القائمة الرئيسية

الصفحات

المسؤولية المدنية للمحقق عند إلحاق الأذى بالمشبوه (المتهم)

المسؤولية المدنية للمحقق عند إلحاق الأذى بالمشبوه (3 من 3)

المسؤولية المدنية للمحقق عند إلحاق الأذى بالمشبوه
المسؤولية المدنية للمحقق عند إلحاق الأذى بالمشبوه


((عمل من إبداع القاضي "طارق بيك برنجكجي"))

الاستئناف

استأنف المحقق الحكم البدائي الذي ألزمه بالتعويض ناعياً عليه عدم استناده لمواد قانونية تحمله، بالإضافة لسوء الاستدلال من أقوال الشهود فيما يتعلق بالتعذيب، وأن هناك ضابط وشرطي آخر قاموا بالتحقيق مع المدعي، 


وأن المحقق المدعى عليه ليس صاحب القرار بوضعه بالمنفردة، وإنما قام بتنفيذ أمر رئيسه، مما يقتضي إعفائه من المسؤولية سنداً للمادة 168 من القانون المدني التي تعفي الموظف من المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن عمله إذا كان تنفيذاً لأوامر من رؤسائه، كما اعترض على المبالغة في تقدير التعويض على حد زعمه.


(بالنسبة لموضوع التعويض المحكوم به، يجب ملاحظة أن الدعوى أقيمت في العام 2010، وصدر الحكم في العام 2012، حينما بدأت الليرة بالانهيار)

وكان من اللافت للنظر أن المحقق لم يطلب في استئنافه، سماع الشهود حول عدم مسؤوليته بوضع المدعي بالمنفردة!!
وأغفل المحقق في لائحة استئنافه تبرير تهديده للمدعي بتوقيفه لمدة شهر إن لم يعترف!!
وأغفل تبرير وضع المدعي في الصندوق الخلفي للسيارة!!

قرار محكمة الاستئناف:


لم تقتنع محكمة الاستئناف بدفوع المحقق التي أنكر فيها مسؤوليته، وكانت متيقنة بارتكابه الأفعال المنسوبة له، من خلال الأدلة المبرزة في الدعوى، وخاصة أقواله في جلسة الاستجواب، واقتنعت بأن الشهادة التي أدلى بها الضابط المشرف على التحقيق كانت كاذبة وتتناقض مع وثائق الدعوى، وأيدت محكمة الدرجة الأولى فيما اتجهت إليه لجهة المسؤولية التقصيرية التي يتحملها المحقق....

ولكن......

رأت محكمة الاستئناف أن مبلغ التعويض المحكوم به (700 ألف ليرة سورية) كان مبالغاً فيه لدرجة كبيرة ويزيد عن الحد المألوف، وعن حدود جبر الضرر!!!


ورأت المحكمة الموقرة أن جبر الضرر الذي لحق بالمدعي حسب سنّه ووضعه الاجتماعي، وتقرير الطبيب الشرعي يقدر فقط بمبلغ 50 ألف ليرة سورية، ففسخت الحكم لجهة التعويض وخفضته لهذا المقدار المتدني!!! 


(يلاحظ أن هذا الحكم صدر في آخر يوم في العام 2012، أي عندما كانت الليرة في حالة هبوط حاد ومن المتوقع انهيارها إلى حد لا يعلمه إلا الله في ذلك الوقت)


كما ويلاحظ أن المعيار الذي اعتمدته في هذا التقدير المتدني عن الضرر الأدبي، (سنّ المدعي ووضعه الاجتماعي)، ضعيف وغير منطقي، فما هي علاقة عمر الإنسان سواء أكان صغيراً أم كبيراً، والوضع الاجتماعي كمتزوج أو عازب، بالتعويض عن جرح الكرامة؟؟


وهل كرامة الكبير المتزوج، أغلى من كرامة الصغير العازب؟؟!!


تعليق:

لقد خلصت المحكمة الكريمة إلى نتيجة مفادها أنه عندما تنتهك كرامة الإنسان بتوقيفه غير القانوني بالمنفردة لعدة أيام، وتعرضه للضرب العنيف (لدرجة أن نصف وجه المدعي كان مطموس المعالم حسب إفادة الشاهد الذي رآه واقتنعت بأقواله المحكمة)، وممارسة الضغط النفسي عليه بتهديده باستمرار التوقيف لمدة شهر، فإنه يستحق تعويضاً قدره 50 ألف ليرة سورية فقط !!!!!!!!

هذا التعويض البخس يوضح أن المحكمة لم تأخذ بالاعتبار جسامة الخطأ الخطير الذي ارتكبه المدعى عليه، وهو يعتبر جرماً معاقب عليه بالسجن، وكان عليها أن تفعل ذلك كما يقول السنهوري:


((يُدخل القضاء عادة في اعتباره جسامة الخطأ في تقدير التعويض، وهذا شعور طبيعي يستولي على القاضي، فما ادم مقدار التعويض موكولاً إلى تقديره فهو يميل إلى الزيادة فيه إذا كان الخطأ جسيماً، وإلى التخفيف منه إذا كان الخطأ يسيراً، وعلى هذا يسر القضاء في مصر وفرنسا)) (الوسيط - ج1 - فقرة 648)


وبالتالي، فإنها -برأيي- أجحفت كثيراً بتخفيض التعويض لهذه الدرجة الهزيلة التي لا تناسب الخطأ الجسيم موضوع الدعوى.


قرار محكمة النقض:


اقتنع المحقق المدعى عليه بالمبلغ الزهيد الذي قدرته محكمة الاستئناف، فرضخ للحكم ولم يطعن به، بينما طعن به المضرور. 
بمنتهى الاقتضاب، رفضت محكمة النقض الطعن بتعليل مفاده:
((إن قيام محكمة الاستئناف بتخفيض التعويض المحكوم به أمام محكمة الدرجة الأولى من إطلاقاتها، ومن ضمن صلاحياتها، بعد أن وجدت أن التعويض المحكوم به مبالغاً فيه))

وبهذه النهاية التراجيدية أسدل الستار على هذه القضية، ولا أعلم فيما إن كان المدعي قد وضع الحكم بالتنفيذ.

حول ظاهرة التعذيب:


هذه الظاهرة وبكل أسف متفشية لدرجة باتت ثقافة لا ينكرها أحد، ولها أسباب تحدث عنها العلامة "عبد الوهاب حومد" قائلاً:
((إن أسوأ الاعترافات، هي التي يدلى بها لمحقق ضعيف الثقافة القانونية، أو غير مؤمن بكرامة الإنسان، أو لمحقق خاضع لوطأة الرأي العام الذي يلح في كشف الحقيقة، أو لمحقق مصاب بإرهاق من كثرة العمل، لأنه في هذه الأحوال يحاول أن يصل إلى شيء بكل الوسائل المقبولة أو الممنوعة)) (أصول المحاكمات الجزائية – الصفحة 570 – الحاشية)


ومن المؤسف أيضاً أن هذه الظاهرة ليس لها حل في المدى المنظور، لأنه يحتاج قضاء مستقلاً، وتعديلات تشريعية واسعة، منها ما طرحه المرحوم الدكتور "محمد الفاضل" قائلاً:


((أباحت بعض التشريعات الحديثة لقاضي النيابة العامة – حرصاً على قطع دابر التعذيب – أن يأمر بفحص كل شخص ألقى رجال الأمن القبض عليه فحصاً طبياً. بل إن هذا الفحص يغدو من حق الشخص المقبوض عليه إذا تجاوزت مدة توقيفه 24 ساعة.
وأوجبت بعض هذه التشريعات أن ينوه في صلب الضبوط التي ينظمها رجال الضابطة بعدد الساعات التي دام في خلالها الاستجواب، وفترات الراحة التي تخللتها، وذلك كيما يقلع رجال الضابطة والمحققون عن إرهاق المدعى عليهم بالاستجوابات الطويلة المضنية ... 


ولئن لم يرد في الأصول الجزائية السورية نصوص صريحة في هذا الصدد، فإن العمل بمقتضاها أمر تستلزمه مقتضيات التحقيق السليم وروح التشريع النافذ في بلادنا)) (الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية – ج1 – ص340)

وأخيراً أوجه التحية للمدعي في هذه القضية على جرأته وشجاعته في الذود عن حقه، كما أحيي القاضي الأستاذ "طارق برنجكجي" على هذا الحكم الجريء والمسبوك، الذي بعث الأمل في النفوس بوجود قضاء عادل، نزيه، منصف، 


وأشجع الزملاء المحامين على حثّ موكليهم الذين يتعرضون لأي انتهاك أو تعذيب على مقاضاة المتسبب، فلئن كان طريق الملاحقة الجزائية شبه مغلقة، ولكن الطريق المدني مفتوح كما رأينا، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

اذا أعجبك الموضوع فلماذا تبخل علينا بالردود المشجعة

التنقل السريع