قراءة تحليلية في مفردات العلاقات الدولية والازمة الاوكرانية
د. ايناس عبد الهادي الربيعي
مما لاشك فيه ان الصراع في اوكرانيا وضم روسيا لشبه جزيرة القرم كان لحظة محورية لصانعي السياسات والمخططين العسكريين في داخل وخارج اوربا حيث وجد العديد من المحللين طابعا غير متوقع في الصراع مع توقعهم أصداء سلبية طويلة الامد من الاضطراب في العلاقة بين الطرفين مع نزع شرعية المؤسسات الدولية وتراجع دور القواعد العالمية ، وهو ما منح صورة متوقعة للعلاقات الدولية بما يتناقض مع التصورات الحالية ، فتفاقم الوضع في اوكرانيا امر يدفع الى أحياء نزاع طويل الامد حول دوافع وسياسات الدول العظمى وهل سيكون محور الامن او البقاء او تعزيز النفوذ هي الدوافع الرئيسية ، وهو ما يظهر لنا بأن الامن والسلطة مكلفان ، وعلى الرغم من ذلك فان كل منهما يمكن عده موردا او شرطا أساسيا في توسيع قاعدة الموارد في مناطق عدة في العالم ، في ذات الوقت يمكن ان يعد كلاهما عبئا ، وهو ما يثير التساؤل حول ماهية المؤشرات الحديثة للأمن والسلطة ؟ أهي القوة العسكرية ، او التقنيات الحديثة ، او مناطق النفوذ ، او الثروات الطبيعية من المعادن، او رأس المال البشري؟ ان ادراك أهمية احد تلك العناصر وفائدته لا يتحدد عادة بدوافع عقلانية فلكل عنصر في المجموعة الدولية منطقه الخاص ودافعه في تفضيل احد تلك العناصر على غيرها بسلوك يرتبط ارتباطا وثيقا بالهويات والثقافات الاستراتيجية ، وهو ما يزيد من تعقيد مهمة التنبؤ بما يفضله أحد الاطراف وفقا لمنطقه الخاص ، لذا فأن سوء فهم قيمة أحدها لدى الطرف الاخر أحيانا يؤدي الى أخطاء كارثية وسوء تقدير لما ينتج عن ذلك من تبعات ، الا ان مما لا يمكن انكاره وجود عددا من العلاقات الهامة على الساحة الدولية لما تمثله من أبعاد تأريخية واستراتيجية والتي تعتمد على الشد والجذب والتي تمثلت في بداياتها بعلاقة المصالح لتتطور وتتغير مع الاحداث لتصبح علاقة عدائية تمثلت في الحرب الباردة وما رافقها من صراعات ليكون اول ما يتبادر الى الذهن العلاقات الامريكية الروسية كأقرب مثال على ذلك ، حيث هدأت تلك الصراعات مطلع القرن الحادي والعشرين ، ليتغير المشهد في الازمة الاخيرة بسبب الازمة الاوكرانية ، اوكرانيا البلد المتعدد الاثنيات والاعراق والاديان واللغات منقسم بين شرق يتكلم سكانه اللغة الروسية ويرون ان روسيا بلدهم الام ، وبين غرب يتكلم اللغة الاوكرانية ويرون انهم جزء لا يتجزأ من قارة اوربا ويرغبون في الانضمام لقارة اوربا بطلب الانضمام الذي قدم منذ عام 2008 الى الاتحاد الاوربي دون البت فيه، لتكون الازمة الاوكرانية تجسيد حي على الصراع والتدخل الخارجي وما يتجسد من خلالها من رؤية ترسم ملامح تشكيل النظام الدولي ورسم استراتيجية الصراعات بين الدول ، اضافة الى ذلك فهي تمثل ازمة على مستويين اولها الداخلي بين الحكومة والمعارضة وثانيها خارجي بين روسيا الولايات المتحدة والاتحاد الاوربي بما يمثل صراعا بين المعسكر الشرقي والغربي ، وبنظرة واقعية تهدف الى تفسير الأمور والأحداث بطريقة قابلة للتحليل والبعد عن النظريات التقليدية تؤكد على أن العلاقات الدولية قائمة على مفاهيم كثيرة منها المصالح ومبادئ القوة وتوازنها، والتي تأتي في مقدمتها القوة، فالقوة والتي تعرف بانها : (هي التأثير الذي تمارسه الدول في علاقتها المتبادلة ) ،والتي تختلف من موقف لأخر ومن دولة لأخرى، الا أن القوة ليست المعيار الوحيد المحدد للعلاقات بين الدول اذ تدخل في ذلك حسابات أخرى من حيث حجم الدولة وقدراتها في مجالات عدة ، اما المصلحة وهي ثاني تلك المفاهيم ، والتي تعرف بأنها : (الأداة التي تستخدمها الدولة مع قوتها من أجل التأثير على الدول الأخرى وتحقيق مصالحها) ،اذ ان العلاقة بين الدول تبادلية قائمة على تحقيق المصالح المشتركة ولا توجد دولة تقوم بأي أمر تطوعيا ، حيث يوجد دوما صراع مستمر من أجل البقاء ودعم قوة الدولة و مصالحها.
اما ثالث تلك المفاهيم هو توازن القوى والذي تعمل الدول من خلاله على الحفاظ على سباق التسلح بينها من أجل زيادة قوتها ومواردها ،الأمر الذى يحول دون نشوب صراع مسلح مع السعي إلى الحفاظ على التوازن العسكري فيما بينها، الا ان مما لا يمكن انكاره ان سعي إحدى الدول لزيادة قدرتها العسكرية بالصورة التي تخل بتوازن القوى يعتبر أمراً يدعو للاضطراب ويولّد سعياً من قبل الدول الأخرى لتعزيز توازن القوى بمعاهدات تلتزم فيها الدول الأطراف بالحفاظ على قوتها العسكرية ضمن حدود مقبولة مع الدول الأخرى، حيث تلجأ اليها الدول عادة بعد الانتهاء من حالة حرب أو صراع أو أزمة دولية.
الا انه ومنذ منتصف القرن الماضي في خلال الستينيات من القرن العشرين خصوصا أثناء فترة الحرب الباردة يمكننا الملاحظة بأنه قد بدأت تتبلور مجموعة من الازمات حيث كانت هناك جهود مستمرة من أجل صوغ إطار مفاهيمي ومجموعة من الفرضيات التي من الممكن تطبيقها على تحليل حالات إدارة الأزمات الدولية المختلفة.
حيث يتوجب الامر التغلب على الأزمات من خلال الأدوات المناسبة لتجنب سلبياتها والاستفادة من إيجابياتها، أي إدارة التوازنات ورصد حركة واتجاهات القوة والتكيف مع المتغيرات المختلفة، لتحقيق أهداف أساسية منها تجنب الانهيار التام في التوازن في غير صالح الدولة والتوفيق بين المصالح المعرضة للخطر خلال الأزمة ،بالإضافة الى الرغبة في تجنب التصعيد والعمل على عدم خروج الموقف عن نطاق السيطرة ،ويتم ذلك من خلال الاستجابة السريعة والفعالة للمتغيرات والظروف المتسارعة للأزمة، اذ عادة ما تهدف عملية ادارة الازمة الى العمل على أهداف عدة منها :-
اولا - أهداف ما قبل وقوع الأزمة والتي وتشمل الاستجابة السريعة والفعالة للأسباب التي أدت إلى نشوء الأزمة، وإعادة النظام ومنع التهديد وتحقيق الاستقرار.
ثانيا - أهداف أثناء الأزمة والتي تهدف الى التحكم في تطورات الأزمة واتخاذ قرارات حاسمة وتقليل أضرارها وتنسيق الجهود وتنظيمها لتكون أكثر فاعلية في مواجهة الأزمة.
ثالثا- أهداف ما بعد الأزمة والتي تشمل توفير الدعم الضروري لإعادة التوازن إلى الكيان الذي حدثت فيه الأزمة وإعادته إلى وضعه الأصلي أو إلى وضع أفضل منه، مع توثيق تلك الأزمة وكيفية إدارتها والدروس المستفادة منها والتي يمكن الافادة منها في مواجهة الأزمات المستقبلية ، ومن هذا المنطلق نجد ان الازمات تكون على انواع اما :-
1- أزمة داخلية والتي تمثل حدث مفاجئ يهدد حالة الأمن والمصلحة القومية للدولة ومؤسستها والتي يجب ان يتم مواجهته في ظروف صعبة من حيث ضيق الوقت والتوقع والإمكانيات والموارد بدقة وبسرعة.
2- أزمة خارجية دولية وهي عادة ما تتمثل في أزمة بين دولتين أو أكثر، ينتج عنها صراعات شديدة بينهم، قد لا تصل لدرجة الحرب الفعلية ولكن تكمن في داخلها حالة نشوب حرب.
لذا تعمد في تلك الحالة بعض الدول الى أستخدام التدخل كأداة تستخدمها الدولة مع قوتها من أجل التأثير في الدول الأخرى وتحقيق مصالحها ،فالعلاقة بين الدول تبادلية قائمة على تحقيق الموارد والأمور المشتركة ولا توجد دولة تقوم بأي أمر تطوعيا ،وقد تلجأ الدولة التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى من أجل مصالحها ،وقد تعمل على تغيير الأنظمة عبر التدخل السياسي وإعلان حالة الحرب والحصار ، ومنع المعونات والتبادلات التجارية ، كما قد تمنع حلفائها أيضا من ذلك مع الدولة المستهدفة ،وفى معظم الأحيان تتدخل الدول تحت شعار حماية الأقليات وحقوق الأنسان ، لذا غالبا ما يتم العمل على توظيف السياسات الخارجية للدولة طبقا لمصالحها واحتياجاتها، بغض النظر عن مصلحة الطرف الأخر، مع أستخدام القوة والتدخل من أجل تحقيق تلك المصلحة ، وفي موضوع بحثنا نجد ان السياسة الخارجية الأمريكية وتوجهاتها أزاء روسيا، وطبيعية العلاقات القائمة بينهم، وطبيعة المحددات الرئيسية التي تشكل أوليات العلاقة بين الدولتين سواء من منافسة أو تعاون وكيفية تعامل روسيا مع القضايا الحرجة في المنطقة والتي تمثل لها منطقة نفوذ في ظل تدخل الولايات المتحدة في تلك القضايا من أجل بسط سيطرتها ونفوذها في المنطقة الأقليمية المحيطة بروسيا كنوع من أنواع المضايقة والمنافسة للطرف الروسي ، حيث عمدت روسيا الى الاندماج في الكيانات الاقتصادية المختلفة من (بريكس، المجوعة الكبرى +8،+20،..)الخ ،وهو امر عمل على أثارة الولايات المتحدة التي عملت على مقاومة الصعود الروسي عن طريق زعزعة استقرار الدول الاستراتيجية المهمة المحيطة بروسيا والتي تمثل لها منطقة نفوذ استراتيجي وهيمنة قوية مثل أوكرانيا من أجل عرقلة جهود روسيا في ذلك الجانب ، الامر الذي دفع على زيادة التنافس بينهم ونشوب مشاكل أشبه ما تكون بالحرب الباردة.
ومن هذا المنطلق نجد بأن الأزمة الأوكرانية ليست نتيجة خطأ روسي بالأساس ، حيث أن الجذور الرئيسة للمشكلة كانت توسع الناتو ووصول التهديدات الى حدودها السياسية ، الامر الذي أثار مخاوف روسيا الاستراتيجية، بالإضافة الى أنها أيقنت الخطة التي يريدها الغرب من ضم أوكرانيا له وبعدها عن روسيا، مما عمل على أتخاذ روسيا موقفا بالتدخل كرد فعل دفاعي ، ولاسيما ان عرفنا مدى الأهمية الاستراتيجية لاوكرانيا لأسواق الطاقة ،وكيف كان تأثير الأزمة ونتائجها على سوق الغاز ،سواء كان على مستوى الجانب الروسي الذى عمل على توفير استراتيجيات بديلة عن تصدير الغاز عبر أوكرانيا أو السياسات التي أتخذها ضد أوكرانيا والاتحاد الأوربي بشأن قضية تصدير الغاز، وكيف ستكون نتائج السياسات الروسية المتبعة على جانب الاتحاد الأوربي والأوكراني وكذلك تبعات تلك الازمة سواء على مستوى أوكرانيا، أو مستوى الدول المحيطة بها (بلاروسيا, جورجيا، مولدوفا، أرمنيا وأذربيجان) ،ونتائج تلك التداعيات الأقليمية لهذه الأزمة وتأثيرها على دول الجوار، بالإضافة الى السيناريوهات المستقبلية المتوقعة للدول المحيطة سواء على مستوها المحلي أو على المستوى الإقليمي وانعكاساته على الدول الكبرى في منطقة اليورو.
بالعودة لاحد أهم أسباب الأزمة الأوكرانية نجد ان الموقع الجغرافي الاستراتيجي الأوكراني سلاح ذو حدين، حيث أنها حلقة الوصل بين قوتين عظمتين القوة الشرقية روسيا والغربية الاتحاد الأوروبي والذي يعتبر بمثابة الحليف للولايات المتحدة.
الموقع الجغرافي والخليفة التاريخية يوضحان أن أوكرانيا كانت جزء من روسيا، لذلك فالمجتمع الأوكراني متعدد الاثنيات والأعراق واللغات منقسم بين شرق من أصل روسي يتحدثون الروسية ويدينون بالانتماء لأصلهم الروسي وللكنيسة الأرثوذكسية ويرون أن روسيا بلدهم الأم، وبين غرب يتكلم اللغة الأوكرانية ويرى أنه جزء لا يتجزأ من القارة الأوربية ويدعو إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي ويدين للكنيسة الكاثوليكية في روما ، حيث أدى هذا الانقسام المجتمعي إلى ظهور انقسام سياسي بين الجزء الشرقي الذي يميل باتجاهاته السياسية إلى روسيا والغربي صاحب الأفكار التحررية واللبرالية الغربية ، نتيجة لذلك اتجهت أوكرانيا لاستمالة الدعم الخارجي ولأهميتها الاستراتيجية كانت موضع اهتمام من قبل روسيا والاتحاد الأوروبي من أجل تقديم المساعدات الاقتصادية بسبب تأثيرها على الاقتصاد في مجال التصدير خصوصا الطاقة والمواد الغذائية ، لكي تستطيع التعافي من أزمات عدة رافقتها بعد الانفصال عن الاتحاد السوفيتي السابق ، حيث أن الاتحاد الأوروبي يعتمد عليها بصفة أساسية في استيراد المواد الغذائية، وفى نفس الوقت هي معبر مرور الغاز من روسيا للاتحاد الأوروبي، لذلك عمل كلا منهما على مساعدة أوكرانيا ، فقدم الاتحاد الأوروبي وعد بـالموافقة على طلب القرض الأوكراني عن طريق صندوق النقد الدولي، كما قدمت روسيا قرض بقيمة خمسة عشرة مليون دولار للحكومة الأوكرانية أضافة إلى التسهيلات الروسية التي قدمتها من خلال خفض أسعار الغاز المصدر لأوكرانيا من ( 450 دولار إلى 268 دولار ) لكل ألف متر مكعب، مما عمل على وضع أوكرانيا في موضع حيرة بين الجهتين المنافستين، ولكن الحكومة الأوكرانية فضلت الخيار الروسي وذلك بسبب التسهيلات المقدمة سواء كانت في مجال الطاقة أو القرض الذي تقدمه على هيئة سندات في الخزانة الأوكرانية ، فأثر ذلك على الجانب السياسي نتيجة الانقسام الاجتماعي بين الشرق والغرب، الا ان الرغبة الأوكرانية في الشراكة الأوربية منذ النظام الجديد عام 2004 صاحب التوجه الغربي، هذا بالإضافة إلى عدم توافقه مع روسيا التي هي ضد سياسته عبر الانفتاح الغربي، مما أدى إلى قيام روسيا بتضييق التعاملات الاقتصادية مع أوكرانيا عن طريق خفض (80 %) من المرور التجاري للبضائع الأوكرانية بالأراضي الروسية، أوقفت تصدير الغاز عن أوكرانيا وأوربا، وتحكمت في سعر الغاز لهم عام 2009 حتى زادت نسبته بما يعادل (300% ) أي ما يعادل 450 دولار لكل ألف متر مكعب، ولكن مع مجيء الرئيس فلا مدير بوتن والاستراتيجية الجديدة له التي تعمل على إعادة بناء الدور الروسي كقوة عالمية وإعادة مكانتها التي تكاد تكون انتهت بعد الحرب الباردة، فكان على روسيا التدخل حيث أنها ترى أن أوكرانيا بلدا تابعة لها وامتداداً لمستعمراتها وهى حق تاريخي وجغرافي لها، فقد خضعت أوكرانيا في القرن التاسع عشر للإمبراطورية الروسية لذا ترى أنه من غير المقبول التدخل فيها من قبل الدول الأخرى وخصوصا في حالة فرض نفوذ قوى من قبل القوى الغربية المتمثلة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ، ونتاج لهذه الرؤية، فأنه من الطبيعي أن تبدأ روسيا بمد نفوذها على الدول المجاورة لها خصوصا ذات المصالح المشتركة والخلفية التاريخية الواحدة ، لذلك عمد الرئيس الروسي على إنشاء اتحاد يعرف بالاتحاد الروسي الذي يعمل على زيادة التبادل التجاري والاقتصادي بين الدول الأعضاء، بالإضافة إلى الجزء السياسي فيه، الذي يعمل على تكوين كيان سياسي بين أعضاءه، فهو بمثابة توسع للاتحاد الاقتصادي بتوجه اقتصادي تجاري صرف يشمل كل من بيلاروسيا- كازاخستان أبتدأ مع انضمام كل من طاجكستان و قرغيزيا، هذا بالإضافة إلى الرغبة في ضم أوكرانيا إلى هذا الحلف بسبب الموقع الاستراتيجي المهم لها والمصالح المشتركة بينهم.
أضف الى كل ذلك الجانب الاستراتيجي المتمثل في قلق روسيا من التقارب الأوروبي مع أوكرانيا وضمها للاتحاد الأوروبي بعد أنشاء منطقة التجارة الحرة معها كخطوة من أجل ضمها لحلف شمال الأطلسي ،وهذا بطبيعة الحال يمثل تهديد استراتيجي لروسيا بس التقارب الجغرافي بينها وبين أوكرانيا حيث سيصبح الناتو على مشارف حدودها السياسية، فهذه الخطوة تعمل على اضطراب الحسابات الروسية، لأنه من المتوقع أن تفقد روسيا الشريك الأوكراني، لتصبح دولة معادية لها أو معترضة على سياستها نتيجة تبنيها لسياسات جديدة سواء كانت للاتحاد الأوروبي على وجه العموم أو الناتو تحديدا.
الأسباب الاقتصادية ، لذلك كان على روسيا التدخل من أجل حماية مصالحها الاقتصادية الحيوية والاستراتيجية المستقبلية في المنطقة بشكل عام ، لذى لم تنتظر روسيا الى الخيارات الدبلوماسية والسياسية، بل عمدت الى التدخل المباشر عسكريا والذي نجد انه كان نتيجة لهذه العوامل المختلفة التي تمس الجانب الروسي سواء من أمور اقتصادية ، او عوامل متمثلة بالخطر الاستراتيجي والسياسي للأراضي الروسية، لم يبقى لروسيا لوقت من أجل اختيار موقفها في هذه الأزمة متعددة الأطراف والجوانب ،لذلك عمدت روسيا على التدخل بشكل مباشر ، وعند تحليل نتائج التدخل الروسي في اوكرانيا فلابد النظر إلى نتائج تدخلها بشكل عام في أوكرانيا سياسيا، حيث كان لتدخل روسيا في اوكرانيا إلى فرض عقوبات عليها من قبل العديد من الدول اولها الولايات المتحدة الامريكية والتي قامت بالإعلان عن فرض عدد من العقوبات على اربعة وعشرين شخصا وكيانا في بيلاروسيا بسبب دعمهم التدخل الروسي في اوكرانيا وفقا لما ذكرته وزارة الخزانة الامريكية ، في حين عمد الاتحاد الاوربي على فرض عقوبات على روسيا في بيان صادر عن اجتماع لزعماء دول الاتحاد الاوربي في بروكسل شملت القطاع المصرفي وكل من قطاعي الطاقة والنقل والسلع ذات الاستخدام الثنائي في المجالات المدنية والعسكرية والضوابط الخاصة بتصدير وتمويل الصادرات وسياسة التأشيرات والقوائم الاضافية للأفراد الروس ومعايير الإدراجات الجديدة ، أضافة الى ذلك فقد تم الاعلان من قبل رئيسة المفوضية الاوربية (اورسولا فون دير لاين) في تغريدة لها بأن زعماء الاتحاد الاوربي اتفقوا على فرض عقوبات على روسيا تستهدف (70%) من السوق المصرفية الروسية والشركات الرئيسية المملوكة للدولة ومنها شركات في مجال الدفاع ،حيث واجهت روسيا هذه التهديدات وأكدت أنها لن تؤثر عليها ، ولا سيما انها واجهت امرا مماثلا عندما عمدت لضم جزيرة القرم سابقا ، فقد سبق وان عملت على أصدار قرار بالتهديد بمنع تصدير الطاقة إلى أوربا ومنع مرور الغاز عبر الأراضي الأوكرانية، ردا على تلك الإجراءات التي اتخذت ضدها من قبلهم، مما عمل على دخول أوكرانيا في مفاوضات مع روسيا من أجل منع انقطاع الغاز عنها، ودخول الاتحاد الأوروبي كوسيط بينهم، بالإضافة إلى قلق الاتحاد من القطع الدائم للطاقة الروسية عنه وعدم الرجوع عن هذا القرار ، حيث أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على (40 % ) من واردات الغاز من روسيا ،مما يعرض الاتحاد الأوروبي لأزمة حقيقية نتيجة القرار المفاجئ وعدم وضعه لاستراتيجيات بديلة للطاقة ، أما عن الجانب الأخر، فقد سبق وان عمدت روسيا لتأمين وضعها خوفا من تفاقم الأمور في أزمة الطاقة، فقد قامت بعقد اتفاقيات جديدة، لتعويض الخسارة التي من الممكن أن تطالها نتيجة المشاكل التي تواجها مع أوكرانيا، والتي ترتب عليها منع تصدير الغاز إلى أوربا عن طريق الأراضي الأوكرانية، اذ عملت على التوجه نحو أسواق بديلة للطاقة تستطيع من خلالها بيع الغاز الذي يعد من دعائم الاقتصاد الروسي، وتوقف الإنتاج الروسي له يعمل على نشوب أزمة اقتصادية كبيرة داخل أراضيها حيث قامت بالتوجه نحو تركيا و الصين ، وهو ما يظهر مدى اهتمام روسيا السابق في إيجاد منفذ لها بسبب الأزمة التي سبق وان تعرضت لها وعدم جهلها بعواقبها الاقتصادية بشكل جيد لسبق تدخلها العسكري في شبه جزيرة القرم من أجل حماية المصالح سواء الاستراتيجية والاجتماعية آنذاك.
ومن خلال الاطلاع على خلفية الاحداث في الأزمة الأوكرانية يتضح أنه ليس من الممكن تخيل مستقبل هذه الأزمة عبر رؤية منفردة بتحليل اسباب دون الاخذ بعين الاعتبار الاسباب المرافقة لها واطراف تلك الازمة ، فالأطراف الرئيسة روسيا في مواجهة القوى الغربية المتمثلة في الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية ، فروسيا لم تنسى أبدا دورها المحوري في المنطقة وأنها كانت عاصمة الاتحاد السوفيتي السابق، اذ انها تعد الدول المحيطة بها جزء لا يتجزأ منها فبالتالي لها حق السيادة عليهم، بالإضافة إلى الخلفية التاريخية التي تجمعها بأوكرانيا، و العنصر الاستراتيجي الهام المتمثل في الموقع الجغرافي المتمثل في حالة التلاصق الجغرافي ن فبالنسبة لروسيا القضية الأوكرانية ومستقبلها يمثل قضية أمن قومي بجانب الأهمية الاقتصادية التي تم تناولها.
أما على المستوى الإقليمي المحيط بروسيا ، فروسيا ذات مكانة إقليمية مهمة نابعة من ماضيها كعاصمة للاتحاد السوفيتي السابق، ثم تصاعد دورها الإقليمي في المرحلة الأخيرة نتيجة الدور القيادي الذي يريد أن يلعبه الرئيس الروسي فلادمير بوتن في المنطقة من أجل استعادة المكانة الاستراتيجية لروسيا ، بالإضافة إلى الرغبة في النمو الاقتصادي الذي لن يتحقق إلا من خلال تجارب التكامل الإقليمي.
أما على المستوى الدولي فروسيا احد الاطراف الدولية الهامة سواء عبر ماضيها المتمثل في الإمبراطورية الروسية ثم الاتحاد السوفيتي القطب القوى الذي عمل على وجود نظام دولي ثنائي القطبية أثناء وجوده ، أو حاضرها المتمثل في الصعود الروسي مرة أخرى، بالإضافة إلى قوتها العسكرية ، اذ تحتل المرتبة الثانية على الصعيد العالمي من حيث قدراتها العسكرية، بالإضافة إلى قدراتها النووية الذي يمثل لها توازن بين الدول الكبرى المحيطة بها.
اما عن تحليل الموقف الغربي فالاتحاد الأوروبي تجربة إقليمية ناجحة، وكيان ضخم أصبح يمثل مستوى تمثيل داخلي للدول الاعضاء وليس إقليمي فحسب بسبب قوة الاندماج فيما بين دوله ، مع الاشارة الى انه بالأساس فكرة اقتصادية من أجل زيادة الإنتاج وحجم الاقتصاديات الكبرى، ولكن مع الوقت أصبح يتصبغ بطابع سياسي لتكون الاستراتيجية الموجهة لتصرفاته بالأساس اقتصادية ، وهو ما دفع لأطلاق تسمية العملاق الاقتصادي والقزم السياسي عليه خلال بعض الفترات ، مع الاشارة الى ان الاتحاد يسعى إلى التوسع شرقا اتجاه أوربا الشرقية ،حيث أن معظم الأعضاء له من الجزء الغربي للقارة الأوربية، وقد شجعه في ذلك المشاكل والأزمات الاقتصادية التي أصبح يعانى منها في الآونة الأخيرة ، بالإضافة إلى أن الجزء الشرقي من القارة الأوربية يقترب جغرافيا من القارة الأسيوية، التي تفيد كل المؤشرات أنها القارة الصاعدة اقتصاديا، مما يعنى تسهيل التعاملات معها وتقليل الرسوم في حالة اندماج دول شرق أوربا مع الاتحاد ، أضف الى ذلك تميز الاتحاد بمكانة دوليا مرموقة بسبب إمكانياته الاقتصادية الضخمة، بالإضافة إلى أنه شريك لبعض الدول الكبرى مثل كندا, اليابان وكوريا الجنوبية ، وحليف قوى للولايات المتحدة.
اما بما يتعلق الولايات المتحدة الأمريكية كدولة عظمى لها تأثيرها الواضح في جميع المستويات، ترغب دائما في الحفاظ على مكانتها وهيمنتها ، حيث ان تجربة الثنائية القطبية بين أمريكا والاتحاد السوفيتي مازالت تؤرق الولايات حيث أنها لا تريد أن تعيدها، ومع الصعود الروسي مرة أخرى فالولايات المتحدة ترغب بوضع حد له وأن تنهيه حتى لا يصبح قطب ذو تأثير قوى، بالإضافة إلى أنه حليف قوى لاتحاد الأوروبي ، أما عن الأزمة وتداعياتها المستقبلية فنجد أن أبعادها متداخلة مع بعضها البعض، وأن الأطراف الدوليين فيها كل منهم يبحث عن الوصول إلى حل من أجل تسوية الأزمة بسبب تكاليفها العالية على جميع المستويات والاعتبارات ، فالأمور الاقتصادية غالبا ما تكون من المحركات الأساسية للدول، أن لم تكن المحرك الأول لبعضها ،ففي حالة الأزمة الأوكرانية نجد ان جميع الأطراف حتى الآن في حالة قلق بالغ بسبب مواقفها الاقتصادية، والخوف من حدوث أزمة اقتصادية بالغة لذلك يكون السعي الحثيث من أجل تحقيق الثبات الاقتصادي ،حيث أن ورقة الضغط دائما كانت ومازالت الأداة الاقتصادية.
مما يدل على استحالة عزل طرف منهم عن الأخر وقطع العلاقات الاقتصادية بشكل دائم، حيث أنه من الملاحظ حتى في أحلك الظروف و توتر العلاقات بين الطرفين لم يتم وقف تصدير الطاقة من قبل روسيا إلى الاتحاد بشكل كامل ، بسبب العوائد المالية التي تأتي إلى روسيا ، بالإضافة إلى أن العنصر الزمني المتمثل في فصل الشتاء وانخفاض درجات الحرارة الشديدة في القارة الأوربية، الامر الذي يمنع اوربا من التصعيد بشكل دائم ، حيث أن ربع الغاز المستهلك بالاتحاد الأوروبي مصدره روسيا وتعتمد عليه الدول بشكل أساسي وهناك دول تستخدمه بنسبة (100% ) ،وهنالك دولة كفرنسا تستخدمه بنسبة( 15%) كما أن( 60% ) من الغاز الروسي يمر عبر أوكرانيا الامر الذي يشير إلى أنه من الصعب في المستقبل أو الوضع الحالي، التضحية بالأمور الاقتصادية لتلك الدول الامر الذي يتيح فرص الحوار مع الأطراف الأخرى من أجل الوصول إلى حل غير مكلف أو مرهق اقتصاديا ، بالإضافة إلى أن أوكرانيا في أزمتها وعبر تصريح لرئيسها أوضحت أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم تفي بالتزاماتها نحوها ، فبالتالي الموقف الأوكراني متخبط اقتصاديا، وسياسيا وعسكريا ولا يجد أي دعم مباشر له، بعد نشوب الأزمة مع روسيا.
فروسيا التي ترغب في تعزيز استقرارها والحفاظ على أمنها القومي، والاتحاد الأوروبي يريد إصلاحات واستقرار الوضع الأوكراني من أجل التوجه إليها ، لتعد المعضلة الأساسية في الجانب الاستراتيجي مشكلة حلف شمال الأطلسي الناتو واحتمالية قيام حرب باردة جديدة.
اما الولايات المتحدة تتبنى نفس إستراتيجية الاتحاد الأوروبي، لكن في نفس الوقت تعمل على طمئنه روسيا أن حلف الناتو لن يمس أمنها القومي، وأن الهدف الأساسي لها هو حماية الحلفاء الأوروبيين من التهديد الإيراني وكوريا الشمالية، لكن في الوقت ذاته يعمل الناتو على توفير حماية لأوكرانيا عن طريق تزويدها بالأسلحة الثقيلة أن أمكن تحسبا لأي عدوان روسي عليها ، أما روسيا فهي ترى أي خطوة توسعية من قبل الناتو ما هي إلا تهديد مباشر لها سواء من بناء قاعدة صاروخية في أوربا أو دعم أوكرانيا ، فقضية انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو قضية مصيرية بالنسبة لروسيا ولأمنها القومي، اذ انها لن تسمح أبدا بهذه المسألة بسبب الجوار الجغرافي بينهما ، اذ انها تنظر إلى قضية الناتو كامتداد للحرب الباردة في الماضي القريب عندما كانت في ذلك الوقت تحت راية الاتحاد السوفيتي.
فعلى الرغم من انتهاء الحرب الباردة عمدت الولايات على الاحتفاظ بحلف الناتو ولم تقم بحله بما يؤكد لروسيا أن الولايات المتحدة مازالت تراوح في تلك الحقبة من الزمن ، وأن أي مواجهة محتملة بينهم سوف تكون تحت مظلة الناتو، الذي هو سلاح أمريكا في المنطقة، فلا مجال لتهاون روسيا في هذه المسألة ، وما يزيد الطين بلة أن أوكرانيا بالفعل كانت عازمة على توقيع اتفاقية مع الناتو لتكون احد أطرافه.
من خلال تحليل الأزمة الأوكرانية وأبعادها الدولية والأطراف المشتركة فيها، يتضح لنا أن الخاسر الأكبر في هذه الأزمة هي أوكرانيا فهي تعانى من انهيار اقتصادي، لا يؤهلها أن تقوم بمواجهة المخاطر بمفردها، فعلى سبيل المثال لا تستطيع عمل إستراتيجية بديلة لاستيراد الغاز بدلا من الغاز الروسي، حيث أن روسيا تعطيه لها بأسعار منخفضة وتسدد ثمنه على دفعات لصالح روسيا ، أما على الجانب الاستراتيجي فهي تمثل أرض منافسة بين روسيا والقوى الغربية.
الا انها ومن الممكن ان تعمد الى تهدئة الأوضاع مع روسيا، والتعامل معها كشريك مهم في مجال الطاقة والمجالات المشتركة بينهم ، وأن تتعامل مع الاتحاد الأوروبي على أنه شريك اقتصادي هام وتقوم بالإفادة من تعاونه وشراكته الاقتصادية بدون الانزلاق إلى الأمور التي تعرضها إلى مخاطر كالانضمام إلى الناتو ، أو أي قرارات أخرى تمضي بها الى مصير مجهول او إلى حالة التقسيم، كما هو الظاهر من معطيات الامور الان.
أما عن الجانب الروسي فعليه أن يعمل على تقوية آليات عمل الاتحاد الأوراسي حتى يكون قوة موازية للاتحاد الأوروبي، من أجل وضع توازن قوى إقليمي، لتصبح العلاقات بينه وبين الاتحاد الأوروبي قائمة على المنافع المتبادلة وليس الصراعات.
أما عن الجانب الأوربي ، فعليه أن يبحث على تنوع مصادره في استيراد الطاقة، حتى لا يعمد الى الضغط على الدول من أجل الطاقة، أو استغلال دول معينة من أجل الحصول على موارده ، مع الاشارة الى أنه امر قد يكلف الاتحاد الاوربي ضعف تكلفة الاستيراد من روسيا، ولكن البحث على عنصر بديل حتى لا تتضرر مصالحه، ولاسيما ان الطاقة ذات أهمية للاتحاد وصناعاته الثقيلة.
ومن كل ما تقدم وخلاصة القول ان الأزمة الأوكرانية أزمة راهنة مازالت مستمرة وغير مستقرة، ولا يمكن التنبؤ بسيناريو وحيد لها بسبب تطورات الأحداث وتصاعد العنف والاجندات الخارجية ، وأدوات الضغط الاقتصادية ، وما يزيد الأمر صعوبة وتعقيدا أنها أزمة داخلية نتاج صراع وتنافس خارجي بالأساس تمتد بين ثلاثة قوى عالمية هي كل من روسيا, الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الامريكية ، وكلا من هذه القوى له أسلحته وأدوات ضغطه التي يمارسها على الأخر، لذلك الأزمة لن تحل ما بين بين الشد والجذب وحسابات المصالح للأطراف الخارجية الكبرى لتبقى أوكرانيا بينهم كعنصر تابع لا قرار مستقل لها بسبب أوضاعها السيئة.
تعليقات
إرسال تعليق
اذا أعجبك الموضوع فلماذا تبخل علينا بالردود المشجعة