القائمة الرئيسية

الصفحات

التنظيم السِّياسيّ والمعيار القانوني للدَّولة في فكر الدكتور عصام العطية الدكتور سماح مهدي صالح العلياوي

 

 

التنظيم السِّياسيّ والمعيار القانوني للدَّولة في فكر الدكتور عصام العطية

الدكتور سماح مهدي صالح العلياوي

 


التنظيم السِّياسيّ والمعيار القانوني للدَّولة في فكر الدكتور عصام العطية

الدكتور سماح مهدي صالح العلياوي

 

إن توفر عناصر الشَّعب والإقليم والتنظيم السِّياسيّ، ليس كافياً بحد ذاته لقيام الدَّولة، فهذه العناصر قد تتوفر في التقسيمات الإدارية داخل الدَّولة البسيطة، ولا بدّ من توفر معيار في القانون الدَّوْلي يميُّز الدَّولة عن غيرها من الوحدات السِّياسيَّة والإدارية والإقليميَّة. لهذا ذهب الفقه التقليدي إلى ضرورة توفر شرطين، هما: السِّيادة، وطبيعة الاختصاصات الّتي تملكها الدَّولة.

إن فكرة السِّيادة حديثة نسبية ظهرت القرن السادس عشر، وقد نشأت في المجتمع الإقطاعي عندما كانت السُّلطة الملكية تخوض صراعاً ضدَّ الإقطاع، وضدَّ البابا والإمبراطورية الجرمانية. وقد ادخل الفقيه الفرنسي "جان بودان" (Jean Bodi) نظرية السِّيادة في الفقه القانوني، حيث وصف ملك فرنسا بالسِّيادة، وهي "السُّلطة العُليا" (Supreme authority) على المواطنين والرعايا، والّتي لا تخضع للقوانين، وهي سلطة مطلقة مستقلة عن أية سلطة أخرى. وقد ذهب الفيلسوف الإنكليزي "توماس هوبز" (Thomas Hobbes) إلى القول أن صاحب السِّيادة لا يتقيد بشيء حتى بالدين، وأن السِّيادة لا تتجزأ، لكن في القرن العشرين أصبحت سيادة الدَّولة مقيدة بقواعد القانون الدَّوْلي العام. وتتشكل السِّيادة في الفقه التقليدي من مظهران، هما: داخلي يقوم على حريَّة الدَّولة في التصرف في شؤونها الداخلية، وفي تنظيم مرافقها العامة، وفي فرض سلطانها على كافة ما يوجد على إقليمها. وخارجي يقوم على استقلال الدَّولة بإدارة علاقاتها الخارجية بدون ان تخضع في ذلك لأية سلطة عُليا.

لقد واجهت نظرية السِّيادة التقليدية انتقادات من فقهاء القانون الدَّوْلي العام، وذلك لأسباب عدَّة، أهمُّها: إنَّ الدَّولة هي صاحبة الاختصاص العام، ولا تخضع لسُّلطة أعلى على المستوى الداخلي، غير أنها لا يُمكن أن تكون مُطلقة التصرف. فالدَّولة ليست غاية في ذاتها، وإنَّما هي وسيلة لتحقيق مصالح الشَّعب. كما تتعارض فكرة السِّيادة مع الفكرة السِّليمة للدَّولة ومع خضوعها للقانون، ذلك لأن الدَّولة في جميع تصرفاتها تخضع للرقابة الداخلية، سواء كانت رقابة سياسيَّة أم إدارية أم قضائية أم شعبية. فضلاً عن أن القانون الدَّوْلي يستطيع فرض سلطته ورقابته على علاقة الدَّولة برعاياها، بقصد ضمان حدِّ أدنى من الحقوق. كما إن نظرية السِّيادة لا تتفق مع التطوُّر الحديث للقانون الدَّوْلي العام، وضوابط إدارة العلاقات الدَّوْلية فيما يتعلق بمحاولة اخضاع الدُّوَل لسُّلطة المنظمات الدَّوْلية، وفي إقامة نظام للأمن الجَمَاعي وآخر للتضامن الإقتصادي.

وقد اتجه الفقهاء الذين يرفضون فكرة السِّيادة إلى البحث عن معايير أخری تمیُّز الدَّولة، وقد وجدت نظريات عدَّة، أهمها: نظرية "لاباند" (Laband)، وترى أن ما يميُّز الدَّولة هو ما تملكه من قوَّة للجبر والقهر تباشرها على أشخاص آخرين، وهذه القوَّة هي حق خاص للدَّولة لم تستمده من سلطة أخری، لكن هذه النظرية تختلف مع متطلبات المجتمع الدَّوْلي في كون الدَّولة غايتها حماية والأشخاص. وظهرت نظرية "ييلنك" (Jellinek)، وترى أن ما يميُّز الدَّولة هو كونها تملك اختصاص إعطاء الاختصاص، فهي السُّلطة الوحيدة في الإقليم الّتي يمكنها أن تضع دستورها، وتنشئ هيئاتها، وتحيد اختصاصها واختصاص سائر الأشخاص والهيئات الموجودين في إقليمها. كما ظهرت نظرية الخضوع المباشر للقانون الدَّوْلي العام ومباشرة الاختصاصات الدَّوْلية، وترى أن ما يميُّز الدَّولة، هو خضوعها المباشر للقانون الدَّوْلي العام، لكن هذا المعيار لايصلح دائماً، لأن القانون الدَّوْلي العام يعني كذلك بتنظيم شؤون الأشخاص والأقاليم غير المستقلة، والمنظمات غير الحكومية (Non – governmental organizations).

إن أهم النظريات الّتي تفسر معيار وجود الدَّولة هي نظرية الفقيه الفرنسي "شارل روسو" (Charles Russo)، وتفيد بأن الدَّولة تتمتَّع باختصاص مانع وجامع في إقليمها، وتتكون من ثلاثة ركائز، هي: "مانعية الاختصاصات"؛ بمعنى أنه لا يجوز أن تمارس السُّلطة في إقليم معين إلاَّ دولة واحدة تحصر بذاتها جميع الاختصاصات، وأن نجاح السُّلطة في ممارسة اختصاصاتها يتوقف على عدم وجود سلطة أخرى تنافسها، وهذا التفرد بالسُّلطة يمثل المظهر السِّلبي أو المانع للاستقلال في احتكار الدَّولة خاصة في إجراءات القسر وممارسة السُّلطة القضائية وتنظيم المرافق العامة، وأن سلطان الدَّولة في إجراءات القسر والقمع يكون مطلقا، أمَّا في مسائل التشريع والقضاء فهو نسبي. أمَّا "حريَّة الاختصاصات"؛ فتعني أن تباشر الدَّولة بنفسها وبواسطة سلطاتها الوطنيَّة اختصاصاتها بكل حريَّة دون أن تفرض عليها أية دولة أو سلطة أخرى أو أمر أو توجيهات خاصة. أمَّا "عمومية الاختصاصات"؛ فتعني أن الدَّولة تتمتَّع بأختصاصات شاملة غير مُحدِّدة تسمح لها بالتدخل في سائر الأمور الداخلية لتنظيمها، وتوفير الأمن والاستقرار والرفاهية للمواطنين، فالدَّولة تضع دستور الحكم، وتصدر قوانین مختلفة وتنظم المرافق العامة، ولا يحد من مدى هذا التدخل من الوجهة الدَّوْلية سوى الالتزامات الّتي يقضي بها القانون الدَّوْلي العام بشأن احترام حقوق الإنسان، واحترام الدُّوْل الأخرى وحقوق رعاياها.

إن ما يميُّز الدَّولة عن غيرها من التنظيمات السِّياسيَّة والقانونية، هو توفر عناصر الشَّعب والإقليم والسُّلطة، ومن ثَّمَة يجب أن تحضى الدَّولة بالاعتراف من قِبَل المجتمع الدَّوْلي بغض النظر عن انضمام هذه الدَّولة إلى المنظمات الدَّوْلية من عدمه، كون الاعتراف يؤكِّد الحدود الجيوسياسية للدَّولة، بالإضلافة إلى تأكيد التزام هذه الدَّولة بمعايير القانون الدَّولي العام، لا سيَّما عدم الاعتداء واحترام حقوق الدُّوَل الأخرى. والواقع أنه على الرغم من التيارات الّتي هاجمت فكرة السِّيادة، فإن الاتِّفاقات الإقليميَّة والدَّوْلية لا تزال تجعل من احترام السيِّادة الوطنيَّة قاعدة أساسيَّة، كما نص عليها ميثاق منظَّمة الأمم المتَّحدة المادة الثانية: "تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السِّيادة بين جميع أعضائها". وفي هذا الاتجاه أكَّدت محكمة العدل الدَّولية الدائمة بقضية مضيق "كورفو" (Corfu) بين بريطانيا وألبانيا في نیسان/أبريل 1949، الّذي جاء فيه: "إن احترام السِّيادة الإقليميَّة فيما بين الدُّوَل، يُعدُّ أساساً جوهرياً من أسس العلاقات الدَّوْلية".

وبموجب نظرية السِّيادة فأن الدُّوَل تنقسم إلى قسمين، هما: الأولى، الدُّوَل تامة السِّيادة، وهي الّتي لا تخضع في شؤونها الداخلية أو الخارجية لرقابة أو هيمنة من دولة أخرى، وبعبارة أخرى هي الدَّولة المستقلة تماماً في إدارة شؤونها الداخلية والخارجية، لكنها ليست مُطلقة التصرف في ميدان العلاقات الدَّوْلية، بل أنها تخضع دائما لشروط للقانون الدَّوْلي العام. والثاني، الدُّوَل ناقصة السِّيادة، وهي الّتي تخضع في مباشرة شؤونها الداخلية والخارجية أو في بعض هذه الشؤون لسُّلطان دولة أجنبية، مثل: الدُّوَل التابعة، والدُّوَل المحمية، والدُّوَل الموضوعة تحت الانتداب، والدُّوَل الموضوعة تحت الوصاية، والدول الموضوعة في حالة حياد دائم.

أولاً: "الدُّوَل التابعة" (Dependent statesإن التبعية هي لنظام قانوني تنشأ بموجبه رابطة بين دولتين متبوعة  وتابعة، بحيث تباشر الدَّولة المتبوعة عن الدَّولة التابعة بعض أو كل اختصاصاتها أو الداخلية الدَّوْلية.

ثانياً: "الدُّوَل المحمية" (Protected countries) إن الحماية هي علاقة قانونية تنتج عن معاهدة دولية، حيث تلتزم الدُّوَل الحامية بالدفاع عن الدُّوَل المحمية، وفي مقابل ذلك يعطي لها حق الإشراف على الشؤون الخارجية للدَّولة المحمية، وهناك نوعين من الحماية، هما: "الحماية الدَّوْلية" (International protection)، وهي تنظيم العلاقة بين دولتين متجاورتين تجمع بينهما روابط مشتركة، وتكون أحدهما دولة قوية والأخرى ضعيفة، فتضع الدَّولة الضعيفة نفسها في حماية الدَّولة القوية لتتولى الدفاع عنها. أمَّا "الحماية الاستعمارية" (Colonial protection)، وهي فرض الحماية على الدَّولة المحمية، ويكون الغرض منه تحقيق أغراض استعمارية تهدف إلى ضم الإقليم الّذي يوضع تحت الحماية إلى الدَّولة الحامية، بدلاً من ضم الدَّولة المحمية إلى الدَّولة الاستعمارية الّذي يؤدي إلى إثارة روح المقاومة عند السُّكَّان.

ثالثاً: "الانتداب" أو "التفويض" (Mandate)، وقد ظهر بعد الحرب العالمية الأولى ليطبق على الأقاليم والمستعمرات الّتي انقسمت عن الإمبراطورية العثمانية وألمانيا، وقد قسم عهد عصبة الأمم الانتداب في المادة (22) إلى ثلاثة أنواع، هي: الأول، يشمل الأقاليم الّتي انفصلت عن الإمبراطورية العثمانية، والّتي بلغت درجة من التطوُّر بحيث يُمكن الاعتراف بها مؤقتاً، لكن بشرط أن تسترشد في إدارة شؤونها بنصائح ومساعدة الدُّوَل المنتدبة، مثل: العراق والأردن. والثاني، وشمل أقاليم إفريقيا الوسطى باعتبارها أقل تقدماً، ولذلك خضعت لإدارة الدَّولة المنتدبة بشكل مباشر، مثل: الكاميرون ورواندا. والثالث، شمل بعض الأقاليم الواقعة في جنوب غرب إفريقيا، وبعض الجزر في المحيط الهادي. ونظراً لقلة سكانها وصغر مساحته اومجاورتها للدَّولة المنتدبة، فقد تقرَّر اخضاعها إلى قوانين الدَّولة المنتدبة باعتبارها جزءاً من أراضيها. وبعد تشكيل منظَّمة الأمم المتَّحدة انتهى نظام الانتداب بحق الشَّعوب في تقرير المصير، وبعض الدُّوَل خضعت لنظام الوصاية الدَّوْلي وفقاً لميثاق منظمة الأمم المتَّحدة في المادة (۷۷).

رابعاً: "نظام الوصاية الدَّوْلي" (The international guardianship system) استثتی ميثاق منظمة الأمم المتَّحدة من الأقاليم غير المتمتعت بالحكم الذاتي فئة محدودة منها إنشأ لإدارتها نظاماً خاصاً في الفصل الثاني عشر من الميثاق،  وقد حدَّدت المادة (77) الأقاليم الّتي يجوز وضعها تحت نظام الوصاية الدَّوْلي، وقسمتها إلى ثلاثة أنواع، هي: الأول، الأقاليم الّتي كانت موضوعة تحت نظام الانتداب. والثاني، الأقاليم الّتي اقتطعت من دُوَل الاعداء بعد الحرب العالمية الثانية. والثالث، الأقاليم الّتي تضعها منظَّمة الأمم المتَّحدة تحت نظام الوصاية بمحض اختيارها. وقد انتهت الوصايا بعد استقلال جميع الأقاليم عام 1994.

خامساً: "دُوَل الحياد الدائم" (States of permanent neutrality)، إن الحياد هو الوضع الذّي تمتنع بموجبة الدَّولة من المشاركة في الحرب، ومن التحيز لأيّ من الفريقين المتحاربين. والحياد نوعين، هما: الأول، هو "الحياد الموقت" (Temporary neutrality) الّذي تعلنه أحدی الدُّوَل عندما تكون هناك حرب قائمة بين دُوَل أخرى، ويكون لمدة تبدأ هذه المدة بقيام الحرب وتنتهي بانتهائها. أمَّا الثاني، هو "الحياد الدائم" (Permanent neutrality) الّذي بموجبه تلتزم الدَّولة بشكل دائم ، بعدم ممارسة اختصاصات الحرب عند قيامها بين الدُّوَل، ويكون هذا الحياد استناداً إلى معاهدة دولية مقابل ضمان سلامتها. وقد استحدث نظام الحياد الدائم في أوروبا خلال القرن التاسع عشر التحقيق هدفين، هما: الأول، حماية الدُّوَل الضعيفة الّتي يعتبر وجودها ضرورية للمحافظة على التوازن الدَّوْلي. والثاني، حماية السِّلم الدَّوْلي بإيجاد دولة عازلة تفصل بين دولتين قويتين أو معروفتين بعدائهما الدائم لبعضهما.

ويتميُّز الحياد الدائم بثلاثة خصائص، هي: "صفة الديمومة" خلافاً للحياد المؤقت الّذي ينتهي بانتهاء القتال. بالإضافة إلى "صفة الكلية" أيّ أن الحياد يطبق على الدُّوَل لا على أقاليم أو جزء من دولة معينة. كذلك "صفة التعاقد"، أيّ أن الحياد ينشأ عن معاهدة تعقد بين دولتين أو أكثر. ويختلف الحياد الدائم عن الحياد الإيجابي أو عدم الانحياز الّذي أعلنته بعض دُوَل العالم الجنوب في سياستها إزاء الحرب الباردة، حيث أن عدم الانحياز معترف به بموجب معاهدة دولية، بينما الحياد الإيجابي يكون وحيد الطرف، ويُمكن للدَّولة الّتي تصرَّح به أن ترجع عنه متى شاءت دون أن يكون في ذلك خرق للقانون الدَّوْلي العام.

إن تشكيل الدُّوَل يستلزم شروطاً عدَّة، أهمُّها: الإقليم والشَّعب والنظام السِّياسيّ، ويشترط في النظريات الحديثة في تشكيل الدُّوَل توفر عنصر الاعتراف الدَّوْلي والالتزام بقواعد القانون الدَّوْلي العام، وأسس العلاقات الدَّوْلية، وعلى هذا الأساس ظهرت نظرية "التدخُّل الإنساني" (Humanitarian intervention)، ونظرية "السِّيادة المرنة" (Flexible Sovereignty)، أو "السِّيادة المقيدة" (Restricted Sovereignty).

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع