القائمة الرئيسية

الصفحات

مسؤولية السلم والامن المجتمعي ثقافة قانونية د. ايناس عبد الهادي الربيعي

 

مسؤولية السلم والامن المجتمعي ثقافة قانونية

د. ايناس عبد الهادي الربيعي

 


 

 

   عانت البشرية منذ سالف العصور من مخاطر النزاعات الداخلية المهددة لتماسك بنيانها الداخلي  الامر الذي عرضها الى آثار مدمرة على الصعد كافة وبالرغم من ذلك كله يبدو ان البشرية لم تتعلم نتائج ما احدثته النزاعات من خراب في العلاقات الانسانية، فلا مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان والحكم الرشيد باتت قادرة على حمل الانسان على التكيف مع المستجدات والمتغيرات بالقدر الذي يحقق المشاركة الواعية في أدارة شؤون الدولة والغاء الاحتكار السياسي والمهني  .

   لفترة طويلة أستمررنا بترديد ان التقدم حتمي والنهضة آتية الا ان الواقع المرير الذي نعيشه تظهر العكس ، فالعلاقة القائمة بين افراد المجتمع كتجمع بشري هي علاقة جدلية تتطلب تحقق امرين اولهما ان يكون معظم الافراد ان لم يكن كلهم ساعين عبر وظائفهم الاجتماعية وعاداتهم السلوكية الى دفع المسيرة التطورية الى الامام ، ثانيها ان يكون النظام السياسي القائم قائدا وموجها لمجموع تلك الجهود والسلوكيات ، الا ان شرط تحقق ذلك يتطلب تنشئة وطنية ،انسانية ومهنية لكافة اعضاء ومكونات الكيان الاجتماعي لتكون بذلك عملية ثلاثية الاطراف ( وطنية – انسانية – مهنية) ولا سيما ان المجتمع بمجموعة من المبادئ والمثل والاهداف والغايات التي يسعى افراده بمجموعهم لتحقيقها لكون الوطن ليس شركة مساهمة خاصة بل هو كيان موسع يحتاج لجميع مواطنيه على اختلافهم دون استثناء ، فثقافة السلم تستدعي إقصاء العنف عن طريق النصوص و الممارسة السياسية ، فقد تعامل الإنسان منذ وجوده على البسيطة مع القوة و العنف كوسيلة غريزية لضمان بقائه، و في المجتمعات القديمة كانت لغة السلاح هي الطريقة الأنجع لحل الخلافات حول المياه و الكلأ و حماية المصالح المختلفة، حيث أنه من الطبيعي في مجتمع غير مركزي أستعمال كل كائن و حسب الفطرة قواه لحماية حقوقه أو إستعادتها و الحفاظ عليها.

   لذا فقد تميز كل عصر بتبريراته لاستعمال العنف والقوة ، لتعاني الشعوب من ويلات الحروب والاستعباد كنتاج طبيعي لذلك.

  في الفترات الأخيرة، و خاصة منذ بداية القرن الحالي بدأ الإنسان يكتشف أنه هو الخاسر الأكبر في كل مرة خاض فيها غمار الحرب و شارك في إسداء اوزارها و بنمو مفاهيم المجتمع الدولي، و حقوق الأمم، و حقوق الإنسان، بدأت مفاهيم أخرى، تتقهقر فيما يخص الإنتصار في الحروب، و الإنهزام، و قضايا الغنائم و ما شابه ذلك.

 

   فإتجه المجتمع الدولي بادئ الأمر إلى محاولة التخفيف من ويلات الحروب و تفادي الآلام التي يعانيها الإنسان من جراء إستعمال القوة ،فتعاقبت الجهود بعد المؤتمر الدولي لعام 1864، و الدور الذي قام به الصليب الأحمر الدولي في مجال المعاملة الإنسانية لضحايا الحروب، ثم تحسين ظروف الأسرى و التخفيف من معاناة الجرحى، و تحديد وضع المدنيين و الغير مشاركين في المجهود الحربي، و من جهة أخرى تنظيم وسائل القتال و الحد منها إعتمادا على مبادئ القانون الدولي الإنساني ، ليكون ذلك عبر عدة توجهات منها :-

1-    حفظ السلم والامن عن طريق التشريعات الدولية

السلم و السلام في القانون الدولي هو حالة اللاحرب و الإمتناع عن إستعمال القوة فيما بين الأمم لبلوغ حالة دائمة و مستمرة من السلم، بالإضافة إلى محاولة القضاء على دواعي الحرب، فإن المجتمع الدولي قد شرع في سن نصوص قانونية تطمح إلى منع اللجوء إلى الحرب عن طريق نظام عصبة الأمم و ما لحقه من نصوص ما بعد الحرب العالمية الأولى ثم أستخلف لاحقا بميثاق الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.

اذ يعتبر رجال السياسة نظام عصبة الأمم  كنقطة تحول في مجال حفظ الأمن و حماية السلم في العالم، فعملية التنظيم لمواجهة الحرب في حد ذاتها هي من المستجدات، فلأول مرة تحاول بعض الأمم تفادي قيام حروب مستقبلية، و تقيم منظمة دولية لذلك الغرض على الرغم من فشل هذا النظام إلا ان هذا لا ينقص من أهميته كمبادرة أولى لها قيمتها في التطور الفكري لإنشاء نظام قانوني لحفظ الأمن و تنسيق الجهود للعيش في حالة سلم.

على الرغم من ان تلك الثغرات شكلت نقاط ضعف خطيرة في نظام عصبة الأمم سمحت لبعض الأنظمة بإنتهاج سياسات عدائية و توسعية كانت نتيجتها الحرب العالمية الثانية على الرغم من تشجيع الدول على محاولة حل خلافاتها عن طريق الوسائل السلمية لتفادي الحرب.

2-   حفظ السلم و الأمن عبر ميثاق الأمم المتحدة

  الهدف و المقصد الرئيسي لميثاق الأمم المتحدة هو حفظ السلم و الأمن الدولي اذ  لم يبخل الميثاق في سرد المبادئ الهادفة إلى تحقيق هذا المقصد الرئيسي، و نخص بالـذكر الفقرة الرابعة من المادة الثانية التي تنص على أنه :  (يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد بإستعمال القوة أو إستخدامها ضد سلامة الأراضي أو الإستقلال السياسي لأية دولة أخرى أو على أي وجه آخر لا يتفق و مقاصد الأمم المتحدة).

 

   إذ يلاحظ  أن الميثاق في مجال تحريم العنف في العلاقات الدولية، تفادى إستعمال تعبير (اللجوء إلى الحرب)، و ذلك نظرا لما يرتبط بتفسيره من تناقضات.

فتعبير (إستعمال القوة) الوارد في الميثاق أشمل، حيث أنه يغطي كل حالات إستعمال القوة الموجهة ضد الاستقلال السياسي و وحدة الدولة ، و كل أعمال العدوان، و التهديد باستعمال القوة و المساس بسيادة الدولة.

   هذا التحريم الشامل و الكامل لكل أوجه العنف و الإكراه فيما بين الدول لا يستقيم إلا إذ تم تعويضه بوسائل تسمح بحل الخلافات و النزاعات الدولية سلميا، و في هذا الشأن نصت الفقرة الثالثة من المادة الثانية على أنه :  (يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم و الأمن و العدل الدولي عرضة للخطر)  الوسائل السلمية المقصودة   هنا هي المفاوضة، و التحقيق و الوساطة، و التوفيق، و التحكيم، و التسوية القضائية أو الحل السلمي عن طريق المنظمات الإقليمية أو أي وسيلة سلمية أخرى تتفق عليها الأطراف.

   الى جانب كل ذلك تم بناء نظام للأمن و السلم الجماعي عن طريق مؤسسات منظمة الأمم المتحدة و فروعها، قد يصل في النهاية إلى إستعمال القوة من طرف مجلس الأمن بشكل قمعي ضد أي دولة في ظل الفصل السابع من الميثاق ،وأضافة الى ذلك هناك استثناءات أخرى تقع على مبدأ تحريم العنف تتعلق بالدفاع الشرعي الواردة في الميثاق، و تجدر الملاحظة إلى أن هذا النظام رغم تكامله قد تعرض لهزات مختلفة و أعطيت تفاسير مختلفة لبعض نصوصه، و بصفة خاصة تلك المتعلقة بحفظ السلم و الأمن.

   فقد شاهدنا تقاعس مجلس الأمن الذي كبله (حق الإعتراض) في فترة الصراع بين الشرق والغرب، بينما فاضت قريحته و توالت قراراته في العشرية الأخيرة من القرن الحالي في ظل أحادية القطب و هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية و إرساء أعمدة العولمة، اذ ان  موضوع السلم أخذ الآن يتطور في إتجاهات أخرى وهي :

أ‌-        السلم كأحد حقوق الإنسان

الحرب قديما كانت تدور رحاها في ميدان القتال بين القوات المسلحة النظامية، و نمت في ظل ذلك نصوص و مبادئ مختلفة لتنظيم عمليات القتال و الوسائل المستخدمة في ذلك، فالتطور المذهل في وسائل الحرب و الأسلحة، سواء من ناحية القوة التدميرية، أو تقنيات إدارة العمليات، كان يظن أنه يتجه إلى حفظ المدنيين و تفادي إصابة الأفراد الغير مشاركين في المجهود الحربي، لكنه في كل من حرب الخليج و الكوسوفو تبين عكس ذلك، فالمدنيون كانوا المتضرر الاول ودفعوا أغلى الأثمان.

 

   أضافة الى ذلك التطور الكبير في إمكانيات وسائل الإعلام التي أصبحت تقدم الحرب على المباشر فوق شاشات التلفزيون و على أمواج الإذاعات، غير من نظرة الرأي العام العالمي للحرب و نتائجها، حيث أصبح مطلب السلم من حق الأفراد و ليس فقط إلتزاما فيما بين الدول ، كما أصبحت قواعد حفظ السلم لها طبيعة آمرة ،و النتيجة الثالثة هي ترتيب المسؤولية الشخصية على الأفراد في حالة خرق هذه القواعد.

ب‌- العيش في سلم حق من حقوق الإنسان

    القانون الدولي العام يخاطب أشخاصه التي في مقدمتها الدول، فلا يتجه الإلتزام  بالحق مباشرة إلى الفرد بل يحتاج إلى المرور عبر السلطات التشريعية و التنفيذية للدولة هذه الفكرة الكلاسيكية في تغير مستمر، فمن الواضح أن الفرد يستمد حقوقه مباشرة من القانون الدولي في مجال حقوق الإنسان ، هذه الميزة دفعت جانبا من الفقه إلى إعتبار السلم من الجيل الثالث لحقوق الإنسان  ، و الواقع أن من بين الحقوق الأساسية للإنسان الحق في الحياة و الحرية، و اعتبارا أن حالة الحرب أو أي شكل من أشكال العنف تهدد هذه الحقوق، فإن حالة السلم وحدها هي الكفيلة بتحقيق هذه الحقوق الأساسية على أحسن وجه، فالسلم في حقيقة الأمر ضرورة لتحسين كل الحقوق الواردة في اتفاقيتي حقوق الإنسان لعام 1966 سواء منها الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية أو الحقوق المدنية و السياسية.

إذا كان حق الشعوب في تقرير مصيرها كحق جماعي قد أتجه تدريجيا، و بعد الانتهاء من عملية تصفية الاستعمار، إلى حق جماعي و فردي داخلي يتمثل في حق العيش في ظل نظام ديمقراطي تعددي، فإن الحق في السلم كحق أساسي يتعلق ببقاء الشعوب لذا فقد أحتل مكانته كأحد حقوق الإنسان في الدول الديمقراطية.

ورغم أن القرار السياسي باللجوء إلى العنف و السلاح، نظرا لطبيعته، لا يمر دائما عبر كل الأجهزة المعبرة عن رأي الشعب. فإن الممارسة في مختلف الدول تتجه إلى إقناع الجماهير بإجبارية الأمر وجدواه السياسية ، و من جهة أخرى يفترض أن الدول الديمقراطية لا تلجأ إلى النزاع المسلح إلا في حالة الدفاع الشرعي، لكن الدول الكبرى حاولت البحث عن شرعية قرار الحرب كونه يواجه و يقاوم أعمال غير مشروعة في نظرها ،و هذه الأعمال كثيرا ما تهدد الأنظمة الديمقراطية، و هو الإدعاء الغالب في الحقبة الأخيرة ، و على كل حال فإن السلم شرط أساسي للتمتع بالحقوق التي يضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه( 3 و 28 )و كذلك المادتين( 6 و 20) من إتفاقية الحقوق المدنية و السياسية لعام 1966، و يتعلق الأمر بالحق في الأمن و الحق في الحياة و هذا كاف للجزم بأن الحق في السلم من حقوق الإنسان.

ج- قواعد حفظ السلم لها طبيعة آمرة

 

    الطبيعة الآمرة لبعض قواعد القانون الدولي تجعلها في مرتبة أعلى، و تؤدي إلى إبطال كل ما يتعارض معها أو يخالفها من الاتفاقات التي تبرمها الدول و التي لا تتمتع أحكامها بنفس الطبيعة.

ولإيضاح هذه القواعد في القانون الدولي جرت العادة على إعطاء أمثلة مختلفة تتعلق بالجرائم ضد الإنسانية التي عرفها القانون الدولي العرفي مثل تحريم القرصنة، و إبادة الجنس البشري، و العنصرية، و قواعد حماية حقوق الإنسان، و يلاحظ أن كل الأمثلة و الحالات تذكر الأحكام الخاصة بتحريم استعمال القوة و التهديد بذلك و أعمال العدوان بأنها في مقدمة القواعد الآمرة ، و عليه فإن أحكام حفظ السلم و الآمن هي من بين هذه القواعد فخاصية الأمر و القطعية لنصوص و قواعد حماية السلم تعطي لها وزنا أكثر، و ذلك ما دفع إلى تصنيف الاعتداء عليها و عدم احترامها من بين الجرائم الدولية و ترتيب المسؤولية الشخصية على ذلك.

د- ترتيب المسؤولية الشخصية عن خرق السلم

الجرائم في حق السلم من بين الأفعال التي تم تجريمها على المستوى الدولي، و يكون مرتكبها مذنبا على المستويين، الدولي و الداخلي، و لا يمكن التذرع بالحماية الدبلوماسية، و لا الحصانة على أساس أن القائم بهذا النوع من الجرائم كان في خدمة دولته و اقتصرت مهمته على تنفيذ أوامر السلطة العامة في الدولة. المسؤولية الشخصية على الجرائم في حق السلم أقصى درجة من التطور الذي بلغه القانون الدولي في مجال حفظ السلم و الأمن، فمسؤولية الدولة المعتدية لا تنفي مسؤولية الأشخاص على الجرائم في حق السلم، اذ ان ازدواج المسؤولية معمول به هنا، فهذه الجرائم كانت من بين التهم التي تضمنتها محاكمات النورزنبورغ و طوكيو بعد الحرب العالمية الثانية، و قد تضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي تم تبنيه في روما عام 1998 جريمة العدوان التي قد تقابل الجرائم ضد السلم.

فالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عرف ثلاث جرائم من الجرائم الأربعة الواقعة تحت ولاية هذه المحكمة ، لكن يبقى مشكل تعريف العدوان و بالتالي الجرائم في حق السلم عالقا.

ولذلك ما دام موضوع الإختصاص بتعريف العدوان لم يحل في إطار أجهزة الأمم المتحدة ، الا ان  مجلس الأمن له الحق في تشخيص العدوان طبقا لنص المادة ( 39) من الميثاق، بينما الجمعية العامة صاحبة الاختصاصات العامة قامت بتعريف العدوان عام 1974 بموجب الإعلان رقم (331424).

فموقف محكمة العدل الدولية في قضية النشاطات العسكرية الأمريكية في نيكاراغوا لم يحل الإشكال، حيث إعتبرت المحكمة أن تعريف العدوان كان بلإشارة لمحتوى القانون الدولي العرفي، و هو يضم ما سمي آنذاك بالهجمات المسلحة الغير مباشرة التي تقوم بها (جماعة مسلحة) أو قوات غير نظامية ،يضاف إلى ذلك خرق نطاق الإختصاص الوطني للدولة أو إستعمال القوة ضدها بشكل يتعارض مع مبادئ الأمم المتحدة، و عليه فتعريف الجرائم في حق السلم مرتبط بحل هذا الإشكال.

ومما تقدم فأن بناء ثقافة السلم يضمن الفعالية الواقعية للنصوص التي تحكمه

فمرحلة الإنتقال من نصوص قانونية عقيمة، كثيرا ما نجحت المصالح السياسية للدول العظمى في إيقاف دواليب وضعها حيز النفاذ، فرضتها الحاجة الإجتماعية للسلم ، و يُميَّز ذلك عبر إحياء المعطيات الدينية و العقائدية التي تحث على السلم ، فثقافة السلم تتطلب إقصاء العنف و القوة خارج الإطار الشرعي على المستوى الوطني كذلك ، فهذه السبل تضفي على مجهودات تحقيق السلم فعالية واقعية ناجعة ،فالحاجة الاجتماعية للسلم هو بالأجماع حاصل على الاجماع على مستوى الفكر السياسي الديمقراطي من خلال التأكيد أن السلم ضرورة اجتماعية تضمن إقامة علاقات متوازنة فيما بين أفراد المجتمع الواحد، و تطبع التعامل فيما بين المجتمعات المختلفة خاصة و أن الجميع ينعم بحالة السلم، و خلال ما يقرب من قرن من التنظيم و تطوير النصوص القانونية للقضاء على الحروب و تحريم استعمال القوة في العلاقات فيما بين الأمم و تفادي الويلات التي تتعرض لها، لم يتم لها الحصول على النتائج المرضية.

و رغم بعد نظر نظام الأمم المتحدة لتحقيق السلم و الأمن على المدى الطويل من خلال التنمية الاقتصادية و الاجتماعية للتقريب في مستوى المعيشة بين مختلف الشعوب، و بالتالي لتفادي أسباب التوتر و اللجوء إلى العنف، بدأ المجتمع الدولي يتدارك أن السلم في حد ذاته من شروط تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية، فالسلم على المستوى الدولي مرتبط كل الارتباط بالسلم على المستوى الوطني، و من عناصر الارتقاء إلى هذا الأخير ضمان حقوق الإنسان الأساسية و الديمقراطية.

اذ يبين احد الفقهاء أن النظام الدكتاتوري يستطيع أن يصنع الحرب حسب هواه بينما يفتقر الحكام في الأنظمة الديمقراطية إلى هذا الامتياز المرعب ، فظهور الثقافة الديمقراطية على المستوى العالمي يترجى منه بلوغ ذلك الهدف، وفي رأينا أن  ثقافة السلم هي إحدى أعمدة ثقافة الديمقراطية، اذ ان السلوك الديمقراطي سلوك مسالم  ينبذ العنف كيفما كان، ما عدا حالات الدفاع الشرعي عن النفس، الذي هو من الحقوق الطبيعية، و يتخذ النقاش و الحوار و الإقناع كوسيلة للتعامل.

 

لذا فنشر ثقافة السلم في المجتمعات يمر عبر التعريف بالوسائل و الطرق السلمية لفض الخلافات، و يكون ذلك على المستوى الداخلي بإصلاح أجهزة العدل و بناء ثقة المواطنين فيها، و تنظيم و استعادة الطرق التقليدية لحل الخلافات و النزاعات عن طريق المصالحة و الحوار و غيرهما، ولذا فأن الحلول هنا تخفف العبء عن الأجهزة الرسمية و من جهة أخرى تكون لها نجاعة أكثر، و هي سهلة التنفيذ لكونها توفيقية، و مما يقوي فعالية هذه الوسائل السلمية استناد معظمها إلى تعاليم دينية فالبعد الديني لثقافة السلم فهو العامل المشترك بين كل الديانات السماوية من خلال حثها جميعا على السلوك المسالم و إلحاحها على أنه سلوك حضاري.

كما أن كل هذه الديانات لا تخلو من النصوص الحافظة للحياة و الضامنة للحرية، لذا فان إبراز هذه القواعد التي تدين بها مختلف الأمم يمكن أن يشكل أساسا لإصلاح نظام الأمم المتحدة في ميدان حفظ السلم في العالم كما أن التعاليم الدينية تدعو لإقامة علاقات حسنة مسالمة بين مختلف الشعوب.

فالدين الإسلامي خاتم الأديان جامع للتعاليم الواردة في الديانات التي سبقته في مجال السلم، و هو يرادف بين السلم و المسالمة و الإسلام ، فالمسلم ينطق بالسلام طوال يومه مدى الحياة (السلام عليكم) و (عليكم السلام و رحمة الله تعالى و بركاته ) و الأمر كذلك في الصلاة، و ذكر للرسل والانبياء يتبع دائما ( و عليه السلام) ،و من الآيات القرآنية التي يستدل بها على أن السلم من تعاليم الإسلام و واجبات المسلم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)، كما يأمر القرآن الكريم بالإستجابة إلى دعوة السلام و الأمان بقوله تعالى : (و إن جنحوا للسلم فأجنح لها و توكل على الله إنه هو السميع العليم ).

وبذلك نخلص إلى أن تنمية ثقافة السلم و الإخاء و الوفاق هي ممارسة لشعيرة دينية فثقافة السلم تستدعي إقصاء العنف على المستوى الوطني عن طريق النصوص و الممارسة السياسية، مما سبق التعرض إليه من نصوص قانونية تخص العلاقات فيما بين الأمم، التي هي ملزمة بأحكام ميثاق الأمم المتحدة على أساس العضوية في هذه المنظمة العالمية، أو على أساس القانون الدولي العرفي بالنسبة للدول الغير أعضاء،و ذلك أن الإجماع حاصل فقها و قضاء على أن كل المبادئ المتعلقة بحفظ السلم و الأمن في العالم هي من قبيل القانون الدولي العرفي الآمر ، فالتزام الدول بتطبيق أحكام الميثاق يخص علاقاتها و لا يتعلق الأمر، من حيث المبدأ، بما قد يجري داخل الدولة من مشاكل أمنية و غيرها، و ذلك إرتكازا على نص المادة( 2 فقرة 7 ) من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أنه (ليس في هذا الميثاق ما يسوغ (للأمم المتحدة) أن تتدخل في الشؤون التي تعتبر من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، و ليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع) هذه الفقرة تضمن عدم التدخل في الاختصاص الوطني لأية دولة و تحت أي مبرر، و ذلك حفاظا على السيادة الوطنية و احتراما لمبدأ المساواة فيما بين الدول.

التطورات الأخيرة سواء على مستوى مفهوم السيادة و المساواة، أو بالنسبة لتلك الأحكام في مجال الديمقراطية و حماية حقوق الإنسان، هذه التطورات و غيرها سمحت بالتقليص من فحوى النص السابق، كما أن مجلس الأمن كثف من تدخلاته في بعض القضايا التي هي من صميم الاختصاص الوطني، و هو ما تسمح به الجملة الأخيرة من النص المذكـورة، و نخص بالذكر هنا الوضع في الصومال والعراق ، وحالات أخرى أدت إلى تدخل تكتلات دولية أو دولة معينة بترخيص من المنظمة الدولية أو بدونه. و في كل الحالات كان السبب المعلن للتدخل هو حماية حقوق الإنسان و تفادي انفجار الوضع الذي قد يهدد السلم و الأمن، و حماية الأقليات الوطنية، و امتازت معظم حالات التدخل بضعف الحكومة الوطنية أو الانهيار التام للسلطة العامة.

في الحقيقة التزام الحفاظ على السلم له وجه داخلي وضعي، حيث أن الكثير من الدساتير تخرج قضايا إعلان الحرب و إبرام معاهدات السلم من الاختصاص الانفرادي للسلطة التنفيذية. و تكتفي دساتير أخرى بتنظيم كيفية الرد السريع و المجدي على أعمال العدوان التي قد تتعرض لها.

ومما تقدم يمكننا القول بأن الديمقراطية في إطار النصوص القانونية الوطنية ممارسة و سلوكا تنبذ العنف و تتبنى الطرق السلمية لتسيير النشاط العام، و تتخذ الحوار وسيلة لحل الخلافات. و في ظل منظومة دولية تؤمن بنفس المبادئ في مجال حفظ السلم و تمارسها على المستوى الوطني يصعب تصور السلوك العدائي تجاه بقية أعضاء هذه المنظومة.

فثقافة السلم في منظورنا هي مجموع المعارف التي يؤسس عليها الفكر الجماعي و المبادئ التي تطبعه و منه ينبع الطموح المشروع و منهج الحياة و العمل معا.

ضمن هذه المعادلة تظهر ثقافة السلم كبقية السلوكيات المشتركة على كل مستويات المجتمع دوليا و وطنيا،و بالنسبة للحكام يظهر ذلك في التعامل مع القضايا الدولية أو في تسيير الشؤون الوطنية و كذا فيما يخص المتعاملين على الساحة السياسية داخل الدول، ليكون التنافس المشروع للوصول إلى السلطة بطرق شرعية تضمن التداول على السلطة في ظروف سليمة.

و يجب ألا يهمل دور الإعلام و الصحافة في تنوير الرأي العام و نشر مبادئ الامن و الوفاق و حسن الجوار و ضمان المصالح المتبادلة، و إطلاع الرأي العام المتشبع بثقافة السلم على حقائق الأمور يكون الذرع المتين للدفاع عن السلم.

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع