القائمة الرئيسية

الصفحات

سياسات إعادة تأهيل مجتمعات ما بعد النزاع وإنعكاساتها على الاستقرار السياسي في العراق محمد محي محمد الجنابي



سياسات إعادة تأهيل مجتمعات ما بعد النزاع وإنعكاساتها على الاستقرار السياسي في العراق
(دراسة ميدانية في المناطق المحررة بعد عام 2014)

محمد محي محمد الجنابي

معهد العلمين للدراسات العليا



سياسات إعادة تأهيل مجتمعات ما بعد النزاع وإنعكاساتها على الاستقرار السياسي في العراق
دراسة ميدانية في المناطق المحررة بعد عام 2014
محمد محي محمد الجنابي

   إنتقلت النزاعات المسلحة في تسعينيات القرن الماضي من حروب بين الدول، إلى نزاعات داخل حدود الدولة الواحدة، ولم تعد تجري الحروب الحديثة داخل ساحات القتال فحسب، بل يستعر أُتونها داخل المدن والقرى على أيدي قوات غير محترفة في أغلب الاحيان، ولغرض تحقيق أهداف سياسية وإقتصادية وأيديولوجية للأطراف المتنازعة داخلياً، تفجرها في الغالب نزاعات دينية وعرقية تعيشها شعوب تلك البلدان.
وفي العراق فإن النزاعات، ولاسّيما بعد العاشر من حزيران عام 2014 واحتلال التنظيمات الارهابية لمدن وقرى عديدة، أتت على كل شيء، فقتلت وهجرت الإنسان، ودمرت بناه التحتية ورأس مـاله المجتمعي (المدارس، المستشفيات، الطرق والجسور والسدود، المحطات والمطـارات)، ناهيك عن تدمير بناه الفوقية (التشريعات والأنظمة والقوانين)، والإطـار الأكبـر لهـا هـو مؤسسات الدولة ألتي حكمت عمل البنى التحتية، ونتيجة لذلك أصبح أكثر من (90%) من ضحايا حروب اليوم هم المدنيون في المجتمعات المتأثرة بالنزاع، مع شبه انهيار كامل للبنى التحتية.
   إذ شهد العراق بعد عام 2014 أخطر التحديات المحدقة بسلامة أراضيه وقواه البشرية واستدامته المالية، فالخطر الأمني الذي شكلته التنظيمات الارهابية، والذي ترافق مع هبوط حاد في أسعار النفط وتدني أداء مؤسسات الدولة على المستويات كافة، وتلك ألقت بثقلها على مفاصل المشهد التنموي بأجمعه، وأسهمت الاضرار والخسائر الناجمة عن الإرهاب والعنف التي طالت المدنيين أكثر من غيرها بتقويض عناصر التماسك الاجتماعي، مع تكبد البلد لكلف كبيرة نتيجة الحراك السكاني في أزمة غير مسبوقة من التهجير والنزوح القسري.
   لقد كان إرهاب قوى الجهل تنبيهاً فجاً وفرصة تأريخية لإعادة الثقة بين أفراد ومكونات المجتمع العراقي من جهة، وبين المجتمع والحكومة من جهة أخرى، من خلال العمل على الإنتقال من مرحلة عدم الإستقرار إلى مرحلة إعادة الإعمار والتنمية بعد التحرير، إلا أنَّ تلك المرحلة لم تخلُ من التحديات في المحافظات المحررة وبالشكل الآتي:
1_ إستمرار مشكلات الإنقسام والتشظي في المجتمع وهشاشة الوضع الأمني، مما يهدد تحقيق السلام المستدام.
2_ ضخامة حجم الخسائر جراء اِنهيار وتدمير العديد من البنى التحتية ومنظومات تقديم الخدمات، فضلاً عن تضرر القطاعات الإنتاجية (الزراعية، الصناعية).
3_ إستمرار ظاهرة الفساد المالي والاداري وضعف سيادة القانون والعدالة المجتمعية.
4_ إرتفاع نسبة الفقر في المحافظات المحررة إذ بلغ (41.2%)، ترافق ذلك مع موجات نزوح كبيرة أسهمت في تفاقم المشكلات الإجتماعية والثقافية والنفسية.
أما في المحافظات الأخرى فكانت التحديات كما يأتي:
1_ التضحيات البشرية والمادية الكبيرة نتيجة المواجهة مع الإرهاب، وما نجم عنها من قوافل الشهداء، مع إتساع مساحة الفئات الهشة (الارامل، اليتامى) ومتضرري الحروب والنزاعات.
2_ الضغط البشري والمادي على الخدمات والسكن، نتيجة زخم الموجات البشرية النازحة من مناطق النزاع.
3_ تلكؤ المشاريع الخدمية مع تدهور البنى التحتية نتيجة الأزمة المزدوجة (الإرهاب والأزمة المالية)، وإنعكاساتها السلبية على التنمية المستدامة.
4_ تصاعد المشكلات الإجتماعية وإرتفاع نسبة الجريمة وتنامي الولاءات الفرعية، نتيجة إنشغال الجهد الأمني والعسكري في ملف الإرهاب.
   وبالرغم من ذلك، هنالك فرصة في وسط هذه المعاناة الضخمة من إعادة تأهيل المجتمع بشكل شامل، من خلال تشخيص المحددات المعيقة جميعها، وتقيمها وإبرازها بعد تحليلها، بما يمكننا من إيجاد المعالجات والمخارج الناجعة، التي تسهم بشكل أو بأخر في إعادة تأهيل واقع هذه المجتمعات سياسياً وإقتصادياً واجتماعياً وفكرياً، إذ أن إعادة تأهيل أي مجتمع من المجتمعات بعد الحروب والنزاعات ، تتم عبر تعزيز مبدأ التعايش السلمي ونبذ العنف والتطرف وتحقيق الإندماج الاجتماعي ونشر ثقافة التسامح وتفعيل الوعي السياسي والمدني لدى الأفراد بأهمية السلام والإستقرار، والسعي بعمل جاد لبناء مرحلة جديدة تكون عنصر مهم وفاعل للتخلص من أثار وترسبات الماضي المرير، وعليه فإنَّ هذه العملية تعني اكتساب سلوكيات جديدة تكون بديلا ًعن السلوكيات السابقة وأعداد سياسات تتولى مهمة التوجيه والعلاج وعلى مستويات عدة.
    وفي كل الأحوال، وبعد أن وضعت النزاعات أوزارها، يتطلع المجتمع في المناطق العراقية المُحَررة لمرحلة ما بعد إنتكاسة عام 2014، إلى بدء مرحلة جديدة من البناء والتأهيل، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه سابقاً، عبر سياسات لإعادة تأهيل تلك المجتمعات على المستويات كافة، وإستخدامها كفرصة لإعادة تنظيم الدولة والمجتمع المتضررين جراء النزاع.  
وعليه فإنًّ سياسات إعادة تأهيل مجتمعات ما بعد النزاع، يقصد بها سياسات لإعادة تأهيل المجتمعات المتضررة من الحروب والنزاعات، وتشمل إعادة بناء الجوانب السياسية والأمنية والإجتماعية والإقتصادية، وكذلك معالجة الأسباب الجذرية للنزاع وتعزيز العدالة الإجتماعية والإقتصادية، فضلاً عن وضع الهياكل السياسية للحكم الرشيد وﺳﻴﺎدة القانون وتعزيز بناء السلام والمصالحة.
وهذا يعني أنًّ مفهوم إعادة التأهيل لا يتوقف على الجانب  الإقتصادي، ولا يعني فقط إعادة بناء شبكات الطرق والجسور، التي لحقها دمار واسع وشبكات المياه والكهرباء وغيرها، بل يُعنى بالفرد العراقي، المتضرر الأكبر من هذا النزاع، الجريح وعائلة القتيل، اللاجئ والنازح ، فضلاً عن عملية المصالحة، وترسيخ الأمن الداخلي وضمان الإستقرار الاجتماعي للحيلولة دون تدهور الأوضاع من جديد، عبر قيادة مرحلة جديدة تؤسس لمرحلة ما بعد النزاع.
  ويتم ذلك عبر تسوية سياسية شاملة تنجز المصالحة المجتمعية وتعزز الوحدة الوطنية، وتعالج الخلل في بعض المواد الدستور وصولاً إلى إيجاد نظام انتخابي ملائم، واعادة تأهيل وتطوير الاجهزة الأمنية، وإعادة توطين النازحين وتأمين مقومات الحياة الأساس لهم، وصولاً الى تحقيق الإندماج المجتمعي، وإعادة اعمار البنى التحتية في المناطق المحررة، والحد من الفساد المستشري في البلاد، كما ولا بد من العمل على نشر ثقافة السلام بين أفراد المجتمع عبر سياسات تربوية لإرساء ثقافة اللاعنف داخل المجتمع.


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. موضوع قيم وحديث ويستحق الدراسة والبحث وتكثيف الجهود حوله والخروج بنتائج قيمة

    ردحذف

إرسال تعليق

اذا أعجبك الموضوع فلماذا تبخل علينا بالردود المشجعة

التنقل السريع