القائمة الرئيسية

الصفحات

تراجع الغرب والحتمية التاريخية و مستقبل العالم د. عمار احمد إسماعيل المكوطر

 

 

 

تراجع الغرب والحتمية التاريخية و مستقبل العالم

د. عمار احمد إسماعيل المكوطر


 

تراجع الغرب والحتمية التاريخية و مستقبل العالم

د. عمار احمد إسماعيل المكوطر

 

   بالرغم من تربع قوى كبرى من امبراطوريات و دول عن هرم الزعامة العالمية و بسط نفوذها و ارادتها على دول كثيرة و أقاليم واسعة خارج حدود جوارها الإقليمي ، إلا أن ما يمكن ملاحظته ، لم تصمد قوة عظمى على البقاء و الحفاظ على مكانتها مطلقاً فحتمية التغيير وفق حركة التأريخ تشي دوماً بصعود قوى و هبوط أخرى ، و محاولة أي قوة عظمى في امتلاك المزيد من عناصر القدرة و التأثير ليس من شأنها إلا إطالة عمر السيطرة و ليس ديمومة البقاء .                                                                                     

  وقد شهد العالم بعد الحرب العالمية الأولى سيطرة أوربية تكاد تكون مطلقة على المسرح العالمي و خاصة بعض قواها الفاعلة كبريطانيا و فرنسا ، بيد أنه بعد الحرب العالمية الثانية بدأ نجمهما بالافول تدريجياً و صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى مهيمنة، لا يباريها مكانة سوى الإتحاد السوفيتي الذي إنهار في العام 1991 ، لتتفرد الولايات المتحدة بقيادتها للعام و إن بقيت الدول الأوربية ، و لاحقاً بما صار يعرف الاتحاد الأوربي تدور في الفلك الأمريكي لتشابك مجموعة عوامل مصلحية و ثقافية ، اقتصادية و أمنية و نفسية . منذ العام 2001 وتحديداً بعد احداث 11 سبتمبر 2001 وما ترتب عليه من احتلال أفغانستان ولاحقاً العراق في العام 2003 بدأ نجم الولايات المتحدة في التراجع التدريجي عن برجه الذي سطع فيه منفرداً لعقد من الزمن.                                                      

   لعل الاكراهات المترتبة عن واقع دولي وإقليمي اتسم بأزمات مالية، اقتصادية، أمنية و صحية (بفعل وباء كوفيد 19 المستجد) حدت من القدرات الغربية عموماً والولايات المتحدة خصوصاً في بلورة سياسية متكاملة ، فعالة وسريعة ، تتمثل هذه القطاعات مجتمعة لمواجهة كل هذه الضغوط التي ساقتها الى التراجع، بل ودفع هذا الوضع في الضفة الأخرى لدول، بفرصة تأريخية للبحث عن مجالات جديدة و عديدة لتعزيز مكانتها ، اقليمية كتركيا وإيران ، ودولية كالصين وروسيا وربما ستلحق بها الهند والبرازيل.                                             

   تعاني الولايات المتحدة من تآكل في كثير من مكامن قوتها الناعمة، تعاني أيضاً من تحمل عبء الحفاظ على التماسك الاستراتيجي لحلفائها، وأكلاف حل أزمتها وحمايتها. كما تعاني من أزمة الشريك الاستراتيجي الحقيقي ، خاصة في منطقة الشرق الأوسط . لم يعد الكيان الصهيوني الشريك الاستراتيجي الأبرز للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط و حامي مصالحها ، بتلك القدرة و القوة من التأثير في محيطه ، لانشغاله و تشتت إمكاناته نتيجة انقسامات عمودية و أفقية حادة ضربت أسسه ، خاصة بعد عدوانه الأخير على غزة و اشعاله حرب دامت 11 يوماً في يونيو 2021 ، و ما تعرض له ضربات صاروخية موجعة في داخل عمقه و بناه التحتية ، خلقت انكساراً عميقاً بين قياداته السياسية و بقية الأحزاب ، و أطاحت برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعد ترأس لهذا المنصب على مدار 12 عام متتالية ، كما أطاحت بحزبه الليكود من تشكيل حكومة بعد 4 انتخابات ، لم يكن بوسعه تشكيل حكومة أغلبية ، مما أنتهى الى تشكيل حكومة ائتلافية جديدة من 8 أحزاب سعت مجتمعة لإبعاد حزب الليكود و زعيمه نتنياهو عن السلطة . عكس أيضاً انقساماً داخلياً سياسياً و اجتماعياً و دينياً داخل الكيان الصهيوني ، و طفا على السطح أزمة هوية لهذا الكيان ، هل (دولة) علمانية أو دينية ؟ و تراجع أدائه من موقع تهديد بالهجوم على إيران الى عجز عن مواجهة الفصائل الفلسطينية المحدودة الإمكانات و القدرات . بشأن العلاقات مع تركيا ، فأنها تراجعت للحد الذي أخذت الولايات المتحدة بالبحث عن قواعد بديلة لقاعدتها العسكرية في تركيا ( قاعدة أنجرليك) ، و فرض عقوبات على تركيا بعد انفتاح الأخيرة العضو في حلف الناتو ، على روسيا و التعاون العسكري معها الذي أثمر عن موافقة روسيا بتزويد تركيا بمنظومة صواريخ s400  المتقدمة . يرافق ذلك تصاعد سريع للقدرات العسكرية الإيرانية رغم الحصار الأمريكي عليها وتعزيز ذلك بتحالفاتها مع الصين وروسيا، تمثل ذلك باتفاق استراتيجي تزود من خلاله روسيا إيران بنظام أقمار صناعية متقدم ، يسمح لإيران بمراقبة منشئات نفطية خليجية والكيان الصهيوني وقوات أمريكا في العراق ، مما جعل صحيفة واشنطن بوست تصف ذلك النظام (كانوبوس 5 المتقدم) منح ايران قدرات غير مسبوقة لتعقب أهداف عسكرية بالشرق الأوسط مزودة بكاميرات عالية الدقة ، تعزز قدرات التجسس الإيرانية . كما أرسل خبراء روس لإيران لتدريب أطقم إيرانية لتشغيل نظام في منشأة كرج شمال طهران.

   يصحب ذلك عجز الولايات المتحدة عن مواجهة هذه الأزمات وإيجاد وسائل ناجزة لحلها أو إدارتها بما يضمن بقاء تفوقها وزعامتها والحفاظ على مجالاتها الحيوية ومناطق نفوذها العالمية.

   تشهد الدول الصاعدة في سلم القوة نمواً أفضل وتسجل معدلات أعلى في نظيراتها الأوربيات والولايات المتحدة، إذ يعني النمو الأقل، عجزاً أكبر في الميزانية و معدلات بطالة في ارتفاع ، قلة ولوج رؤوس الأموال وصادرات أضعف ، ولهذا آثار خطيرة في الفاعليتين الداخلية والخارجية ، ومؤشر ضعف كبير في تنامي الأزمات وإتساعها، والشك في القدرة على تجاوزها أو الحد منها.

   يشكل صعود هذا الفواعل عناصر ضغط وتهديد ومشكلات لا تتوقف ، إذ يتصاعد دور واهتمام هذه الفواعل في مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا ومناطق الخليج العربي والبحر المتوسط بينما يضعف ويتراجع موقف الولايات المتحدة و أوربا عن ممارسة دور فعال للردع بما يحمي ويؤمن مصالحها . إن تهديد هذه الفواعل هو ، جغرافي واستراتيجي للغرب ، يعكسه سلوك وتصريح ساسة الغرب في صعوبة إيجاد حل لتنامي قوة منافسيهم وانكفائهم في ساحات كانت تعد تأريخياً مجالاتهم الحوية التي تحقق أمنهم الاستراتيجي .

   تبقى الولايات المتحدة قوة كبرى ، سوى أنها عاجزة عن ترجمتها سياسياً ، بفعل انقسامات عمودية وافقية في الداخل الأمريكي ، وتزايد قوة وعدد الفواعل في الساحات الإقليمية والدولية.

   على الدول العربية أن تفاد من هذا الوضع الدولي وتصاعد أزماته ، و اللعب بين الأطراف المتناقضة ، فمهما كان تأثير الأزمات حاداً إلا أنها تمثل في ذات الوقت فرصة إستراتيجية لمن يحسن استثمارها ويوظف ادواته وقدراته في تحقيق مشروعه الوطني والقومي ، ويحوز مكانه أعلى في سلم الترتيب والتأثير الدولي .

   كلما ازدادت الدول الصاعدة في امتلاك عناصر التقدم ، ازدادت رغبتها في توسيع المجال وتمديده وصيانته .

   وكلما استقوت ، ازدادت دول الشرق الأوسط و شمال أفريقيا تحديداً في تمتين وتعميق العلاقة معها.

    يُعد المتوسط ذو أهمية قصوى للدول إقليمة كإيران بفعل عوامل جذب جيوثقافي ، وساحة جذب جيواستراتيجي وجيوسياسي لقوى كبرى كالصين وروسيا.

    تشهد منطقة الشرق الاوسط تفاعلات ذات مستويات متعددة ومتسارعة ، يستحيل فهم وتفسير النظام الدولي وتحولاته بمعزل عنها ، فالأقاليم السياسية والاستراتيجية شديدة الترابط بتحديد السياسات الدولية.

    فبدت بعض القوى الصاعدة كالصين التي تظهر في مكانة عالية ، كقوة إقليمية ، عبر ازدياد قدراتها في فرض ارادتها إزاء بعض الملفات الإقليمية التقليدية، كمكانتها في بحر الصين الجنوبي، وتنويع علاقاتها وشراكاتها مع الآسيويين والأفريقيين، وتمتين علاقاتها عبر القارة الأوراسية ومع دول أوروبا. باتت الصين تتواجد في مواقع متقدمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويبدو ذلك واضحاً عند تفحص ترتيب شركائها التجاريين. قد يبدو أن بزوغ قطبية صينية مع الولايات المتحدة هو سابق لأوانه في المستقبل القريب، إلا أن صعودها السريع هذا، وما يشتمل عليه من تعزيز في القوة الشاملة، يقربها من وضع مستقبله مكانة بارزة في النظام الدولي الجديد ، التي بدأت بوادره تتشكل بصعود قوى متعددة خاصة من جهة الشرق إزاء تراجع في قدرات الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، مما يخلق نظاماً دولياً جديداً بتوازنات جديدة تتطلب نظاماً دولياً جديداً.

   لابد من إعادة قراءة وتفسير في مقدار ونوع التغير الذي حدث في السياسات العالمية، والتغير الذي هز المكانة التقليدية للدول الفاعلة على المسرح الإقليمي والدولي، فالولايات المتحدة وبعض اللاعبين الدوليين الاوروبيين في القرن العشرين ليسوا كما كانوا عليه في الألفية الثالثة من القوة والقدرة التأثير، وعلى الولايات المتحدة أن تتأقلم و تتكيف مع صعود لاعبين دوليين جدد، إذ ليس بوسعها تغيير سياسات الأخرين بالقوة و الاكراه، فقد سقطت كثير من معادلات التوازن التقليدية ولابد من إعادة إنتاج معادلات دولية جديدة ونظام دولي جديد، وعلى الولايات المتحدة والاوربيين أن يقرأوا بتمعن التطورات العالمية ومسار الأحداث و حركة التأريخ ، فإدارة مشتركة للعالم بقواعد دولية جديدة تؤمن مصالح جميع الفاعلين الدوليين ، هي المسار الوحيد لعالم آمن مستقر، يسوده السلام والوئام، السعادة والرفاه، لجميع الدول والشعوب في سائر بقاع العالم.

    من المؤسف حقاً، أن يكون بيان مؤتمر القمة كورنوول في بريطانيا يوم 14 /6 /2021 لمجموعة الدول السبع الكبرى، الذي قرأه الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن ، تغلب عليه الشعارات تحت عنوان عريض (بناء أفضل للعالم)، أكثر من الواقعية، و بدلاً من أن يعزز سبل الوحدة والتكامل والإندماج العالمي من خلال توسيع دائرة عمل المؤسسات الدولية وتنشيط فاعليتها، ودعوة بقية القوى الكبرى الفاعلة في السياسة الدولية، إلى الإسهام في تحقيق الأمن و السلم العالمي و زيادة منسوب العدالة الاجتماعية والرفاه لدول العالم عبر العمل على عناصر الجذب لهذه القوى. كان البيان و المؤتمر الصحفي للرئيس الأمريكي ينطوي على التهديد والوعيد، التخدير، والدعوة لزيادة التكتلات والأحلاف ! إن غياب فكر استراتيجي وعدم القدرة على امتلاك رؤية استراتيجية شاملة ، تسعى لتحقيق الأمن والسلام وعدالة اجتماعية عالمية عبر مشاركة عامة لكافة القوى الفاعلة والصاعدة، ودعم اللاعبين الدوليين الضعاف، سيخل بطبيعة الوضع العالمي، ويجعله أكثر عنفاً واضطراباً وميلاً نحو الصراعات والحروب المدمرة ، وإذ يعيش العالم عصر السلاح النووي في ظل تصاعد حدة الصراعات وتعقد الأزمات ، وصعوبة إيجاد الحلول الدبلوماسية، فأن مخاطر انفلات الأمور أصبحت شبه مؤكدة ونتائجها مدمرة ، تهدد مستقبل ووجود العالم ، وقد تنهي ما بنته الحضارة الإنسانية في مسيرتها الشاقة وتأريخها الطويل في دقائق معدودة. قد ينعت هذا بالغباء والانحطاط في السلوك السياسي لصناع القرار العالمي والسياسة الدولية. على مراكز الأبحاث والمؤسسات الأكاديمية وفقهاء القانون والسياسة أن يعملوا بجد لخلق بيئة دولية جديدة وثقافة إنسانية أكثر وعياً بالمخاطر المحدقة بالعالم جراء سياسات غير مسؤولة، وغير مستندة الى منظومة قيمية وأخلاقية، تعمل للحفاظ على الإنسان والحضارة الإنسانية والعيش بأمن وسلام، في عالم مطمئن تعمه السعادة وينعم بالاستقرار والرفاه.

 

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع