العراق بالمدرك الاستراتيجي الأمريكي و الإيراني و مآلات الصراع
بقلم د. عمار احمد اسماعيل المكوطر
العراق بالمدرك الاستراتيجي الأمريكي و الإيراني و مآلات الصراع
بقلم د. عمار احمد اسماعيل المكوطر.
يمثل العراق البعد الاستراتيجي نفسه لدى مختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين، خاصة إيران و الولايات المتحدة، يعبر عن ذلك حجم التفاعلات والتدفقات بينهما وواقعها المادي المتزايد.
يعد العراق ساحة تقاطع و صراع تأريخي . لأهداف استراتيجية للقوى المتصارعة، للتحكم و السيطرة و لتعزيز النفوذ و المكانة في سلم القوة الدولي . يمكن وصف العراق بأنه قلب العالم أو مفتاحه ، فالسيطرة عليه تعني التحكم بعقد الاتصالات و المواصلات العالمية، ووضع اليد على خزان طاقوي كبير ، فضلاً عن التحكم بخطوط النقل بين قارات العالم القديم، البحرية ، الجوية و البرية . قدرات العراق الكبيرة ستزيد من تأكيد أهميته الاستراتيجية للفواعل الدولية، ما يعزز من حدة الصراع فيه و يعظم شوكته ، ضعف الهوية الوطنية لنخبه السياسة ، و خواء الوعي السياسي الشعبي، وحالة الانقسام الذي يعانيه بفعل ترسبات تاريخية و نفسية ، خلقت هويات فرعية متعددة حالت دون تبلور هوية وطنية جامعة . يتمتع العراق بواجهات جيوسياسية، جيواستراتيجية، جيوثقافية ـ حضارية، وجيوسكانية تسمح له بالتعامل و التحرك على عدة واجهات إقليمية و دولية . انتبهت بريطانيا لهذه الميزة ، إذ مثل العراق في التاريخ إمبراطورية أو إمبراطوريات عظيمة ، كما مثل مركز للعاصمة الإسلامية في عهد الإمام علي ابن ابي طالب ، مما حدا بها ابتسار جغرافيته البحرية و البرية ، و تضييق إطلالته البحرية عبر الخليج العربي و منه الى بحر العرب و بقية الأحواض المائية المهمة في العالم . كما تدرك إيران عمق العراق الاستراتيجي ، وسعت عبر مراحل تاريخية لاحتلاله أو السيطرة عليه او الحد من نفوذه . تعتبر العراق جسر عبور نحو الإقليمية و العالمية ، فالعراق بموقعه المجاور لسوريا يعني لها التواجد في المتوسط ، البحر الذي يربط بقع العالم القديم الثلاث ، و يربط بين أهم الممرات المائية حول العالم ، و منجم طاقوي كبير ، و موارد ، كما يمكن لها التواجد قبالة الكيان الصهيوني و دعم حلفاءها في لبنان و فلسطين ، و تكون أكثر قرباً من مصر و البحر الأحمر ، خاصة بعد تعزيز نفوذها في اليمن . أيضاً حصارها لتركيا في اكثر من جبهة ( سوريا ، العراق ) . يجعل ذلك كله في مسلسل تفاعلات إيران قوة فاعلة و مؤثرة في السياسيتين الإقليمية و الدولية ، يزيده دفعاً البعد النفسي و التاريخي للإمبراطورية الفارسية القديمة .
إنطلق ماكندر أحد مؤسسي المدرسة الجغرافية في بريطانيا في محاضرته بعنوان الأرتكاز الجغرافي للتأريخ . و التي أصبحت فيما بعد نظريته التي صاغها بفكرة القلب الأرضي ، أن قارات العالم القديم ( أوروبا ، آسيا ، افريقيا ) تشكل كتلة أرضية ضخمة و متصلة إتصالاً برياً متكاملاً، أسماها جزيرة العالم و هي تمثل مفتاح الجزيرة العالمية و مركز الثقل المؤثر فيها وهي تشمل مناطق واسعة من أوربا ، آسيا و من يتحكم بقلب الأرض يتحكم في العالم . ثم جاءت الماكندرية الجديدة لمستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق برجنسكي و هي امتداد لنظرية ما كندر البرية ( إن السيطرة العالمية للولايات المتحدة تبقى مفتوحة و غير مكتملة ما لم تعززها بالسيطرة على منطقة أوراسيا التي هي بمثابة الفراغ الجيواستراتيجي المتمم لسيطرتها العالمية إذا ما توفرت شروط إملاء الفراغ . افترض برجنسكي أن ما تواجهه الولايات المتحدة من تحديات في إدارتها للعالم يأتي في مقدمتها أوراسيا ، القارة الأكبر في العالم ، و هي محور الحركة الجيوبوليتيكية و مركز الاهتمامات الجيواستراتيجية ، و أن القوة التي تتحكم بأوراسيا تستطيع أن تسيطر على إثنين من مناطق العالم الثلاث الأكثر تقدماً و الأوفر في مجال الانتاجية الاقتصادية و هي آسيا و اوربا . تكفي نظرة واحدة إلى الخارطة إلى اكتشاف ان بسط السيطرة على اوربا سيتبعه أوتوماتيكياً إخضاع أفريقيا . على الرغم من أهمية فروضات كل ما كندر و برجنسكي ، و إذ انطلق الأول من منطلقات جيوبوليتكية و الثاني من منطلقات جيواستراتيجة ، إلا إن كل من الفرضيتين لم تثبت واقعيتها بشكل دقيق و حاسم ، و للتدليل على صحة فرضنا ، فقد احتلت الولايات المتحدة العراق لتتم اغلاق سلسلة الهيمنة ، فالعراق كان بمثابة حلقة إغلاق لهذه السلسة المفتوحة ، تمثل دائريتها إكمال لطوق الهيمنة و فرض النفوذ العالمي.
ما عطل مشروع التفرد الأمريكي، تصاعد الدور الإيراني، داخل العراق و إقليم الشرق الأوسط ، كما مثلت الأزمة السورية ، وسوء إدارتها من الجانب الأمريكي ، و تعاظم الشأن الروسي و تدخله المباشر في هذه الأزمة، و وقوف الصين الى جانب كل من ايران و روسيا و ممارستها مع الثانية استخدام سلطة النقض في مجلس الأمن ضد مشاريع الولايات المتحدة . تعمل إيران جاهدة لإخراج القوات الأمريكية من العراق، عبر وسائل سياسية و عسكرية، في الوقت الذي تسعى الولايات المتحدة لأطالة أمد البقاء، وان كان عبر اطر قانونية و سياسية ، عبر اتفاقيات ثنائية مع العراق بشأن قواعدها العسكرية.
ليس من اليسير حسم الصراع بين اللاعبين في الساحة العراقية ، فالصراع في المسائل الاستراتيجية صعب و معقد للغاية ، و إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ، التحولات الأخيرة في الداخل الإيراني بوصول رئيس محافظ ، أو كما يسميه خصومه بالمتشدد بمواقفه إزاء الولايات المتحدة و هو السيد رئيسي ،و الذي بدأ خطابه الأول بعد اعلان فوزه (على الولايات المتحدة رفع الحصار عن بلاده فوراً و العودة الى الاتفاق النووي...)، والتخوف الصهيوني من ذلك، إذ عبر الكيان عن قلقه سريعاً بأرسال رئيس أركانه أفيف كوخافي الى الولايات المتحدة ، فضلاً عن ضبابية المشهد التفاوضي في فينا حيال برنامج ايران النووي، هذه العوامل المساعدة أو مغذيات الصراع وتعميقه، قد تصعد من هذا الصراع الى ذروته، في حرب قد تكون سريعة و قصيرة بفعل طبيعة الأسلحة و نوعها ، بيد أنه من المؤكد أنها سترسم ملامح جديدة في العراق ، قد لا تكون الأفضل مما عليه الآن ، لكنها حتماً ستكون بشكل مغاير و مختلف. تبقى فاعلية النخب السياسية في بلورة موقف وطني موحد من عدمه، الحد الفاصل و الأبرز في طبيعية الأوضاع القادمة، كما سوف يبقى العراق محط تنافس أو صراع بين القوى العالمية التقليدية و القوى الصاعدة في سلم القوة.
تعليقات
إرسال تعليق
اذا أعجبك الموضوع فلماذا تبخل علينا بالردود المشجعة