القائمة الرئيسية

الصفحات

من كتاب انا وبغداد للمؤلف أ.د حكمت شبر

من كتاب انا وبغداد للمؤلف أ.د حكمت شبر

بقلم أ.د حكمت شبر 

لا يمكنني وانا أتحدث عن بغداد وعلاقتي الحميمة بها . أن أمر مرور الكرام على أهم حدثين في حياتي وحياة العراق . هذان الحدثان لعبا دوراً مهماً وخطيراً في تطور الأحداث أيجاباً وسلباً في مصير العراق .

الحدث الأول والمهم بعد مرحلة السبات التي غمرت اجواء العراق السياسية نتيجة لسياسة نوري السعيد في محاربة قوى المعارضة وما أصدره من قوانين تلغي الحياة السياسية حرّم ومنع جميع الأحزاب والهيئات السياسية والنقابية ، وصادر الحريات السياسية ، وأمر بنزع الجنسيات عن المنتسبين لأنصار السلام والشبيبة والشيوعيين وتهجيرهم خارج القطر ، وحلّ مجلس النواب ، الذي صعد إلى صفوفه عشرة نواب من المعارضة ، ولم يكن بينهم أيٌ من الشيوعيين ، وهاجم سجانّوه وقتلوا العديد من الشيوعيين في سجن بغداد والكوت وفتح معسكرات الأعتقال للشباب والمفكرين والمثقفين العراقيين . بأختصار كانت غمامة سوداء تغلّف أجواء بغداد وبقية المدن العراقية . وكنا نحن الطلبة نعمل بالسر لمحاربة حكومة نوري السعيد .

وهنا لابد لي من ذكر حقيقة تاريخية مهمة ، فلولا أجراءات ذلك السياسي المخضرم وعمالته لأسياده الأنجليز ، بل تخطى سياستهم الأستعمارية ، وأصبح كما يقال (ملكياً أكثر من الملك) في قمع وأضطهاد شعب العراق ، ولو كان قد سمح لمجلس النواب الجديد بالعمل ، وأعطى بعض الحريات الديمقراطية للمواطنين والأحزاب القومية والديمقراطية ، لما حصل في بلادنا ما حصل من تطورات عنيفة ، ولما حصلت ثورة 14 تموز عام 1958 .

ولنا في هذا المجال خير شاهد على أستقرار وتطور بلد شقيق وجار ، الأردن الذي تطورت عبر أستقرار نظامه السياسي والحياة الديمقراطية ، وأن كانت تعتريها بعض النواقص ، ولكن سياسة الملك حسين الحكيمة حفظت للبلد توازنه وأستقراره وتطوره ، بالرغم من أفتقار الأردن للثروات المعدنية وتبعيته لعدد من البلدان التي تزوده بالمساعدات الأقتصادية . ومن ضمن من ساهم في بناء هذا البلد ، العراق في عهد صدام حسين الذي استمر طويلاً في مد يد المساعدة الأقتصادية لنظام الملك حسين .

حرّكت العراق وايقظته من غفوته أحداث مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر ، بعد أنقلاب عام 1952 . فقد أنتهج عبد الناصر سياسة وطنية معادية للأستعمار ونهج نهجاً حيادياً ، بأنضمامه إلى كتلة عدم الأنحياز قام عبد الناصر بخطوات جبارة داخل مصر ، لم تجرأ أية دولة حديثة ، استقلت عن نظام الأستعمار بأنتهاجها . فقد ردّ على الغرب وأمريكا ، التي وعدته ببناء السد العالي وتراجعت عنه للضغط على سياسة ناصر الجديدة في معادات الأستعمار .

كان رده صفعة كبيرة للغرب وأعوانه المتربصين للثورة المصرية حين قام بتأميم شركة قناة السويس ، التي شكلت دولة داخل الدولة . وكانت واقعياً تدير النظام السياسي في مصر . 
حرّكت عملية تأميم شركة قناة السويس الجماهير العربية في كل مكان خصوصاً إذا تذكرنا فشل التأميم الأيراني لشركة النفط الأنجليزية والحصار ، الذي ضربته الأساطيل الغربية على تصدير النفط المؤمم في أيران ، وما تبع ذلك من أنقلاب زاهدي على حكومة مصدق الوطنية .
كان الفرح الممزوج بالخوف على مصر والثورة المصرية هو المزاج العام في العراق الخاضع لأضطهاد نظام نوري السعيد البوليسي ، كانت جماهير الطلبة وهي تستعد لخوض معركة قادمة تتطلع بشغف وشوق إلى معركة مصر مع الشركات المدعومة من قبل الدول الأستعمارية . وكانت هناك معركة أخرى ضارية في الوطن العربي . تتمثل في معركة الجزائر ضد الأستعمار الفرنسي والتي حضيت بدعم كبير من العرب وبضمنهم الجماهير العراقية .
كنا نترقب ما تؤل إليه نتائج التأميم مدركين أن الغرب لن يقبل بتلك الصفعة التي وجهها عبد الناصر لعنجهيته ، وكانت بوادر التآمر على مصر تبدو واضحة في مجلس الأمن وأجتماعات ممثلي الدول الأستعمارية للرد على مصر والتآمر على ثورتها بقيادة عبد الناصر. 
كنا في الوسط الطلابي نقوم بنشاطات مختلفة لدعم الثورة الجزائرية والوقوف إلى جانب مصر في كفاحها ضد الدول الأستعمارية . فكم من مرة تجمعنا في نادي كلية الحقوق وطالبنا بدعم مصر والثورة الجزائرية وسقوط حكومة نوري السعيد . متحدين الأجراءات البوليسية والرقابة من قبل وكلاء التحقيقات الجنائية . وكنا نعمل جادين من أجل كسر نطاق الخوف الذي شلّ النشاط السياسي بعد الأجراءات التعسفية من قبل حكومة نوري السعيد من أسقاط الجنسية وحضر نشاط الجمعيات الجماهيرية والنقابات والأحزاب السياسية ، وبالفعل أستطعنا أن نُهيّأ ونحضر جماهير الطلاب للمعركة القادمة لعملنا وتنبأنا بقرب المعركة القادمة مع حكومة نوري السعيد المتعاونة مع الأستعمار الأنجليزي . وكنا نستعد للتظاهر والقيام بأنتفاضة جديدة ضد الحكومة الرجعية بعد خمود الحركة الوطنية نتيجة سجن وقتل العديد من المناضلين الشيوعيين في سجون الطاغية ، ومعسكرات الأعتقال للمثقفين من أساتذة ومهندسين وطلاب في معسكر السعدية لشل الحركة الجماهيرية المطالبة بأسقاط الحكومة .
كنا نحن الطلبة اليساريون في كلية الحقوق نقوم بالتفاوض مع الحركات القومية في الكلية من أجل التهيئة للمعركة القادمة وكنا نحاول تجميع قوانا الممثلة لليسار والقوميين من بعثيين واستقلاليين ومع ممثلي الحركة الكردية لتكوين تجمع وطني يضم صفوف الشعب في جبهة وطنية تقود النضال الجماهيري .
وحصل ذلك حين توحدّت قوانا في المظاهرات العارمة التي خرجت بعد العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة ، والتي هزّت وأشعلت نيران الأنتفاضة ليس في العراق فحسب ، بل في العديد من البلدان العربية ، وكانت تلك هي المرحلة المهمة في نهوض حركة التحرير العربية في البلدان الخاضعة للأستعمارين الفرنسي والأنجليزي .
خرجت الجماهير العربية منددة بالأستعماريين المعتدين على مصر من (المحيط الهادي إلى الخليج الثائر) وكانت تلك النهضة الكبيرة للعرب هي البداية المهمة لسقوط الكيانات الأستعمارية في بلداننا العربية ، وهي نتيجة مهمة وكبيرة من نتائج ما قام به جمال عبد الناصر من خطوات وطنية تمثلت في تأميم شركة القناة ، وأنضمام مصرإلى حركة الحياد ، وشراء الأسلحة من جيكوسلوفاكيا وكسر أحتكار السلاح ، والتوجه إلى الأتحاد السوفيتي لتمويل بناء السد العالي . 
كانت أجتماعاتنا في خريف عام 1956 مستمرة نحن الطلبة اليساريين مع ممثلي التكتلات القومية لتوحيد قوانا ، وحين بدأ العدوان ، أنطلقت جماهير طلابنا بقيادة ممثلينا من شيوعيين وبعثيين وديمقراطيين وقوميين . وكنا متوجهين نحو كلية دار المعلمين العالية ذات الجماهير الطلابية الكبيرة ، توحدنا معهم وسرنا نحو كلية التجارة ، فتجمع الطلاب بالآلاف وهم يهتفون بحياة عبد الناصر ، وأنتصار الثورة المصرية ، وسقوط حكومة نوري السعيد الممالئة للأستعمار ، وتوجهنا نحو باب المعظم عازمين على التظاهر في شارع الرشيد ، فجابهتنا قوات من الشرطة وأطلقت علينا الرصاص الحيّ ، فقتل أحد الطلاب البعثيين (الشهيد ناجي) وجرح العديد ، وأضطرت الجماهير ألى التفرق فذهب قسم منا إلى كلية الهندسة للأنظمام إلى الطلبة المتجمعين فيها ، والقسم الآخر تفرق في الطرقات القريبة من باب المعظم . وكان طلبة الكلية الطبية مع طلاب كلية الصيدلة وطب الأسنان يتظاهرون متوجهين إلى باب المعظم ، لكن رصاص شرطة نوري السعيد أعادهم إلى كلياتهم .

وكانت هناك تظاهرة أخرى تحركت من قرب سوق الصفارين بقيادة الشيوعيين ، والتي جوبهت بنفس أجراء القمع وأستخدام الرصاص الحيّ ، حيث سقط صريعاً في تلك المظاهرة الشهيد عواد الصفار .

كانت أنتفاضة بأمتياز في الكثير من المدن العراقية ، وبالأخص في بغداد والنجف ، فقد أستمرت المظاهرات وأضراب السوق الكبير في مدينة النجف أسابيع طويلة بعد أغتيال الشرطة لشابين من عائلة ( الدجيلي ، وشيخ راضي ) . وقد ساهمنا أنا وأصدقائي بعد صدور أمر أغلاق الكليات في بغداد ، بتلك المظاهرات ، وكان للمرأة دور كبير ومميز في المشاركة بمظاهرات النجف .

كما لعب المجتهد الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء دوراً مهماً في دعم الأنتفاضة ضد الحكومة الرجعية في بياناته وخطاباته ، وبقيت جذوة الأنتفاضة مشتعلة في مدينتنا بالرغم من أنتهاء العدوان الثلاثي . فقد أشعل العدوان نيران الثورة لدى أبناء المدينة الثائرة دوماً ضد الأستعمار والرجعية . 

كان موقف الحكومة مخزياً إزاء العدوان الثلاثي ، فقد توقفت الأذاعة عن بث أخبار المجازر التي أرتكبتها دول العدوان ضد الشعب المصري بأوامر من رئيس الوزراء نوري السعيد ، ولن ينسى العراقيون خطاب (نوري باشا) ذلك الخطاب الملئ بالتهجم على شخص عبد الناصر والثورة المصرية وتمجيد حلف بغداد والدول الأستعمارية ، شاتماً الأحزاب الوطنية العراقية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي ، الذي كان يتهمه دائماً بالعمالة لموسكو . وأنهى خطبته بأهزوجة على الطريقة العراقية الريفية (دار السيد مأمونة) ، ولكن لم يمض على ذلك الخطاب سوى سنتين حتى قامت الثورة وقتل (الباشا) ، فأين الأمان الذي أعلنه نوري السعيد . وبهذه المناسبة كنت ولازلت ضد العنف السياسي والجسدي في ممارسات العمل السياسي ، وما أرتكبته وترتكبه الجماهير المنتسبة لمختلف الأحزاب اليمينية واليسارية . وما نشاهده اليوم ماهو إلا أمتداد لذلك العنف ، الذي غطىّ الساحة العراقية منذ ثورة تموز وحتى الوقت الحاضر . فقد شهدت الساحة العراقية جرائم بشعة بحق المعارضين لمن تولى الحكم في مختلف الأدوار منذ عام 1958 .

وهناك ملاحظة لابد ان أقولها بشأن من يحاول أن يزكيّ النظام الملكي ويضفي انواع النعوت الطيبة على نوري السعيد ويحاول تبرئته من الجرائم التي أرتكبت بعهده ، محاولين تبييض صفحته ، وأعتباره من أساطين الوطنية العراقية مهاجمين عنف الجماهير التي أرتكبت خطأ كبيراً في التجاوز على رمسه وسحله في شوارع بغداد . ولكني أذكرّ هؤلاء بمن بدأ بذلك العنف بعد ثورة عام 1941. فقد أصرّ عبد الأله ونوري السعيد على أعدام العقداء الأربعة . والتي أورثت الجماهير العراقية الثائرة حقداً استمر بالتوهج حتى ثورة تموز التي أرتكبت فيها جرائم بشعة بحق أعوان النظام الملكي ، ولكن البادي أظلم .

ولن ينس العراقيون الأعدامات لقادة الحزب الشيوعي العراقي (فهد ، صارم ، حازم) الذين أختطفوا من بين رفاقهم من السجون العراقية ليعلقوا على مشانق النظام الرجعي في ساحات بغداد بدون أن يستحقوا مثل ذلك العقاب .

كانت أنتفاضة عام 1956 أنعطافة كبيرة في حركة الجماهير العربية والعراقية . فقد أيقضت العراقيين من سبات أمتد طويلاً .
أتذكر جيداً الجو الأخواني الذي ساد بعد المظاهرات في كلية الحقوق بين ممثلي مختلف القوى اليسارية والقومية . خصوصاً عندما علمنا بأن حكومة نوري السعيد قامت بفصل العديد من أساتذتنا ( عبد الرحمن البزاز ، اسماعيل مرزة ، عباس الصراف ، مصطفى كامل ياسين ) وشمل الفصل أساتذة آخرين في دار المعلمين العالية ، والآداب وغيرها من بقية الكليات .

حدث ذلك عندما عمد الأساتذة الوطنيون إلى تقديم مضبطة للوصي عبد الأله يطلبون فيها مساندة مصر وشعبها في الحرب ضد دول العدوان الثلاثي ، كما أستنكروا موقف الحكومة الشامت بشعب وحكومة مصر ورئيسها عبد الناصر .

كان جواب الحكومة فصل اولئك الأساتذة وتوقيفهم كما لجأت إلى توقيف المئات من المثقفين ، مهندسين ، أطباء ، أساتذة ، وكبار الأعضاء في الأحزاب العراقية ، ومنتسبي تلك الأحزاب في معسكر (أبو غريب) . وقامت بمطاردة الوطنيين في المدن العراقية الأخرى لأيقاف المد الثوري الذي انطلق بعد أحداث قناة السويس عام 1956 .

كانت لقاءاتنا مع البعثيين والقوميين في كلية الحقوق مستمرة بهدف توحيد قوانا وجهودنا ورصّ الصفوف لأسقاط حكومة السعيد . وكان تفكيرنا ينصب على أقامة جبهة وطنية واسعة من الأحزاب العراقية الوطنية ، ومن النشاطات المهمة التي قمنا بها من أجل لملمة صفوفنا ورصها القيام بسفرة مشتركة بين اليساريين والبعثيين والقوميين . وكنت ممثلاً لأتحاد الطلبة في التفاوض مع البعث حول تلك السفرة المشتركة وكان ممثل البعثيين الأردني فيصل زريقات ، وتمت المفاوضات في دار صديقنا عبد الأمير العبود .
كانت مباحثاتنا تنصب على البرنامج من قبل مختلف الأطراف على أن يكون جوهرها دعم التوجهات لأقامة الجبهة الوطنية وفعلاً تمت السفرة بنجاح إل(أبو غريب) وكان الحضور كثيفاً من قبل طلاب الكلية المستبشرون بولادة تكتل جديد بين الأطراف الوطنية يسعى لجبهة وطنية لأنقاذ العراق .
كانت تلك السفرة والحفلة التي أردنا أقامتها بعد السفرة هي الثمرة الأولى والمهمة لمعركتنا في عام 1956 ضد حكومة السعيد ، واستمرت الجهود واللقاءات بيننا وبين ممثلي البعث ، فاتك الصافي ، زكي الخشالي ، محسن العذراي ، تحسين برواري ، باسل مصطفى ثروت ، وكانت الأيام التي تلت معركتنا عام 1956 تبشر بقرب أنبثاق جبهة الأتحاد الوطني ، التي لعب الطلاب ونحن منهم دوراً كبيراً في أنبثاقها وتعزيزها والمساهمة في نشاطاتها ، والتي كان من أهم ما أفرزته تلك الأنتفاضة ثورة تموز 1958 ، وكان لنا رفاق في مدينة النجف يعملون لخلق الجبهة الوطنية بين مختلف الأطراف . ومن الأشخاص الذين ساهموا بهذا الجهد ، المحامي أحمد الحبوبي ، الشيخ أحمد الجزائري عن حزب الأستقلال ، محمد حسن مبارك عن الحزب الشيوعي ، عبد علي الشيخ راضي عن حزب البعث ، عبد الأله النصراوي عن القوميين العرب . وكانت النجف على الدوام مركزاً وطنياً وثورياً عمل طيلة سنوات من أجل أنجاح التكتل الوطني في جبهة رصينة ، وكانت المدينة تتميز بمظاهراتها المستمرة بالمناسبات الوطنية في ذكرى ثورات العراق ، ثورة العشرين وأنتفاضات 1948 و1952 وغيرها من المناسبات التأريخية المهمة . والغرض حشد الجماهير وديمومة روحها الثورية .
مرّ عام 1957 هادئاً وكنا نعمل في السر لتقويض أسس الحكم الرجعي ، لكن أجهزة الأمن كانت لنا بالمرصاد في الكلية وخارجها ، وأذكر أن عميد الكلية وكالة (طه البشير) بعث يستدعينا لمحادثة خاصة . وحينها أنذرنا أنا وتحسين برواري وباسل مصطفى ثروت وخالد البياتي بأننا نقوم بنشاط شيوعي والحكومة تعلم بذلك النشاط ويجب علينا الأنصراف إلى دراستنا ، والأ فالفصل والسجن في أنتظارنا .
كان العراق يغلي في تلك الأيام وهو يستعد للنهوض بعد تكوين جبهة الأتحاد الوطني من الحزب الشيوعي ، الأستقلال ، الوطني الديمقراطي ، حزب البعث . ولم يوافق حزب الأستقلال بدخول الحزب الديمقراطي الكردستاني لصفوف الجبهة ، بل أقتصر التعاون بين الشيوعي والأكراد ضمن الجهاد والعمل الوطني .
ولا بد لي من التأكيد على حقيقة تأريخية ناصعة ، وهي أننا نحن الطلاب من مختلف الأتجاهات عملنا بجهد وأخلاص من أجل جبهة الأتحاد الوطني ، والتي تلقفها ناضجة عبر جهودنا زعماء الأحزاب المذكورة .
حلّ عام 1958 كعاصفة غيرّت الكثير في حياتي وحياة العراقيين أحداث كبيرة هزّت جذور الجتمع العراقي عبر أنقلاب في تموز تحول بدعم الجماهير الكبيرة إلى ثورة عارمة أطاحت بالنظام السياسي الملكي . وقلعت النظام الأقطاعي من جذوره التعفنة . وتلاحقت أيجابيات الثورة كما صاحبتها العديد من السلبيات التي أطاحت بمفجريها من العسكريين ومن معهم من السياسيين .
قبل ميلاد الثورة بشهور كنا منشغلين في أتحاد الطلبة بالتحضير للأحتفال بمرور عشر سنوات على تأسيس الأتحاد ، الذي أنبثق في مؤتمر السباع في نيسان عام 1948 ، كنت أحد الناشطين بفعالية في مسيرة تلك التحضيرات فقد تحولت داري إلى مكان لطبع بوستر صورة لأمرأة تحمل مشعل الحرية ، وكان جلال وعبد الرزاق الصافي معي في تحميض وطبع المئات من تلك الصورة .عدا ذلك كنا نجتمع أسبوعياً أحياناً مع ممثلي الكليات (لجنة الكليات) للتحضير للمهرجان الكبير الذي كنا عازمين على أقامته في نيسان بهذه المناسبة، ولا زلت أذكر بحب بعض الأعضاء من تلك اللجنة ، فوزي البياتي ، وعادل الهاشمي ، كنت ولا زلت أكن لهم المودة والأحترام ، ولكن أين هم ؟ فقد تفرق شملنا جميعاً بعد الأحداث التي هزّت كيان المجتمع العراقي ، فالأخ فوزي في الأمارات يقضي أيامه الأخيرة ، والدكتور عادل الهاشمي في كندا مع عائلته .
كنت خلال السنوات 56- 58 في غاية النشاط والفعالية مما جعل التحقيقات الجنائية تكثف المراقبة على تحركاتي في الكلية وخارجها . ولم أكن مقدراً لما ينتظرني من نتائج ترتبت على تلك المراقبة .
كنا نتهيأ لتلك المناسبة وأذكر جيداً كيف كنا نخرج مع بعض الزملاء إلى بساتين الكرادة التي تقع بعد ساحة الحرية ، فقد كانت بغداد تعج بالبساتين الغابوية . كنا نختبأ بين الأشجار الكثيفة لترديد الأناشيد الثورية لألقائها في يوم المهرجان .
وعندما حلّ ذلك اليوم وكانت جماهير الطلاب في أتم الأستعداد للأشتراك بسفرة إلى سلمان باك لأحياء الأحتفال ، وقبل التوجه من كليتنا (الحقوق) فوجئت بسيارة تقف إلى جنبي وفوزي البياتي يناديني ليخبرني بأن التجمع للحفل قد كشفته التحقيقات الجنائية ، وبناء على تلك المعلومات وخوفاً مما ترتكبه الشرطة ورجال الأمن بحق الطلبة ، قررنا أن تتوجه كل واحدة من الكليات إلى مكان خاص بها دون أن يحصل التجمع .
ذهبنا بالباصات المعدة لنا إلى بساتين الفلوجة وقمنا بالأحتفال هناك لوحدنا . وكانت الأهازيج الوطنية والأغاني تهز نخيل الفلوجة . ولم نكن نشعر بتسلل أفراد من التحقيقات الجنائية إلى صفوفنا وتصوير الأحتفال بخذافيره ، وقد علمت بذلك وشاهدت الصور عندما أوقفوني في دائرة التحقيقات .
بالرغم من أن الأحتفال بتلك المناسبة المهمة في تأريخ الحركة الطلابية جاءت منفردة أي أن كل كلية توجهت إلى أحدى ضواحي بغداد للقيام بأجراءات الأحتفال لكننا نجحنا في أحياء تلك الذكرى الكبيرة . وعززنا مكانة أتحادنا لدى الجماهير الطلابية الملتفة حولنا .
لم أكن أعلم أنني سوف أكون الضحية الوحيدة التي شخصتها دائرة التحقيقات الجنائية . فلم تمضي أياماً قليلة حتى فوجئت بأحد أيام نيسان بأحد أبناء عمومتي (محمد) في الصباح الباكر لينذرني بأن الأمن داهموا دارهم لألقاء القبض على حكمت محمد حسين ومن حسن الصدف أن أسم ذلك القريب كان مطابقاً لأسم والدي ، فلم ينجحوا بالقبض عليّ ، وكان لذلك التحذير أثره المهم ، فقد نقلت مع بعض الزملاء جميع المنشورات والصور والكتب الممنوعة والتي كانت تشكل دليلاً قاطعاً في المحكمة على نشاطي اليساري .
ذهبت في نفس اليوم لأخبار المسؤول المباشر عبد الرزاق الصافي عن صدور أمر ألقاء القبض ، وطلبت منهم أن يشير عليّ ما الذي سوف أعمله ؟ وأين سوف أختبأ ؟ فكان جوابه في منتهى البرود (ضيع وجهك) بعض الوقت حتى ينساك الأمن وتعود لحياتك الطبيعية . لم يعرض علىّ الأختباء في البيوت السرية التي يعرفها ويعيش فيها الكثير من المحترفين اليساريين . كان لهذا الجواب أثر صادم جعلني أتفكر بما ينتظرني . وكيف يعمل الرفاق المناضلون ؟ ولماذا لم يساعدني في التخفي وخطر التوقيف والتعذيب وما يليه من نتائج تنتظرني .
هربت إلى مدينة النجف وبقيت مختفياً حتى ألغاء أمر ألقاء القبض على الهارب حكمت شبر . تم تسليمي إلى أمن بغداد ومرت الأيام ثقيلة تخللها الكثير من الأستجوابات مصحوبة بما يعمله في هذه الحالة رجال التحقيق القساة . ولكني لم أفه أو أعترف بأية كلمة ، وكانوا بعد ان عجزوا عن ارغامي على الأعتراف متصورين أن قيادة الأتحاد الشيوعي تتمثل في شخصي بعد ورود التقارير الكبيرة إلى مركز الأمن .
وكانوا يصرون على تقديم البراءة من الحزب الشيوعي ولكني لم أكن آنذاك عضواً بالحزب ، فكنت أقول لهم ، كيف أتبرأ من حزب لم انتمي إليه !!
عجزوا عن أخذ تلك الورقة التي تسربل المناضل بالعار ، وفي أحد الأيام جاء صديق العائلة (أنور ثامر) المسؤول الأول في أمن الفرات الأوسط ليخرجني من التحقيقات الجنائية محفوظ الكرامة . وكان رفيق توفيق مدير أمن بغداد محتاراً كيف سيطلق سراحي وأنا لم أدلي بأي أعتراف أو أقدّم ورقة البراءة .
لم انسى موقف الصديق الراحل أنور ثامر وما قدمه لي وللعائلة ، وأذكر جيداً مقدمه بعد ثورة تموز إلى داري طالباً مني الشهادة أمام محكمة الشعب ، الذي كان سيقدم لها لمحاكمته فتذكرت ما فعله لأخراجي من سراديب التحقيقات الجنائية . أجبته بكل سرور سوف أقف وأشهد أنك كنت صديقاً أخرج متهماً بالشيوعية من براثن رجال الأمن ، ولكن المحاكمة لم تتم بعد أن تراجع قاسم في عام 1959 عن مواقفه (الثورية) كما كانوا يصفونه .
استيقظنا في فجر الرابع عشر من تموز 1958 على صوت الراديو ينادي أهل بغداد بالخروج للساهمة في الثورة . لم نكن في البداية نصدق ماقاله الراديو ، فالثورة تعتبر في تلك الأيام معجزة كبيرة نظراً لظروف البلد المعوّق بأجراءات أمنية شديدة . ولكن زمجرة الجماهير أخذت تتصاعد ووصلت إلى حينا في الكرادة . فخرجنا كالمجانين إلى الشوارع في ذلك اليوم الخالد والكبير . الذي غيّر الكثير من القيم وتسبب فيما بعد بالكوارث الكبيرة بالرغم مما أشاعته الثورة في بدايتها من أجواء مفرحة بتغييرات عميقة لأبناء الشعب العراقي .
تفجّر البركان العراقي دماً وانطلق العنف بكل طاقاته في ذلك اليوم . وكانت الجماهير في حالة جنون وغليان تطالب بالثأر من رجال الحكومة . مئات الألاف من المواطنين الذين انطلقوا من مناطق بغداد المختلفة يهزجون بهتافات الثورة والأنتقام من طغمة نوري السعيد ورجالاته . ولم يكن هنالك مجالُ للعقل والتعقل في لجم الأندفاع الجنوني لتلك النيران المنطلقة من جوف العراقيين وهم في أندفاعة لم نشاهدها في مختلف الأنتفاضات السابقة . كانوا يتراكضون نحو دور الحكومة والقصر الملكي للظفر برجالات الحكم وقتلهم . وكانت تلك الأندفاعة أولى في الخطوات العنيفة التي تصاعدت بنيرانها واستمرت حتى الوقت الحاضر .
ظفر المتظاهرون الثائرون ببعض من أعضاء الحكم في فندق بغداد من الوزراء الأردنيين فقتلوهم وسحلوا جثثهم كما ظفروا بجثة عبدالأله الوصي على عرش العراق والمتسبب الرئيسي في أعدامات العقداء الأربعة وزعماء الحزب الشيوعي وقطعوا جثته أرباً إربا . كما سحلوا جثة نوري السعيد في اليوم الثاني للثورة .
كنت وما زلت أتساءل أين كان ذلك الحقد وطلب الثأر كامناَ في نفوس العراقيين . الذي تحوّل إلى بركان يتفجر غضباً وينز دماً ليطالب بالفتك بخصوم الشعب من حكام رجعيين واستمر العنف والقتل والسحل والتمثيل بجثث الخصوم السياسيين منذ عام 1958 في ثورة تموز وعبر مجازر الموصل وكركوك ومجازر 8 شباط 1963 ، واستمر العنف بالتصاعد ، ولم نسلم منه حتى الوقت الحاضر . فقد أزداد سعيره في زمن حكم البعث بقيادة صدام حسين الذي قتل جميع معارضيه من السياسيين وتسبب بمجازر رهيبة في حروب لا ناقة لنا بها ولا جمل ، ضد الجارة أيران وأحتلال الكويت ومقاتلة الكرد . وضرب الشيعة في أنتفاضة آذار 1991 ومئات الألاف القتلى الذين سقطوا ضحايا ذلك العنف المتفجر في صدور الحكام في مختلف مراحل الحكم التي مرت منذ تموز 1958.
وها هو العنف يطل علينا بعد أحتلال امريكا لبلدنا وكيف أثارت نوازعه جيوش الأحتلال لدى الشارع الغوغائي وكيف استطاع المحتلون أن يطلقوا كوامن الحقد بقتال عنيف ومدمرّ لنسيج المجتمع العراقي بين الأخوة السنة والشيعة منذ دخولهم البلد وحتى كتابة هذه السطور . ومازاد الطين بلّة دخول داعش العراق وأحتلال أجزاء ومدن منه وما تسببوا به من مجازر وأبادة للعراقيين بمختلف طوائفهم ولا أعلم متى تنطفأ نيران هذا العنف الرهيب الذي دمّر المجتمع العراقي وفتت عناصره المتآخية سابقاً .
وها أنذا على مشارف الثمانين وقد ذقت لوعات الأحداث الدامية التي مرت بعراقنا الحبيب فكتبتُ هذه الأبيات أناجي نفسي والزمن والأحباب قائلاً :
بقايــــا جســـدٍ حــــيٍ وروحٌ طالــــــــــها اللهــــــــــــب
وأنســــان معنـــــىّ ليـــــس فـــي أجـــــواءه شـــــــهُب
مضــــت أيامــــه لــم يبــــق لا حــــــبٌ ولا طــــــــــرب
وهــا نحــن نعيش مــرارة الأيــام يعلــو روحنـا الكـرب
أطـــلّ المــــوت مـــن غــــازٍ أتـــــى للعمــــر يسـتلــــب
فدمّــر كــل مافــي أرضــنا حيـاً أصـاب قلوبنــا الجــــدب
فحـــوّل أرضــــنا قفــــراً ونــــــوق البيـــــــد تنتحــــــب
وأقســـى ما يمــــرّ بنــــا فــــــــراقٌ جائــــــر صـــــــعب
تفـــرقّ خيـــــــر أحبابــــي وحــــلّ بقلبـــــي الســـــــغب
وهاجـــر كــل مــن أحــببتُ نــاش بيوتنــــــا العطـــــــب
فأيـن مرابــع الخــلاّن كــان يـدور في جنباتـها صــخب
وأيــــن مرابـــع الأحـــفاد بــــات مقامـــــــها خـــــــرب
أعيــش بغربــــة ثكلـــــى وقلبـــــي صــــار مكـتـئــــب
بعد أكثر من خمسين عاماً على ثورة تموز أكتب في هذه السيرة بعض الملاحظات بشأن الثورة وزعيمها ، بعد أن تبلورت أفكاري عبر تجارب وعمر طويل قضيته مراقباً ومشاركاً في أحداث بلادي . حين وصل وعيي ونضوجي أعلى مراحله . وأستطيع بكل تواضع أن أقول رأي بدون تعصب سواء كان ذلك بالمدح الكثير للثورة وزعيمها أو العكس بأتهام ثورة تموز وزعيمها عبد الكريم قاسم بالعمالة .
لقد حزّ في نفسي وآلمني كثيراً أن أجد رجلاً قومياً مارس السياسة والعمل الصحفي في عهد العارفين (عبد السلام وعبد الرحمن عارف) أن يتهم بعد خمسين عاماً من ثورة تموز زعيمها وبعض وزراءه بالتعاون مع الأنجليز لكأن الثورة قامت بمساعدة الأنجليز وسوف تحافظ على نفوذ بريطانيا ومصالحها النفطية في العراق .
جاء في كتاب الأستاذ ورئيس الصحافيين العراقيين والقومي العراقي المعروف فيصل الحسون في كتابه ، (شهادات في هوامش التأريخ) الصادر عام 2001 ما يلي :
شاهدت خلال الدعوة التي أقامها رجل المخابرات البريطاني في السفارة البريطانية ( مستر فول) ، السادة محمد حديد ، حسين جميل ، نجيب الصائغ ، خدوري خدوري ، والدكتور المهندس محمد مكية والدكتور الطبيب محمود الهاشمي وسامي باش عالم وغيرهم . وهنا يغمز الكاتب وزراء وسياسي التيار الديمقراطي واليساري في العراق قائلاً : عندما دخلت الصالون الصغير رحب بي صاحب الدعوة . 
لاحظت أن الأرتباك بدا واضحاً على وجهي حسين جميل ونجيب الصائغ اللذين فوجئا – كما بدا- لي والقول للكاتب ، بحضوري كان امراً غير مستحب لبعض المدعوين على الأقل .
سمعت أكثر من مرة في هذه الدعوة مقولة أطلقها المدعوون دون حرجٍ أو تردد : (ليس بيننا وبين بريطانيا إلا نوري السعيد ... وحين يتخلى الأنجليز عن سياستهم في دعم االنظام والحكام في العراق فلا يعود بيننا وبينهم ما يوجب النفرة والخصام ) .
كان الموقف غريباً ... فكيف التقى زعماء المعارضة ووجهها اليساري وغيرهم في منزل هذا الرجل .
وحين تطورت الحوادث وقفز حسين جميل وخدوري خدوري ونجيب الصائغ إلى مراكز الصدارة ، وراح أقطاب (التقدمية) و (الديمقراطية) يلمعون كما كان يلمع من قبل توفيق السويدي وعلي جودت سليمان الأيوبي وعبد الوهاب مرجان وضياء جعفر .
وحين صبّ عبد الكريم قاسم جام حقده على دعاة القومية العربية ولم يستهدف في سياسته إلا القضاء علىى مسيرة الركب القومي ... ليتاح للأنجليز ليطمئنوا على مصالحهم فلا يتهددها خطر أو تتعرض لمكروه .
وفهمت كذلك لماذا تربع (التقدميون) و( الديمقراطيون) على دست الحكم مشاركين فيه عهد الدكتاتور عبد الكريم قاسم . وأدركت (بعد لأي) لماذا وكيف أنحرفت ثورة 14تموز

عن أهدافها القومية ... ومنذ متى خُطط لهذا الأنحراف (1) .
ولا يمكن أن أكتب عن الثورة وأنا في هذا الأدراك متناسياً ما كنت فيه في خمسينيات القرن العشرين ، ما كان عليه رجال الثورة من حيث محدودية الأدراك والوعي وفقاً للظروف والأحوال السائدة آنذاك .
كنت بيدقاً من ضمن البيادق الكثيرة التي تحركها قيادات هي أيضاً بيادق تُومر من قبل زعماء وحركات خارجية . وهذا هو ديدن الحركات السياسية في العراق حتى الوقت الحاضر . فلا مبادرات وطنية لخدمة البلد ولملة الصفوف وبناء وطن حر قوي يتمتع بالمكانة اللائقة بين الدول .
كنت كما كانت الغالبية العظمى من اليسار واليمين القومي تتلقى من قياداتنا المرتبطة بالخارج فالشيوعيون كانوا يتلقون أوامرهم من الحزب الشيوعي السوفيتي . والبعثيون كانوا لايختلفون بهذا الشأن فكانوا يؤمرون من قيادات مرتبطة بميشيل عفلق المشكوك بولائه القومي ، أو عبد الناصر خصوصاً بعد الوحدة .
لم نكن نمحص ما يردنا من أوامر للقيام بمظاهر مؤيدة أو معارضة للحكم آنذاك من منطلق مركزي - نفّذ ثم ناقش - وهذا المبدأ هو من أسوأ المبادئ التي تتبناها الأحزاب الشمولية (التوليتارية) . فهذا المبدأ يجمّد عقل ووعي المرتبطين بتلك الأحزاب . فكم مرة خدعنا بالخروج للتظاهر أو التواجد في الشوارع لوجود ( مؤامرة قومية رجعية ) .
لكن تلك المزاعم سرعان مابانت حقيقتها وكم مرة جاءتنا توجيهات بالأعتداء أو بمراقبة القوى القومية والبعثية بدون أن نفكّر بأن هؤلاء هم أهلنا وأخواننا وأصدقائنا الذي توحدنا معهم في عان 1956 في مظاهرات عارمة ، وبعدها بجبهة وطنية وحدّت 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر ، فيصل حسون ، شهادات في هوامش التأريخ – بيروت – الوراق عام 2001 ص 48- 51

كل القوى المناضلة في سبيل العراق . فكيف أنقلبت الأمور وأصبحوا أعداءنا نرمي إلى تذييلهم بل قتلهم وسجنهم . كيف تجمدّ وعينا وأدراكنا وكنا كما قلت بيادق ننفذ ما يطلب منا ، كما كانوا هم الأخرون بيادق ينفذون ما يطلب منهم ، وكنا نريد فرض أيديولوجيتنا على الأخرين بدون وعي ، فلم نكن نؤمن بوجود الرأي الأخر وأحترام خصومنا السياسيين . وهذه هي علة العلل التي نخرت وأربكت عمل اليسار بقيادة الحزب الشيوعي .
ما الذي حصل بعد توحيد القوى في جبهة وطنية موحدة ؟ لا بد لي من توضيح بعض الظروف التي أحاطت بثورة تموز وبالعراق آنذاك ، والتي تسببت في بعض جوانبها في بث الفرقة بين القوى اليسارية والقومية . بالرغم من أيمان الشيوعيين والبعثيين بتكوين دولة علمانية أشتراكية ، يعيش من خيراتها ملايين البؤساء والمعدمين . فكيف تفرّق شمل هذه الجبهة والجماهير المؤيدة والمساندة لها .
كان لقيام الوحدة بين مصر وسورية في شباط 1958 أثر كبير ومباشر على التعاون والتعاضد بين قوانا اليسارية والقومية .
لم تكن الوحدة بين مصر وسورية بالطريقة التي نشأت بها صحيحة ومكتملة الظروف والوسائل لديمومتها ومساندة جميع القوى العربية والوطنية لها . وكانت كما رآها اليسار في العراق وسورية ومصر موجهة لضرب الحزب الشيوعي السوري والشيوعيين المصريين عن طريق إلغاء الأحزاب وأعلان حزب واحد هو الأتحاد الأشتراكي ، وبعد ذلك بدأت مطاردة اليساريين والشيوعيين في كل من مصر وسورية . وهذا العامل لعب دوراً رئيسياً في فرقة المتحالفين من القوى القومية واليسارية ولا غرابة أن أطلقت شعارات أيديولوجية المعنى والمغزى بعد ثورة تموز . فقد طالب اليسار بقيادة الحزب الشيوعي بعلاقة فدرالية مع الجمهورية العربية المتحدة . وكان المفهوم من هذا الشعار أرجاء الوحدة مع مصر التي بانت مراميها بقيادة عبد الناصر الزعيم العربي الذي أحببناه كثيراً لأنجازاته الوطنية والقومية . لكن ما قام به من وحدة دبرت على عجل مع سورية وما تلاها من اجراءات لمطاردة الوطنيين واليساريين لعبت الدور الكبير في أبتعاد اليسار العراقي عن المطالبة بالوحدة .
وكانت القوى القومية وحزب البعث تطالب بالوحدة العربية الفورية . وهنا حصلت الفرقة وبدأ الصدام بين القوى التي تفرقت لأسباب أخرى عدا موضوع الوحدة والأتحاد الفدرالي . وكنا في ذلك الوقت مندفعون بدون وعي لمعارك مع أخواننا وحلفاءنا في الجبهة الوطنية بدون أدراك أو وعي للمخاطر التي أحاطت بالثورة وأودت بها أخيراً وكان الخصام واضحاً بين زعيمي الأنقلاب قاسم وعارف ولم نعي آنذاك أن ذلك الخصام لم يكن بسبب المنادات بالوحدة أو الأتحاد ، بل كان صراعاً مكشوفاً ، بدون أن نعي ذلك ، على السلطة ، والحكم بين القائدين للأنقلاب . وبانت حقيقة ذلك بعد انقلاب 8 شباط 1963 بقيادة البعث ومشاركة جميع القوى القومية بالجيش وخارجه . عندما تخلّى الأنقلابيون ومن بعدهم العارفان (عبد السلام وعبد الرحمن) عن توجهاتهم وشعاراتهم السابقة بالوحدة الفورية مع مصر .

كانت الثورة أمل العراقيين المحروميين من الحرية . وكنت أحد هؤلاء الذين حلموا قبل الثورة بعالم جديد يؤمن بحرية الفرد وحقوق الأنسان . بعد السنوات الطويلة من المطاردة والأضطهاد السياسي ، خصوصاً بعد أن خرجت من التوقيف قبل شهور عديدة . فقد كانت فرحتي لا يمكن وصفها بالثورة الشعبية التي سوف تحقق طموحاتنا وآمالنا بالحرية والعيش الكريم وأحتلال المكان اللائق بدولتنا الجديدة بعد تحطيم حلف بغداد والعائق لتقدمنا والموجه ضد الأتحاد السوفيتي والكتلة الأشتراكية .

ولا بد لي هنا من تقييم ما حصل من أنجازات كبيرة في زمن الثورة وتقييم قيادة قاسم بشكل موضوعي وعادل وتبيان أيجابيات الحكم وسلبياته وخصوصاً قيادة عبد الكريم قاسم .

بدات حركة الجيش العراقي في 14 تموز 1958 كأنقلاب عسكري وسرعان ما تحوّلت إلى ثورة تدعمّها الجماهير الشعبية ، فقد تم تحقيق أنجازات كبيرة لمصلحة الشعب لا يمكن أن يجادل أي أنسان موضوعي بأهميتها .

كان من أوائل تلك الأنجازات أصدار قانون الأصلاح الزراعي الذي جاء ليقصم ظهر الطبقة الأقطاعية ويقضي على نفوذها ، بعد توزيع الأراضي الزراعية بين الفلاحين . ولا أنكر ما حصل من أخطاء في تطبيق القانون ، إلا أنه كان موجهاً لضرب أهم القوى التي تساند الحكم الملكي والسعيدي ورهطه من الرجال
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع