القائمة الرئيسية

الصفحات

عن الهجرة والمواطنة والمعنى الانساني الدكتور فؤاد جابر كاظم معهد العلمين للدراسات العليا


عن الهجرة والمواطنة والمعنى الانساني
الدكتور فؤاد جابر كاظم – معهد العلمين للدراسات العليا

عن الهجرة والمواطنة والمعنى الانساني
الدكتور فؤاد جابر كاظم – معهد العلمين للدراسات العليا

      قضيتان حدثتا بشكل متقارب وأعادتا الجدل حول موضوع واحد. القضيتان هما لجوء المواطنة السعودية رهف القنون الى كندا، وقضية العراقي الاصل، قطري الجنسية اللاعب بسام الراوي الذي لعب في المنتخب القطري ضد بلده العراق.
     وبرغم الفارق الظاهري بين القضيتين، فان المضمون يبدو في حقيقته واحدا: بحث الانسان- أي انسان- عن أفضل مستقبل له. فاذا كانت السعودية القنون تبحث بحسب تصريحاتها عن حرية شخصية كسرا للقيود والاعراف المفروضة عليها من عائلتها أو مجتمعها، فان الراوي واستنادا الى من تكلموا بالنيابة عنه كان يبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته من خلال شيء يحبه (كرة القدم) فوجد في قطر حاضنة له ومستقرا.
      واذا كان البعض يطرح القضية عموما من زاوية "وطنية" بحتة ليوجه الادانة الى كل من ترك بلاده طالبا العيش في بلد آخر، فان هذا البعض يهمل الاجابة عن السؤال الاساسي: لماذا يترك الانسان أرضه ليهاجر الى بلد آخر؟
 لا يهاجر الانسان الا لسبب معين يجده ملحا. لذلك فان كثيرا من المهاجرين الذين تركوا بلدانهم انما فعلوا ذلك اضطرارا لا اختيارا. فالانسان اما ان يهاجر نتيجة عوز اقتصادي يدفعه للبحث عن مستقبل مضمون له ولعائلته بعد أن تسد عليه الابواب في بلده الذي يعيش وضعا اقتصاديا سيئا. فقد هاجر اللبنانيون الى أفريقيا وأمريكا اللاتينية للبحث عن فرص عمل جديدة كما هاجر المصريون الى دول الخليج والعراق منذ نهاية الخمسينيات. وربما لا يعلم كثيرون ان المصريين كانوا لايهاجرون بلدهم حتى منتصف الخمسينيات حيث كان الاقتصاد المصري قويا جدا، حتى أنهكته السياسات الناصرية المرتجلة، ما دفع عموم المصريين الى البحث عن سبل جديدة لتحسين أوضاعهم المعاشية فضلا عن اضطرار كثير منهم الى طلب الحرية السياسية بعد أن أشتد الخناق عليه خلال العقود المتتالية.
      قد يهجر الانسان بلده الام بحثا عن بقعة آمنة تقدم له الحياة الكريمة والضمانات الامنة. حدث هذا، على سبيل المثال حين جاء كثير من الارمن الى العراق عند بدايات تأسيس الدولة العراقية، فأحتضنهم العراق ليصبحوا جزءا من أبنائه، عراقيين قلبا وقالبا حالهم حال بقية العراقيين الآخرين. وما دمنا نتحدث عن العراق فاننا يجب أن نذكر هنا، بان العراق كان دوما بلدا جاذبا للمهاجرين.
     ففي حدود العقد الثالث من القرن الثامن عشر استقبل العراق موجة هجرة كبيرة من ايران، نتيجة نزوح العائلات الايرانية هربا من الغزو الافغاني الذي أطاح بالحكم الصفوي وعاث ببلاد فارس خرابا وتدميرا. هذا الحال أجبر كثيرا من الايرانيين على التوجه الى العراق ليعيشوا في النجف الاشرف وبغداد وكربلاء المقدسة وكذلك مدن العراق الاخرى.
       لكن الهجرة الاشهر في تأريخ العراق هي هجرة الامام علي اليه. فقد ترك الامام علي مكة المكرمة مهد آبائه وأجداده والمدينة المنورة مرتع شبابه ورجولته، وحيث قبر النبي محمد وفاطمة الزهراء، ليقصد العراق ويستقر فيه. وحين عاتب بعضهم الامام على تركه مكة والمدينة مستفسرا عن سبب اختياره العراق، كان جواب الامام علي بان في العراق "المال والرجال".
      والحق ان قاعدة "العراق بلد المال والرجال" تبقى صالحة الى وقتنا الحاضر. فالعراق وعلى عكس بلدان أخرى يتمتع بعنصرين متكاملين: هما الاقتصاد القوي الذي يستند الى ثروات طبيعية وزراعية كثيرة، والقدرات الانسانية ذات المهارات العقلية النادرة. هذان العنصران المهمان نادرا ما تجدهما في بلد واحد، اللهم الا في بلدان محدودة. ففيما يتمتع هذا البلد أو ذاك بثراء مادي، فانه في الوقت نفسه تنقصه الكوادر البشرية العاملة. وعلى عكس ذلك، تتوفر في بلدان أخرى، ثروات بشرية كبيرة ولكنها من جهة أخرى، تنقصها الثروات المادية التي تمكنها من الاعتماد على ذاتها في بناء مستقبل البلد من دون اللجوء الى الديون الخارجية التي تفرض عليها اتباع سياسات اقتصادية واجتماعية معينة.

ذكرت سابقا هجرة الامام علي الى العراق واستقراره فيه حتى أصبح موطنا له ولكثير من ابنائه من بعده. ان هجرة الامام الى العراق- هذا الحدث التأريخي المهم- تعيد التذكير بمقولته الشهيرة: ليس بلد بأحق منك من بلد. خير البلاد ماحملك. ان هذه المقولة تحمل في ثناياها معاني فلسفة انسانية نعيش تجلياتها في عصرنا الراهن.
     ذلك ان العالم أصبح مفتوحا أمام البشر جميعا، يتنقلون فيه سواء للسفر أو العمل أوالتجارة أو ماشابه. نعم، قد يجد الانسان نفسه راغبا أو مضطرا للعيش في هذه البقعة أو تلك من بقاع الكرة الارضية. هذا التنقل الطوعي أو الاجباري يضع الانسان الكوني الجديد، في مواجهة مجتمعات وقيم بعضها جديد عليه بالمرة. واذا كان للانسان خصوصيات معينة تمثل مجتمعه ودينه وعصره، فان هناك جوهرا انسانيا مشتركا، يتخطى الخصوصيات الوطنية والمحلية المتوارثة. هذا الجوهر الانساني المشترك، يعطي الانسان بعده "الاخلاقي الكامل" حين يشمل بحبه البشر أجمعين، برغم اختلافهم في القيم الخاصة. وربما يشير فيكتور هيغو، الروائي الفرنسي المشهور الى هذا المعنى بقوله البليغ: "من يجد وطنه عزيزا وأثيرا لايزال غرا طريا، اما الذي يجد موطنه في كل أرض فقد بلغ القوة، غير ان المرء لايبلغ الكمال قبل أن يعتبر العالم أجمع أرضا غريبة. فالنفس الغضة تركز حبها على بقعة واحدة من العالم، والرجل القوي يشمل بحبه كل الاماكن، اما الرجل الكامل فهو الذي يطفيء جذوة الحب لديه".    
     ان الانسان برغم خصوصيته فهو نوع واحد. هذا النوع الانساني يشترك في حبه للخير والعدالة والحق والصدق والكرامة. لذلك يبقى الانسان باحثا عن أفضل السبل التي توفر له الكرامة الانسانية مثلما يبحث عن سكن أو عمل أو أمان.
      لطالما تحدث الي عراقيون عن رغبتهم بالسفر أو الهجرة من العراق. ولكنني وأنا أحاول جاهدا بيان مخاطر السفر أو صعوبة الهجرة الى البلدان الاخرى، أكتشف في حديثي معهم بعض الامال الصغيرة التي يودون تحقيقها أو الالام الكبيرة التي يخفونها. هناك للاسف عراقيون كثر يشعرون ان لا فرص لهم في هذا البلد، نتيجة غياب العدالة والفساد... هناك شباب عراقيون ذوو مؤهلات وقدرات عالية ولكنهم لا يملكون قدرة على تحقيقها. وحتى يأتي اليوم الذي نستطيع أن نوفر لهؤلاء الشباب فرصا عادلة من دون تمييز أو محاباة، فانه يمكننا عند ذاك فقط توجيه اللوم لهم لانهم هجروا العراق وفضلوا بلاد الله الاخرى.       
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع