القائمة الرئيسية

الصفحات

هل يؤسس الاهمال الواعي في العراق إلى ابادة جماعية صامته أ.د أحمد عبيس نعمة الفتلاوي أستاذ القانون الدولي العام



هل يؤسس الاهمال الواعي في العراق إلى ابادة جماعية صامته
أ.د أحمد عبيس نعمة الفتلاوي
أستاذ القانون الدولي العام


هل يؤسس الاهمال الواعي في العراق إلى ابادة جماعية صامته
أ.د أحمد عبيس نعمة الفتلاوي : أستاذ القانون الدولي العام

    يوما تلو الآخر يتعمق الباحثون في الشأن القانوني، في دراسة مستويات التصرف الجنائي، لأجل تحقيق غايتين وهما في المقام الأول علاجية ، والأخرى وقائية ، وكل ذلك يتطلب تقويم السياسة الجنائية القائمة في بلد ما ، من خلال تحليل الوقائع والظروف في شأن ما من شؤون الحياة.
    وفي موضوع ذي صلة، يمكن القول أن القاضي انطونيو كاسيزي رئيس المحكمة الجنائية الدولية، قد ابدع حينما اطلق مصطلح الاهمال الواعي او الارادي ، على كل تصرف يبدو لأول وهله أنه مباح وبرئ ، إلا ان من شأنه ان يؤدي إلى انتهاك جسيم في الحق بالحياة عن طريق ارتكاب سلوك قائم على اهمال ما يتطلبه القانون  ، مع توافر العلم وتوجه الارادة نحو عدم اتخاذ الاحتياطات المستطاعة، لأجل تجنب انتهاك جسيم يطال شريحة واسعة من البشر، معزز بمنهجيه إدارية او شخصية.
   ومن حيث المبدأ فإن القانون الجنائي وعلى المستويين الوطني والدولي، يبحثان في ركنين وهما المادي والمعنوي، ومن خلال ذلك يتحدد فيما إذا كان التصرف محل الاتهام و التحقيق قد ارتكب عن عمد أم لا، وحينئذ تقرر المحكمة الاجراء المناسب إزاء هذا التصرف،  بناء على توافر العلم والإرادة.
   ومما يثار في هذا الشأن، موضوع الاهمال وفيما إذا كان يمكن عده عنصرا من عناصر الارادة الواعية بالنتائج المتوقعة ومع ذلك يتم القبول بها؟ وبالخصوص إذا كان الاهمال ناشئا عن جهة يفترض انها مسؤولة عن اتخاذ ما يلزم لحماية قيمة عليا يحميها القانون، وهي الحق في الحياة.
    من جهة أخرى، لا بد من اعادة التفكير بشأن الابادة الجماعية، وفيما إذا كان بالإمكان وقوعها من خلال اهمال واسع النطاق و طويل الأمد ، معزز بمنهجية الاعتياد على الاهمال ؟ وهل يمكن ان تكون الابادة الجماعية قائمة من خلال ابادة شعب كامل متعدد القوميات على سبيل المثال ؟، وبعبارة اخرى على عكس ما تصرح به احكام اتفاقية الأمم المتحدة لقمع جريمة الابادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948؟
    أن إعادة قراءة الفقرة (ب) و (ج) من المادة (2) من الاتفاقية، هو أمر مهم لاستجلاء حقائق يمكن ان تغير المفهوم المعتاد في الابادة الجماعية، ان نص الفقرتين سابقتي الذكر يقوم على :
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
( ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
     ان الواقع يدعونا إلى تفسير مغاير لما طرح سابقا في الدراسات القانونية، إذ أن مفهوم الجماعة لا يقصد به حصرا ، جماعة قومية أو إثنية أو دينية فحسب، إذ ان مفهوم الابادة الجماعية يمكن ان يتحقق بالتجزئة، ونعني بذلك ان تستهدف الجماعة كليا، ولكن من خلال اتباع خطة ممنهجة تؤثر على وجود شعب بكامل مكوناته، على ان ذلك لا يمنع من البحث والتحقيق من خلال دراسة التصرف ونتائجه ، معززا بتوافر النية على إنهاء جماعة بشكل كلي او جزئي.
وبالرجوع إلى موضوع المقالة، هل يمكن عدّ الاهمال واسع النطاق وطويل الأمد في القطاع الصحي العراقي، مؤسسا لإبادة جماعية؟
    ان ما استقرت عليه المحاكم الجنائية الدولية، يقضي بأن الابادة الجماعية يمكن ان ترتكب خلال زمن الحرب والسلم معا، فضلا عن ان نطاق ارتكابها يمكن ان يتخذ صورة الاهمال الواعي، وبعبارة أخرى وعي متوافر لدى السلطات المعنية ، يقابله عدم اتخاذ تدابير وقائية للحد من انتشار الامراض الفتاكة.
    وبناءً على ما تقدم، لا يمكن القبول بأن جريمة الابادة الجماعية مختزلة بصورة منهج ، يتخذه عدو ضد طرف آخر، بل يمكن ان يكون ذات الطرف متهما بارتكاب جريمة ضد الاشخاص المكونين له ولو عن طريق الاهمال ما دامت النتيجة متحققة على نطاق واسع وطويل الأمد، فالقانون عموما يحمي الحقوق دون ان ينظر إلى من ارتكب الجريمة هل هو من طرف معادي ام لا، وهو ما استقرت عليه المحكمة الجنائية الدولية في قضية المدعي العام ضد بوسكو ناتغاندا عام 2017.
   ان الاهمال الواعي في هذه الحالة، يعد مؤسسا لمعيار مهم في القانون الجنائي الدولي وهو انتقال السلوك السلبي ( الامتناع) إلى سلوك ايجابي (الفعل) على نطاق منع تقديم الخدمات الصحية الواجب تقديمها، او عدم قابلية تلك الخدمات لمواجهة امراض فتاكة معاصرة ام متوقعة الحصول في المستقبل دون اتخاذ تدابير تحد منها.
    ويمكن بيان صور الاهمال الواعي في العراق من خلال:
    اهمال السلطات المختصة، بتحديث البيانات الخاصة بمسح المناطق التي تعرضت لاستخدام اسلحة فتاكة وخصوصا الاسلحة الحاوية على اليورانيوم المنضب، بدء من حرب الخليج الثانية عام 1991، مرورا باحتلال العراق عام 2003 وما بعدها.
1.   الاهمال في احصاء عدد المصابين بأمراض السرطان
2.   الاهمال في تحديد الامراض الأخرى غير السرطانية ، غير المعروفة طبيا.
3.   الاهمال في تحديد احتياجات العراق إلى برامج تطور القطاع الصحي والبيئي في العراق.
4.   الاهمال في تحديث المؤسسات الصحية وبالذات مستشفيات علاج امراض السرطان.
5.   الاهمال في توفير العلاجات اللازمة لمواجهة الامراض الفتاكة وغير المعروفة في العراق سابقا.
6.   الاهمال في تحريك المسؤولية الدولية، وتحميل الدول التي استخدمت اسلحة فتاكة، فضلا عن مسؤوليتها في التعويض عن الاضرار البيئية و الصحية.
    ان هذه الصور وغيرها، تعكس صورة من الاهمال الواعي المؤسس لوضع صحي متردي في العراق، القائم على نتائج كارثية يمكن ان تؤدي في السنوات القريبة القادمة إلى ابادة جماعية أكثر مما هي عليه الآن.
    من جانب آخر ، ان الظروف المعيشية القاسية وبالذات ارتفاع مستويات الامراض الفتاكة، يقابلها ارتفاع في تكاليف العلاج، ، من دون ان تتخذ السلطات التشريعية والتنفيذية تدابير علاجية و وقائية ، سيعني ان الاهمال لا يعني عدم العلم بالنتائج الكارثية ولا بعدم توجه الارادة نحو القبول بها، بل ان القبول بالإهمال وعن وعي يؤسس إلى علم قائم بذاته لدى المهمل مع قبوله بنتائجه، فإهمال (التدابير العلاجية و الوقائية) وعدم الالتفات إليها ضمن السياسة التشريعية في مجلس النواب ، فضلا عن سياسة مجلس الوزراء الصحية ، هو تصرف ايجابي يجسد لجريمة واسعة النطاق ترتكب في العراق. 
     أن الخطر الذي لاقاه المصابون بأمراض فتاكة، لا يقوم على مسألة فردية، كي يقوم مفهوم الابادة الجماعية، بل يجب لتوافر ذلك ان يكون واسع النطاق وطويل الأمد قد يكون عن طريق تلقي المرضى علاجا ناقصا او علاج غير صحيح او متأخر في تقديمه.
    ان الحالات سابقة الذكر، متى ما وقعت، فيعني ذلك وجود خلل نظامي أو هيكلي في خدمات القطاع الصحي في العراق ، أدت إلى حرمان المرضى من العلاج الطارئ المنقذ للحياة، ولكي تتحقق فرضية الاهمال في هذه الحالة، لا بد من اثبات ان السلطات المختصة كانت على علم بهذا الخلل أو كان عليها أن تعلم به ، ومع ذلك اهملت في اتخاذ التدابير اللازمة لمنع عواقب وخيمة هددت حياة المرضى من أن تتحقق.
    وبعبارة أخرى يجب أن تتجاوز تصرفات مقدمي الرعاية الصحية، مجرد خطأ أو إهمال طبي فردي، ففي هذه الحالة لا يمكن ان تؤسس لجريمة الابادة الجماعية، على عكس الحالة التي تهمل فيها الجهة المسؤولة عن الرعاية الصحية لحالات متكررة ، توحي بأنها اضحت منهاجا روتينيا دون معالجة ، وهو ما يجسد انتهاكا لواجبات السلطات المختصة ، لتقديم العلاج الطبي الطارئ للمرضى، على الرغم من كونها تدرك تمام الإدراك أن حياتهم معرضة للخطر إذا ما بقي الاهمال هو السائد في القطاع الصحي.
     وفي سياق متصل يجب أن يكون الإهمال مجسدا لخلل نظامي أو هيكلي حتى يمكن إسناده إلى سلطات الدولة ، ويجب ألا يشمل مجرد حالات فردية قد يكون فيها شيء ما قد وقع بناءً على خلل وظيفي بمعنى الخطأ أو تعامل بشكل سيء.
 وأخيرا يجب أن يكون هناك رابطة بين الاهمال المشكو منه والضرر الذي لحق بالمرضى، فضلا عن ذلك يجب أن يكون الخلل في القضية قد نتج عن فشل الدولة في الوفاء بالتزامها بتوفير إطار تنظيمي بالمعنى الأوسع المشار إليه أعلاه.

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع