القائمة الرئيسية

الصفحات

الحرب الباردة الثانية ومستقبل المنتظم الدولي الدكتور عمار احمد المكوطر معهد العلمين للدراسات العليا






الحرب الباردة الثانية ومستقبل المنتظم الدولي
الدكتور عمار احمد المكوطر
 معهد العلمين للدراسات العليا



الحرب الباردة الثانية ومستقبل المنتظم الدولي
الدكتور عمار احمد المكوطر معهد العلمين للدراسات العليا

    انتهت الحرب الباردة الأولى بين الولايات المتحدة الإتحاد السوفيتي السابق عام ١٩٩١ بتفكك الإتحاد السوفيتي بعد سلسلة إنهيارات سياسية وإقتصادية وتآكل في قواه الناعمة وعجزه عن مواكبة سباق التسلح التي جُر لها في عهد الرئيس الأمريكي رونارد ريغان . في تلك الحقبة التاريخية تمتعت الولايات المتحدة بأرجحية واضحة ، على خصمها ، لما تمتعت به من عناصر القوة الشاملة . سياسية،  إقتصادية،  قوة التحكم بالرأي ، فضلاً عن قيادات سياسية قوية ، فاعلة مؤثرة في محيطها المحلي والدولي . مذ وصول الرئيس الأمريكي ترامب الى السلطة في  العام ٢٠١٦ ، بدا واضحاً في خطاباته وسلوكه السياسي بداية حقبة جديدة في السياسة الخارجية الأمريكية عامة ، وإزاء  والصين خاصة .
    حتى تصاعدت حدتها إلى ما استدعى تسميته بالحرب الباردة الثانية ، خاصة بعد جائحة كرونة ، التى هاجم  ترامب بها الصين بشدة وحتى خارج أطر الخطاب الدبلوماسي،  كما وصفه كثير من الكتاب والباحثين ، حين وصف الفايروس،  بالفايروس الصيني ، كما وصفه وزير خارجيته مايك بومبيو ، بفايروس ووهان ، نسبة الى المدينة الصينية التي ظهرت بها الجائحة . الحرب الباردة الجديدة بدأها ترامب بحرب تجارية ضد الصين مدعياً انها تسرق التقنية الأمريكية ، وتفاد من الأسواق الأمريكية ، وأن طريقة التبادل التجاري يصب في مصلحة الصين على حساب مصالح بلاده . اعقب ذلك فرضه لعقوبات تجارية ضد الصين . الصين بدت في سياستها إزاء الولايات المتحدة اكثر هدوءً وعقلانية ، اخذاً بالمحكة الصينية : إعمل بهدوء وراقب بصمت وإنتظر أخطاء الآخرين . واصلت أداءها الإقتصادي الجيد والحفاظ على تحقيق معدلات نمو متصاعد ، والإنفتاح على الأسواق العالمية ، وتعزيز علاقاتها السياسية تبعاً لذلك . وهو ما زاد من غضب إدارة ترامب وتصاعد حدة هجومه لها ، وإستغلال اية مناسبة لتعميقها .
    الصين ملزمة بتحقيق أداء إقتصادي مرتفع ومستدام ، فهو جزء من شرعية نظامها السياسي ، فهو نظام غير ديمقراطي يقوده حزب شيوعي  واحد ، لايؤمن بالمشاركة والتعددية السياسية .
     رأس ماله السياسي لشرعيته الإقتصاد ، مذ وصول دنغ هسياو بنغ إلى السلطة عام ١٩٧٨ ، والذي يعد رائد النهضة الإقتصادية في الصين . بالتالي فإن اي تراجع في الأداء الإقتصادي ، يعني فقدان الحزب لشرعيته ، وما قد ينجم عنها من تداعيات سياسية واجتماعية تهدد الحزب والدولة . هي تسعى لبقاءها كحزب ودولة قوية ، وتطمح لمستويات ابعد في المشاركة و صنع القرار السياسي العالمي . بل لعلها تدرك ان الوقت قد بات مناسباً ان تتطلع لمكانة دولية ، تنافس الولايات المتحدة او تأخذ دورها في قيادة العالم .
     لعل الصين ايضاً ، تدرك ازمات الولايات المتحدة بشكل جيد . فلم تعد الثانية تمتلك ما يكفي من أدوات للحفاظ على مكانتها كقوة منفردة في قيادة العالم . تعاني الولايات المتحدة جملة من نقاط الضعف على الصعيدين الداخلي والخارجي وازمة قيادة . 
     على صعيد السياسة الخارجية فترت علاقاتها مع الكثير من حلفائها الأقربين ، كدول الإتحاد الأوروبي ، ووصل حدته في إتهام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الرئيس الأمريكي ترامب بممارسة القرصنة الحضارية، في أزمة كوفيد ١٩ ، حين إشترى ترامب الكمامات واجهزة التنفس الإصطناعية كلها ، وسعى لشراء شركة ادوية المانية .
    اما على الصعيد الداخلي ، فهناك إنشطار وشرخ سياسي واسع داخل البيت الحزبي الأمريكي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري ، إذ وصل مراحل لم يعدها من قبل ، بين إتهامات وتخوين ، وشكاوى محاكم ، وتراشق بالألفاظ القاسية .
      فقد وصفت رئيسة الحزب الديمقراطي في مجلس النواب نانسي بيلوسي ، ترامب بالشخص الضعيف ، والقائد الضعيف ، ردا على قراره إيقاف المساعدات لمنظمة الصحة العالمية ، وهددت بأنها ستقف بقوة ضد هذا القرار غير القانوني . كما حمله الحزب الديمقراطي وحتى من ساسة الحزب الجمهوري المسؤولية عن مقتل الأمريكيين بالفايروس نتيجة إستخفافه به ، والتأخر بأخذ التدابير الوقائية اللازمة قبل استشراءه ، خاصة وانه قد تلقى أنباء مسبقة من وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية ، كذلك من منظمة  الصحة العالمية التي عدت الفايروس وباءً عالمياً .
     لاشك ان ترامب يمثل الظاهرة الأسوء في تاريح الإدارات الأمريكية ، من أهمها فقدانه لتجارب سياسية سابقة او تبوأه لمنصب رسمي مرموق . نزعته العنصرية إزاء بعض الدول والأشخاص ، وخاصة الثرية منها ، وسلوكه الإبتزازي في التعامل الدولي ، حتى بدا انه يتعامل مع موظفيه في شركاته او فنادقه ، اي كأن الدولة ملكاً له فيما يود إتخاذه من قرارات إزاء الآخرين . لعل ذلك تمظهر في سياساته الداخلية والخارجية على السواء ، ففي البعد الأول تلاسناته وجدله الحاد مع حكام بعض الولايات ، مثل ما حدث مع حاكم ولاية نيويورك ، الذي إتهم ترامب بالتقصير حيال ما يحدث في ولايته ، كما رفض قرار ترامب  بفتح الولايات وإعادة العمل الإقتصادي ، ووصف قرار الرئيس انه مخالف للقانون وليس من صلاحياته ، وبالتالي اجبر ترامب بعد اصراره انه من صلب اختصاصه ، للتراجع  وترك الأمر يقرره حكام الولايات انفسهم .
   على البعد الخارجي ، ضعف أداء الولايات المتحدة وتآكل الكثير من قوتها الناعمة ، خاصة بعد إنسحابها من عدة منظمات دولية ، وتجميد دعم منظمة الصحة العالمية ، والمطالبة بإصلاحها وإقالة رئيسها الأثيوبي ، ورد الأخيرة ان الولايات المتحدة  تصدر مشكلاتها الداخلية وتتهم المنظمة والصين . لاشك ان هكذا سياسات مرتبكة ، بحكم عوامل وهن كبيرة تعانيها الولايات المتحدة ، وخاصة ازمة في قيادتها ، التي إن تواصل بقاءها في السلطة لدورة قادمة ، سيعزز من تنامي دول طامحة في صعود سلم القوة او الزعامة ، بالأخص الصين والإتحاد الروسي ، ويفقد الولايات المتحدة كثير من هيمنتها ونفوذها داخل المجتمع الدولي كدول ومنظمات ، إذ فتحت الباب واسعاً لنفوذ هذه القوى وتعزيز مكانتها .
    في ظل هكذا وضع أمريكي عليها إعادة الحساب ، فإن الوضع الدولي قد تغير ، فليس هي امريكا عام ١٩٩١ من حيث القوة والنفوذ ، وليس الصين اليوم كالإتحاد السوفيتي قبيل تفككه ، وان ميزان القوة ليس في صالحها لشن حرب باردة جديدة ، قد تتغير ملامحها إلى حرب ساخنة ، ليس بوسع الجميع تحمل أكلافها ، وان التعاون خير وسيلة لإدارة أزمات العالم ، ولم يعد بوسع قوة مهما عظمت ان تدير هذا العالم الواسع والمتشابك في علاقاته ومصالحه ، كما آن الأوان لإصلاحات حقيقية لمنظمة الأمم المتحدة للقيام بدورها ، كمؤسسة  امن جماعي ، والإبتعاد عن سياسات توازن القوى التي جرت حروباً مدمرة ذاقت البشرية ويلاتها ، ولا زالت تعاني آلامها .


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع