتج أن الجميع ينتظر حضورهما لبدء الجلسة.
انتحى المحامي مكاناً جانب المنصة، واقفاً بين المنتظرين ينتظر بدء الجلسة،


بدأت أفكاره بالتداعي متسائلة:


هل تفعلها المحكمة وتحكم موكله بجرم إساءة الأمانة الذي ادعى به الخصم؟؟


هل يمكن للمحكمة أن تعتبر تسليم الملابس لموكله (صاحب المصبغة) بقصد تنظيفهم وكيّهم، وتسبب عامل المصبغة بتلفها عن حسن نيّة، وطلب مالك الملابس ثمناً باهظاً لهم، واختلافه مع الموكل حول ثمنهم، يشكل جريمة إساءة أمانة؟؟


صحيح أن محكمة الدرجة الأولى قضت باعتبار الخلاف مدنياً، وشاهدت النيابة العامة الحكم، ولم يعد هناك خوف من حبس الموكل بسبب انقضاء دعوى الحق العام، ولكن محكمة الاستئناف قررت إجراء خبرة فنية لتقدير ثمن الملابس الذي بالغ الخبير كثيراً بتقديره، مما يُعدُّ مؤشراً واضحاً على اتجاه المحكمة للحكم بدعوى الحق الشخصي لمصلحة المدعي، 

تُرى هل يمكن للمحكمة تجاهل دفوعه بأن العلاقة بين الطرفين عبارة عن عقد "مقاولة" ذات طابع مدنيّ، وما جرى لا يعدو كونه خطأً عقدياً، لا يحمل أية نية جرمية ترمي لقلب الحيازة الناقصة للملابس لحيازة كاملة، فموكله لم يقصد كتمها عن المدعي ولم يتصرف بها؟؟


قطع سلسلة أفكار المحامي وأوقف تداعيها، صوت أحد المستشارَين سائلاً إياه عن رقم دعواه، فأخبره به.
ففتح الملف وأخرج الحكم، وأخبره ما خلصت إليه المحكمة، من فسخ القرار المستأنف، وإلزام موكله بدفع القيمة الباهظة للملابس كما قدرها الخبير.

امتعض المحامي من الحكم وهمّ بالانصراف بعدما شكر المحكمة، فاستوقفه المستشار قائلاً:


- لقد ثبّتنا حضورك الجلسة أستاذ!! (وكتب على غلاف القضية ما يفيد ذلك)
فوجئ المحامي من التصرف، وما يعنيه ذلك من سريان مدة الطعن بالحكم بحقه فوراً، وقد جرت العادة على تثبيت غياب من خسر الدعوى، بغية منحه مزيداً من الوقت لإعداد الطعن بعد تبلغه الحكم، فقال للمستشار بلهجة استغراب:
- أحضّرتني الجلسة؟؟!!

أجاب المستشار بالإيجاب، واستطرد قائلاً:
- مدة شهر أكثر من كافية لتحضير الطعن بالحكم يا أستاذ.
لم يرق للمحامي هذا التعليق الأخير، وتفاقم استياؤه، فقال للمستشار:
- ولكن هناك خلل بتشكيل المحكمة يا أستاذ!!
- لماذا؟؟ أجاب المستشار.

- لأن هيئة المحكمة ينقصها الرئيس وكاتب الضبط، وحضرتك لا تملك حق تلاوة الحكم نيابة عن الرئيس برفقة مستشار ثانٍ ووكيل نيابة فقط!!


شعر المستشار بالإحراج، وأجاب بلهجة جافة بعدما قطّب جبينه قائلاً:

- الرئيس والكاتب لديهم استجواب بغرفة رئيس المحكمة وسيعودون بعد لحظات، ارجع أنت بعد قليل لتحضر الجلسة.
- لا لن أرجع يا أستاذ فلدي ارتباط وسأغادر فوراً إلى مكتبي.
- فإذن اعتبر نفسك حاضراً للجلسة يا أستاذ.


لم يشأ المحامي أن يزيد الموقف تفاقماً أمام الحضور الذين تابعوا الحوار بشيء من الذهول، فأحجم عن التلويح باستشهاد الحضور على كيفية تلاوة الحكم بالجلسة، وانصرف دون أن ينبس ببنت شفة، مكتفياً بهذا الحد من الحوار، إذ شعر بأن الاستمرار في الجدال بهذا الشكل سيتسبب باستعداء المستشار وهيئة المحكمة بكاملها له، وهو ما لا يرغب به بكل الأحوال.


في اليوم التالي راجع المحامي ديوان المحكمة واطلع على ضبط الجلسة، فوجد أن المحكمة ثبتت حضوره فعلاً....
طعن بالحكم ضمن المدة ولكن محكمة النقض رفضت الطعن وصدّقت القرار المطعون به، وبالنتيجة دفع موكله المبلغ المرقوم نسبياً. 


وكانت المحصلة خسارة المحامي ثقة موكله، الذي قام بتوكيل محام آخر في دعوى إساءة أمانة أخرى أقيمت بحقه جراء فقدانه "سجادة" أرسلها له أحد العملاء لتنظيفها.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع