القائمة الرئيسية

الصفحات

"هل يتغير واقع التعليم العالي في العراق بعد جائحة كوفيد 19 ؟" "مع ملاحظات متعلقة بنشر القانون الدولي الانساني في العراق" ح: (3) د. حيدر ادهم الطائي كلية الحقوق بجامعة النهرين

 

 

"هل يتغير واقع التعليم العالي في العراق بعد جائحة كوفيد 19 ؟"

"مع ملاحظات متعلقة بنشر

 القانون الدولي الانساني في العراق" ح: (3)

د. حيدر ادهم الطائي

كلية الحقوق بجامعة النهرين


"هل يتغير واقع التعليم العالي في العراق بعد جائحة كوفيد 19 ؟"

"مع ملاحظات متعلقة بنشر القانون الدولي الانساني في العراق" ح: (3)

د. حيدر ادهم الطائي كلية الحقوق بجامعة النهرين

 

ايتها السيدات ايها السادة على اساس الحقيقة المتقدمة من الضروري الاعتراف ان واقع التعليم العالي في العراق متأثر للغاية بضغوطات شديدة من جانب مجموعات المصالح المتنافسة حزبية او دينية او عرقية او طائفية او قبلية او اسرية....الخ تتخذ هذا الوصف على المستوى السياسي لكنها متفقة على سعيها لتحقيق مكاسب شخصية غير ابهة بالحفاظ على المصالح العامة للوطن الامر الذي يؤدي الى حصول هؤلاء على شهادات جامعية لا يستحقونها, واذا قدر لبعضهم – وقد تحقق ذلك - الدخول في ميدان التدريس فسنواجه الطامة الكبرى لان التعليم يبقى كمهنة تستهدف تصحيح مسارات الفكر, مما يتطلب مستوى رفيع من الاخلاقيات التي يجب ان يتمتع بها "التدريسي", كما ان تحقيق هدف التعليم وفقا للوصف المذكور يجب ان ينشا من خلال تمتع "التدريسي" بالذكاء والخبرة وحسن التصرف المبني على استخدام الحرية بطريقة صحيحة اذا اردنا فعلا ان ننظر الى استخدام وسيلة التعليم كأداة لإشاعة فهم للحياة مبني على اعمال العقل او الوعي النقدي لاحداث التغيير الاجتماعي الايجابي.

11.تعتمد كفاءة العملية التعليمية على ثلاثة اركان اساسية هي المحاضر "القائم بالتدريس" والمتلقي للمعلومة "الطالب" والمنهج الدراسي المقرر, وهذه تتفاعل مع بعضها للوصول الى النتيجة الايجابية او الهدف النهائي المراد تحقيقه من اية عملية تعليمية جادة ترتبط معها جملة من الاهداف التربوية حيث ينطبق ما تقدم على تدريس القانون الدولي الانساني ونشره سواء في اوقات السلم او في حالات النزاعات المسلحة, فهو يتضمن مجموعة من المبادئ القانونية والمفاهيم الاخلاقية المهمة الا ان الملاحظ وجود اشكال من عدم الرضا يعبر عنها الكادر التدريسي ناشئة من الشعور بالحالة المزرية للسياسة التعليمية المتبعة من جانب الاطراف الرسمية ذات الصلة في تعاملهم مع هذه الفئة, وبصورة خاصة تلك المتعلقة بحقوق التدريسيين  التي اصبحت في مهب الريح, فالتضييق عليهم امر قائم, والسماح بمحاربتهم في ميدان عملهم قائم ايضا على قدم وساق في حين يجري السماح لغيرهم بما هو غير مسموح لهم رغم انهم  يقدمون الكثير ويتعرضون للضغوط من جهات لا صلة لها بالتعليم من دون توافر اية حماية حقيقية لهم الامر الذي ينعكس سلبا بدرجة او باخرى على شعورهم باهمية دورهم الايجابي في المجتمع, والحالة المذكورة ترجع في بعض اسبابها الى التدني في مستوى الاخلاق في المجتمع. والواقع المذكور للتعليم في العراق يتنافى حتى مع واقع التعليم في العالم الاسلامي اثناء فترة العصور الوسطى, حيث يذكر "ابن جبير" الرحالة المسلم عندما وصل الى مدينة الاسكندرية قوله (من مناقب هذا البلد, العائد في الحقيقة الى سلطانه, المدارس والمحارس الموضوعة فيه لاهل الطلب والتعبد, يفدون من الاقطار النائية, فيلقى كل واحد منهم مسكنا ياوي اليه, ومدرسا يعلمه الفن الذي يريد تعلمه, واجراء يقوم به في جميع الاحوال).

ويذكر ايضا عندما يصل الى دمشق (ومن مناقب نور الدين زنكي, رحمه الله تعالى, انه كان عين للمغاربة الغرباء الملتزمين زاوية للتدريس في الجانب الغربي, يجتمع فيه طلبة المغاربة, ولهم اجراء معلوم).

ويشير ابن جبير ايضا عندما يصل الى بغداد الى ان (المدارس بها نحو الثلاثين, وهي كلها بالشرقية, وما منها مدرسة الا وهي يقصر القصر البديع منها, واعظمها واشهرها النظامية, وهي التي بناها نظام الملك, وجددت سنة اربع وخمس مائة, ولهذه المدارس اوقاف عظيمة وعقارات, ولهذه البلاد في امر هذه المدارس والمارستانات شرف عظيم وفخر مخلد) "مشار لهذه الاقوال في مقالة "لسمير عطا الله" بعنوان "الالزام في العلم قديم" منشورة في صحيفة الشرق الاوسط اللندنية الصادرة يوم السبت الموافق السادس من اذار 2021 العدد15439".

ان هذا الواقع السيئ للكادر التدريسي في العراق يتنافى مع ما تم تبنيه في اعلان برلين من اجل التنمية المستدامة طبقا للمادة "6/ز" التي نصت على "الاعتراف بالدور الحاسم الذي يقوم به المعلمون في تعزيز التعليم من اجل التنمية المستدامة, والاستثمار في تنمية قدرات المعلمين وغيرهم من العاملين في مجال التعليم على جميع المستويات, وكفالة الاخذ بنهج شامل للقطاع في عملية التحول الضرورية في مجال التعليم"

12.جانب اخر من المهم الانتباه اليه يتعلق بمجال القانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الانسان يتلخص بما افرزته التكنولوجيات الحديثة من تطبيقات وممارسات ذكية, حيث تبدو الحاجة واضحة الى تغطية هذه المواضيع, ومنها تلك المتعلقة بالجوانب القانونية للحروب السيبرانية, وبشكل خاص بالنسبة لطلبة الدراسات العليا مع عدم استبعاد تعريف طلبة الدراسات الاولية بهذه المستجدات مع مراعاة ثقافتهم القانونية المتواضعة بهذا الخصوص, فضلا عن ارتباط الاستخدامات الذكية بمفاهيم حقوق الانسان مع ما يمكن ان يساهم  الفقه القانوني في توضيحه للجوانب ذات الصلة بميدان دراسته لهذه المواضيع الحديثة, والتي تطرح تحديات غير مسبوقة بهدف توفير قاعدة قانونية اساسية قادرة على التعامل مع هذه المستجدات, وبذلك نستطيع تجاوز حالة الغيبوبة او استمرار اجترار مفاهيم الماضي من دون بذل اي جهد حقيقي للتجديد ومواكبة التطورات التي تحدث في العالم فمن غير المقبول ان نبقى قانعين بالعيش تحت الارض في حين يحاول العالم استيطان الكواكب الاخرى في بلد يحكمه ثلة من القوم مزدوجي الجنسية والمدعومين من اطراف خارجية مع كل ما يمكن ان يوضع من علامات استفهام على ولاءاتهم الحقيقية للوطن, فالولاء الى العراق لا يعبر عنه بمجرد شعارات تتداولها الالسن المزدوجة لكنه سلوك وممارسة تنبع من ضمير الانسان وقناعاته الفكرية !!!. واذا كانت عملية مقاومة التغيير هي نوع من الافعال ذات الطابع الدفاعي للمؤسسات والانظمة والدول التي ضخت مبالغ طائلة بهدف صناعة نظم تعليمية تخدم ادوات الانتاج في بلدانها, وما زالت تتعامل مع موضوع الحاجة الى التعليم من جانب المجتمعات المتنوعة وفقا لرؤية تعولم من خلالها المفاهيم التي تسعى الى انتشارها من اخذ الخصوصيات بنظر الاعتبار الامر الذي يظهر وجود "عبودية جديدة" او تربية على عبودية يتطلبها النظام الاقتصادي السائد في العالم, والحقيقة ان الدول التي تدعي حمايتها لحقوق الطفل فضلا عن حقوق الانسان الاخرى هي ذات الدول التي تضع المعرقلات امام احترام الخصوصيات من خلال التربية والتعليم, فهي على حد تعبير احد المتخصصين في الشان التربوي "تعيق انتقال الانسانية الى مستويات اكثر رقيا بوضع حدود تربوية واطر ومعايير تتناسب مع اقتصادياتها تحت مسميات معيارية انسانوية وتمنع معايير او تمنحها لمجتمعات اخرى......هذا الاستعمار التربوي يؤرقنا, وما يجعلنا نخضع لهذا الاستعمار هو رغبتنا في حياة وفرص عمل افضل في عوالم اكثر رخاء, وبذلك تكون هجرة الادمغة والكفاءات هي السبيل للخروج من مظالم النظام التربوي" ويضيف الى ما تقدم فكرة في غاية الاهمية عندما يقول "علينا ان نعي الرابط بين المتعة والتعلم وانواع الذكاء والبيئة المجتمعية, وهذه الامور مفقودة في نظامنا التعليمي".

13.هناك طابع عام تتسم به الممارسات الجارية في "الدولة العراقية" واقصد بذلك على وجه التحديد "سمة او طابع الفساد" المرتبط – بقدر تعلق الامر بعملية التدريس – بانعدام الشعور بالمسؤولية من جانب البعض, وهذه حالة ستستمر بافراز مظاهر سلبية في المستقبل وبالنتيجة دوام مسلسل هبوط مستوى التعليم في هذا البلد, والامر المذكور ناتج عن سياسات السنوات الماضية حيث جرى تسهيل حصول البعض على شهادات عليا "ماجستير ودكتوراه" من مؤسسات تعليمية عربية واجنبية تتبع نظما خاصة غير معتمدة في المؤسسات التعليمية العراقية, وبدعم من اطراف سياسية متنفذة وجرى زجهم وتسليمهم مراكز ادارية مرموقة في وزارات الدولة العراقية كافة ومنها وزارة التعليم "العالي" !!! والبحث "العلمي" !!! رغم انعدام كفائتهم بالمقارنة مع من سبقهم في الميدان ذاته فضلا عن تدني كفائتهم بالمقارنة مع زملائهم, والمفتاح او السر العظيم الذي يمكن ان تفتح من خلال معرفته مغارة  "علي بابا" يتمثل باجادتهم العالية للعبة التملق او ان لهم صلات عائلية مع بعض اصحاب المناصب من السياسيين المزدوجي الجنسية على وجه الخصوص وغيرهم !!!, فاذا كان المعلم جاهلا كيف لنا ان نتصور امكانية تخريج تلاميذ متعلمين حقا ؟ فاين نحن مما ذكره "نبيل ياسين" وهو شاعر وكاتب عراقي في مقالة له تحت عنوان "فكرة عن قيمة الادب في عصرنا" نشرت في صحيفة "القدس العربي" بالعدد 10143 الصادرة يوم الاربعاء الموافق 13 كانون الثاني 2021" من تصويره لشخصية المعلم العراقي واهتماماته, ومشكلة الادب والقراءة والقراء بين الماضي والحاضر, واعتذر جدا للقارئ في الزمن الحالي, لانني حاولت قدر الامكان ان اختصر الفكرة لكنني فشلت فاقتبست من هذه المقالة ربما ما يزيد على الغالبية العظمى من سطورها, وهي سطور صادقة تعبر عن معاني حية في نفوسنا حيث يقول (كان قطاع المعلمين في العراق ينتمي الى الطبقة الوسطى بشكل عام, وكانت هذه الطبقة ترى الادب ضرورة من ضروريات وجودها ونموها, وكان هناك ايمان سائد بان الادب والمعلم متلازمان, وان الادب بمثابة ظاهرة اجتماعية قبل ان يكون ظاهرة ثقافية, ومنذ العهد الملكي كان معظم العسكريين العراقيين يعيشون على الادب, باعتباره جزء مكملا للشخصية العسكرية, حتى ان عددا من العسكريين كانوا شعراء مثل ماهر نعمان الكنعاني ووسيم الذويب وخالد الشواف الذي كتب عددا من المسرحيات الشعرية في الخمسينيات والستينيات...........ولم يكن هذا الاهتمام بالادب وقيمته يقتصر على المعلمين والمحامين والتجار ورجال الدين والسياسيين والزعماء العسكريين العراقيين, وانما كانت مرحلة عربية عامة, كانت فيها الطبقة الوسطى في عدد من الدول العربية تستهلك الادب, وتضفي عليه قيمة اجتماعية وثقافية, الامر الذي ينعكس على الانتاج الادبي. كانت قيمة الادب تبدا من القراءة, وكانت الكتابة لا تنفتح الا من خلال مفتاح القراءة, ورغم ان الامية كانت واسعة ومنتشرة في مجتمعات نامية, خاصة الامية في صفوف الذين لم يتسنى لهم التعلم بسبب كبر سنهم, او تواجدهم في القرى والارياف, او مزاولتهم لمهن لم تتطلب التعلم, الا ان النخب كانت تتسع كلما دفعت الجامعات بمئات جديدة من خريجيها الى الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية.........قيمة الادب تكمن في تداوله وانتشاره, وهذا يجعل من الكتاب مصدر معرفة ومصدر متعة في الوقت نفسه, فالقراءة هي قيمة الادب وكثيرا ما كنت اتساءل عن هذه القيمة حين تمت تسمية المصحف ب"القران" وليس ب"الكتبان" لا اشير الى كتاب مانغويل "تاريخ القراءة" رغم اهميته لمعرفة قيمة ادب اوروبا, ولكنني اشير الى تاريخ القراء, وهم الطبقة التي اختصت بتواتر قراءة القران, وهم سبعة ما يزال القران يقرا وفق قراءاتهم, فاي قيمة كانت وما تزال للقراءة ؟ اليست القراءة, المرتبطة بوجود القارئ, هي ما تتجلى فيها قيمة الادب, فما قيمة ادبنا بلا قراءة ؟ فالقراءة هي التقييم الاجتماعي للادب. قبل التقييم النقدي الذي كان مرافقا للانتاج الادبي العربي. وماذا عن عصرنا ؟ حين تكون القراءة عسيرة في مجتمعات اخذت تفقد صلتها بالمرجعيات التقييمية, ومنها مرجعية اللغة, فقيمة ادبنا تكمن اولا, في لغته, ولكن ماذا نفعل بقيمة ادبنا اليوم, ولغة هذا الادب تتدنى او تنهار او تتحول الى انعكاس لمستوى تفكير الاخر, وليس مستوى تفكيرنا, بيد ان الذين يصرخون بان هناك مؤامرة على لغتنا ينطلقون من الدافع الديني, او القومي ولا ينطلق من الدافع الثقافي, بما فيه من جماليات وابداع. منذ عقدين او ثلاثة عقود, حل الادب المنقول بدل الادب المقروء. وصارت القراءة المحدودة, التي تنتقل عبر السماع, تفقد الادب قيمته وتحوله الى "تداول" شفاهي مزور في اكثر الاحيان, عادة ما تكون الاجيال الجديدة اكثر معرفة نتيجة التراكم, لكن اجيالنا تقفز على التراكم وتشغف بالبدء من الصفر. وفي كل مرة يكون فيها الصفر نقطة الانطلاق, يكون الادب قد فقد التراكم وفقد التاريخ. فمن يؤرخ للادب اليوم في بلداننا, بينما يتراكم تاريخ ادب اوروبا حتى صرنا نتخيل انه تاريخ ادبنا)

14.من المهم تشجيع الجهد المشترك بين الطلبة في انجاز بعض الواجبات التي يجري تكليفهم بها من جانب التدريسي "المعلم" والتي تتعلق بالقانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الانسان, كان يقوم اكثر من طالب وبجهد مشترك بكتابة بحث او تقديم ورقة عمل مركزة تتناول موضوعا محددا او ان يكلف اثنين من الطلبة او ثلاثة بدراسة حالة معينة ذات صلة بالفرعين المذكورين من فروع القانون الدولي, ولكن هل يكفي ذلك ؟ لا اتصور ان تكون الاجابة باطلاق كلمة "نعم" فمن المهم للغاية متابعة التدريسي لما سيقوم به الطلبة وتقييم انجازهم اولا باول, والحالة المذكورة اؤكد انتفائها الا ما ندر نتيجة انعدام الكفاءة فضلا عن غياب الشعور بالمسؤولية الناجم الى حد كبير عن حالة الاحباط التي يمر بها الكادر التدريسي في العراق. ومع التسليم بصحة ما تقدم يبدو من المهم جدا التركيز على تنمية القيم الاخلاقية, والعمل على تعزيز منظومة التسامح في المجتمعات التي مرت باوقات استثنائية "نزاعات مسلحة, حالات طوارئ متنوعة, عدم استقرار سياسي واقتصادي واضح....." نظرا لتراجع فاعلية المنظومة الاخلاقية في قناعات الناس نتيجة تاثرهم بالاوضاع المذكورة بشكل او باخر حيث يظهر دور التعليم الفاعل بموضوعاته ووسائله المعتمدة على كسب صداقة المتلقي للافكار في استعادة الاوضاع الطبيعية حيث تبرز اهمية بعض البرامج, وبهذا الخصوص يشير "صبحي الطويل" في مقالة له نشرت عام 2000 في المجلة الدولية للصليب الاحمر الا الاتي:(في المجتمعات التي تعيش المرحلة الانتقالية التالية للنزاع المسلح او للشقاق الداخلي, يمكن للتعليم القائم على استكشاف القضايا الانسانية ان يسلط الضوء على اوجه الاهتمام الانسانية المشتركة التي تظهر اثناء النزاعات المسلحة والتي كثيرا ما تتعرض للتعتيم في التحليلات ذات الدوافع السياسية والايديولوجية. كذلك فان الاستكشافات الاخلاقية التي تتيحها برامج من قبيل "استكشاف القانون الانساني" تسهم بما تخلقه من شعور "بالمواطنة العالمية", في دعم النواة المشتركة للتعليم الاساسي, وفضلا عن هذه العلاقة التي تربط القانون الانساني بمضمون التعليم الاساسي, فان القانون الدولي الانساني يعزز ايضا الحماية القانونية للحق في التعليم اثناء النزاعات المسلحة, وانطلاقا من هذه الروابط القائمة على المستويين التربوي والقانوني, يمكن التدليل بسهولة على الدور المحوري الذي يجب ان يلعبه القانون الانساني في العملية الدولية لصنع السياسات في مجال التعليم الاساسي.

15.اذا كان تشجيع البحث العلمي بما يساهم في رفع كفاءة عملية تدريس القانون الدولي الانساني على وجه التحديد امرا مقبولا بل ومن المهم جدا التشجيع عليه, فانه بالمقابل سيكون من غير المقبول من الناحية الاخلاقية في اقل تقدير ان يهرول بعض اعضاء الهيئة التدريسية وبشكل مخز وراء طلبتهم لكي تنشر البحوث المستلة من رسائل الماجستير واطاريح الدكتوراه التي يشرفون عليها بصورة مشتركة الامر الذي يعكس اهمالا واضحا من جانب البعض بخصوص نتاجهم العلمي, والغريب جدا ان هذا التوجه يشكل جزء من التوجيهات الصادرة من الادارات العليا في وزارة التعليم ال... والبحث ال... العراقية العتيدة !!! واقسم بالله انني قبل سنوات سمعت اعترافا صريحا من جانب احدهم اقر بموجبه بتقصيره في الميدان المذكور. واذا كانت جائحة "كوفيد 19" قد احدثت هزة في ميدان النشاطات الاقتصادية للانسان عندما اثرت بصورة ملموسة على قطاعات الاقتصاد المختلفة في العالم, فمن المهم ان يتعاطى العالم مع جرس الانذار الذي احدثته هذه الجائحة وفقا لردود فعل اخلاقية حميدة تحسن من مستوى التعامل مع الاثار السلبية التي تمخضت عنها حيث من المفروض ان يشمل الجانب المذكور قطاع التعليم عموما بما في ذلك التوسع في تدريس القانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الانسان بعمق اكبر, فهما فرعان من القانون يشيعان مجموعة قيم انسانية واخلاقية راقية, ويساهمان في تحقيق وحدة للقناعات البشرية التي تقرب من الوصول الى تحقيق الاشتراك القانوني بين النظم المعمول بها والشرائع السائدة في دول العالم.

16.ترتبط موضوعات القانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الانسان جوهريا بمجموعة من الاعتبارات الانسانية السامية والقيم الاخلاقية الرفيعة التي تعمل على الارتقاء بسلوك البشر في الظروف المتنوعة, وهي موضوعات تتصل ايضا بشكل او باخر بوظيفة الجامعات وطبيعة الدور التي يجب عليها ادائه في الحياة, واقصد هنا على وجه التحديد وظيفة "التربية" عموما بمفهومها الذي يجب ان يعكس القدرة على تطوير اخلاقيات البشر وقيمهم الايجابية في المجتمع, بمعنى قيام الجامعة بمهمة "التطبيع الاجتماعي" عندما تتولى "تزويد الفرد بمقومات النمط الثقافي لمجتمعه واتاحة الفرصة لقدراته وامكاناته ان تنطلق وتنمو ليصبح قادرا على الاسهام في اثراء ثقافة مجتمعه وتاهيله الى اقصى حد لمتطلبات المجتمع" كما تقوم الجامعة بوظيفة الانتقاء الوظيفي او المهني فضلا عن دور اساسي اخر يتمثل باعداد القادة على كافة المستويات, واخيرا فان الجامعة تقوم بوظيفة اقتصادية تتمثل بتوفير القوى العاملة الكفوءة المزودة بالتعليم والتدريب المناسبين لخدمة اهداف ومتطلبات الانسان في المجتمع. والحقيقة ان الاستجابة للغايات او الوظائف التي تسعى الجامعة الى تحقيقها امر يتطلب وجود تخطيط سليم مبني على تصورات واضحة لضمان الوصول الى الاهداف المحددة التي يلاحظ صعوبة تحقيقها طالما بقينا بعيدين عن الوصول الى مفهوم "الجامعة المنتجة" فمن الضروري تهيئة تصور تفصيلي متكامل عن العلاقة بين العلم من جهة والاقتصاد "المال" من جهة اخرى, فعلى سبيل المثال اذا كانت عملية فتح الدراسات المسائية بالتخصصات المتنوعة من الخطوات التي تساهم في تمويل الجامعات فان الاتجاه نحو هذا الطريق يجب ان ياخذ بنظر الاعتبار الخصوصية التي تتسم بها "الدراسات المسائية" بمعنى اننا يجب ان نكون حائزين لمناهج دراسية معدة لطلبة الدراسات المسائية, حيث يجب ان تتسم هذه المناهج بالبساطة, وان تقتصر على المواد الضرورية, فضلا عن اهمية تنظيم اوقات الدوام الرسمي بصورة مشددة, والتاكيد على قيمة المحاضرة والاهمية البالغة للحضور, وكل ما تقدم يسبقه اهمية تنظيم عملية القبول في الدراسات المذكورة بطريقة صحيحة حتى لا يتسلل كل من هب ودب الى الحرم الجامعي, ولكنني اقول ما سبق ان عبر عنه الشاعر العربي عندما انشد قائلا: (لقد اسمعت لو ناديت حيا   ولكن لا حياة  لمن تنادي).

17. من المهم الانتباه الى بروز حالة من ضياع الامل في الاصلاح, فهذا هو الشعور الحقيقي الذي يسيطر على الكوادر التدريسية التي تعتقد باهمية التعليم وضرورات العناية به لاقصى الحدود فضلا عن كل انسان مهتم بالقطاع المذكور, وبشكل خاص بعد ان جرى الاعلان عن ان معدلات الالتحاق بالمدارس العراقية بلغ  (93%) بالنسبة للدراسة الابتدائية في حين بلغت النسبة (55%) بالنسبة للدراسة المتوسطة بينما بلغت نسبة الالتحاق بالدراسة الاعدادية (29%) واذا صح هذا الكلام فان السير بطريق الاصلاح سيبدو مستحيلا في المدى المنظور طالما بقيت القدرة على اتخاذ قرارات جريئة غائبة عن المشهد التعليمي والتربوي في العراق, فمن غير المفهوم مطلقا ان تتاح فرصة الحصول على شهادات جامعية للمراحل الاولية, وكذلك الحال بالنسبة للدراسات العليا, من دون ضبط حقيقي للمستوى العلمي الذي تم اهدار اهمية الانتباه اليه لان البعض يملك رغبات شخصية تحققها له الشهادة الجامعية على المستوى الاجتماعي لا العلمي. والحقيقة ان جوانب من هذه المشكلة قديمة, وهي تتفاقم بدليل ما عبر عنه احد المحامين المصريين في العام 1953  بمقالة له نشرت بمجلة المحاماة المصرية "السنة 34, العدد الاول, سبتمبر 1953" بعنوان "ما يطلبه المحامون" عندما قال:(في مقالنا المنشور بالعدد التاسع من السنة الثالثة والثلاثين دققنا ناقوس الخطر من عدم تحديد طلبة كليات الحقوق, وقلنا اذا ظل باب الكليات مفتوحا على مصراعيه, فان عدد الخريجين سيتضاعف في خلال سنوات, وبذلك يزداد عدد المتعطلين منهم وتزداد حالتهم سوء, ويزداد مستوى المحامين هبوطا.... ولا يخفى ان هذا وذاك ليسا في مصلحة احد: لا الخريجين ولا المحامين ولا المتقاضين, بل هو ضار بهم جميعا......ونضيف الى ما ذكرناه في مقالنا السابق ان عدد طلبة الحقوق تضاعف فعلا في هذا العام, وسيتضاعف سنة بعد اخرى, وقد بلغ في السنوات الاخيرة حدا ضاقت معه المدرجات بالاف الطلب, فقل التحصيل وهبط مستوى التعليم هبوطا لمسه الجميع, وضاق مجال العمل امام كثير من الخريجين, بل عز على كثير من المحامين المبتدئين مجال التمرين........اما التعليم الجامعي فيجب ان يراعى في تحديد عدد من يقبلون به استعدادهم من جهة, وحاجة البلاد وظروفها من جهة اخرى. وغني عن البيان ان البلاد احوج الى التعليم الصناعي والزراعي.......) والحقيقة ان الحال لا يختلف في العراق مطلقا بحيث يصح قول الشاعر العربي ابراهيم طوقان:

امامك  ايها  العربي  يوم   تشيب لهوله  سود  النواصي

وانت كما عهدتك لا تبالي  بغير مظاهر العبث الرخاص

18. سبق وان ذكرت في عدة مناسبات ان "الحرية" هي القيمة الجوهرية التي لا غنى عنها لضمان تطور حياة الانسان وعيشه بصورة تحفظ له كرامته, لذا فان الابتعاد عن الطابع السلطوي القائم على تسلسل هرمي في ممارسة الصلاحيات الادارية بارتباط هذا الامر بالجوانب العلمية التي تستهدف البحث عن الحقيقة, فضلا عن الجوانب المتعلقة بالتعبير عن الراي في ميدان البحوث, من الامور ذات الاهمية القصوى, والتي تسمح بالتخفيف من حدة رفض طرح الاراء داخل الحرم الجامعي بحرية تسمح بالتقدم الى الامام من خلال تقبل امكانية التغيير للوصول الى حقائق اخرى جديدة تلبي حاجات البشر, وبعكسه سيصح الى حد كبير ما عبر عنه احد الراديكاليين عندما كتب الاتي:(لا يمكن ان تكون المؤسسات الرسمية للمدنية والحداثة, وعلى راسها الجامعات, اماكن بحث اساسية. ذلك ان سلطوية العلم وانتاجه في مؤسسات الدولة الرسمية, يعني فقدانه روابطه مع الحقيقة, سواء ماضيا ام حاضرا. وانقطاع اواصر العلم مع المجتمع الاخلاقي والسياسي يعني اخراجه من كونه مفيدا للمجتمع, بل وبالعكس تصييره مساعدا لتطوير احتكارات القمع والاستغلال على المجتمع, فكيفما ان المرأة المحبوسة في البيوت العامة او الخاصة تفقد واقعها وحقيقتها الحرة, فان المفكرين والعلم المحبوس في المؤسسات الرسمية يفقد حريته وهويته الحقيقية بالمثل تماما. لا ريب ان المرام من ذلك ليس استحالة تنشئة المفكرين او انتاج العلم في تلك المؤسسات. الامر الواجب فهمه هو ان المفكر والعلم السلطويين سوف ينقطعان عن هدفهما في البحث والاختراع المعنيين بالواقع الاجتماعي, بينما التحول الى مفكر او ابراز منجزات ذات قيمة علمية من باب الاستثناء لا يبدل من الحقيقة الاولية شيئا"

ان مفهوم الحرية الممارسة بهدف الوصول الى الحقيقة ستعني "الحرية المسؤولة" وفقا لمعايير الاخلاق الحميدة او فكرة الضمير او الوازع الذاتي, وهذه مفاهيم يجب ان تجد لها مكانا اساسيا او ترجمات واقعية في تصرفات البشر وسلوكهم, ولا ينبغي النظر اليها باعتبارها مجرد دعوات مثالية غير صالحة للتطبيق, وبشكل خاص في اوقات الظروف الاستثنائية التي من المهم جدا ان تبرز خلالها سلوكيات التعاون بين الجميع فضلا عن ممارسات التضامن بين الانسان من جهة والاخرين من بني جنسه من جهة اخرى. واذا كان هذا التوجه يعبر عن مسار اخلاقي وفقا لفهم غير مادي لعلاقات البشر او توقع نتائج ايجابية من خلال فهم غير مبني على عوامل اقتصادية, فعلى الرغم من كوننا نسلم باهمية العوامل الاقتصادية لفهم طبيعة العلاقات بين الناس فان انكار دور الاعتبارات المعنوية ليس بالامر الصحيح مطلقا, وسيبقى القانون بحاجة الى مجموعة من عمليات المراجعة المستمرة للوقوف على درجة ملائمة القواعد القانونية الموجودة والمفروضة من السلطة العامة للظروف الاجتماعية المختلفة, مما يعني ضرورة تطوير كل ما له علاقة بتنمية الاعتبارات الاخلاقية في التخصصات الجامعية كافة, ومن دون استثناء, وبادنى مستوى من الالم الذي يشعر به الانسان عندما يواجه عنصر الجزاء في القاعدة القانونية الامر الذي لا تحققه قواعد القانون في الغالب وانما تلعب الاعتبارات الاخلاقية الدور المهم والبارز, مما يعني ان على مؤسسات التعليم العالي ان تاخذ ما تقدم بنظر الاعتبار حيث يصح القول الذي عبر عنه احد الراديكاليين عندما قال "يجب عدم الانصياع للخوف الذي يبثه القانون ضمن المجتمع بارغام الدولة, فالاخلاق اساس والقانون ثانوي, وسوف يحل القانون ويحترم طالما ظل عادلا. وفي حال العكس, فالاصرار على المجتمع الاخلاقي والسياسي حتى النهاية شرط اولي, ينبغي عدم النسيان ولو لحظة واحدة ان السبيل الاساس لصون المجتمع وتامين صيرورته يمر من الموقف الاخلاقي".

19.تتضمن المجلات التي تصدر عن الكليات العراقية ذات الصلة بالقانون الدولي الانساني, والقانون الدولي لحقوق الانسان, سواء بصورة مباشرة او غير مباشرة "كليات القانون على وجه الخصوص" مجموعة من البحوث التي تعالج بعض المسائل التي تقع تحت مظلة اهتمام الفرعين المذكورين من فروع القانون الدولي, مما يعني انها توفر ايضا مساهمات بحثية مكتوبة للباحثين وطلبة الدراسات العليا تحديدا, الا ان الملاحظ تسرب "ظاهرة الفساد" الى ما تنشره هذه المجلات من بحوث, واكاد اجزم ان هذه المشكلة تتوافر بالدرجة ذاتها في المجلات العربية كما هي متوافرة في المجلات العراقية, اذ ان ما ينشر يعتمد بشكل او باخر, والى حد ما, على العلاقات الشخصية والوساطات التي يقوم بها بعض التدريسيين لاخرين من زملائهم, وهذا واقع مؤسف للغاية, لانه يحط من القيمة العلمية للمجلة, اذا قمنا بتقييم اليات النشر وفقا لمعيار موضوعي صرف, كما يمكن تاشير غياب اي دور وبالمطلق للهيئات العلمية والهيئات الاستشارية وهيئات التحرير التي اصبحت عبارة عن مجرد اسماء مسطرة من دون اي دور حقيقي لها يعمل على اختيار البحوث وفقا لمعايير علمية تراعى في ضوئها مجموعة من الاعتبارات التي يجب ان تصب في مصلحة اية مجلة من الناحية العلمية.

20.منذ مدة طويلة راودني سؤال اعتقد انه ذو اهمية مضمونه: هل يمكن تصور طرح بعض الافكار ذات الصلة باستثناء متطلبات التعليم, باعتباره من حقوق الانسان الاساسية حيث يمثل القاعدة الجوهرية للسير بالحق في التنمية الى اقصى الحدود التي تسمح بها الامكانيات المتاحة في كل زمان ومكان, من اية خطوات تتخذ من جانب اطراف متنازعة تحمل طابع العقوبة, لضمان ان يكون الحق في التعليم متاحا للجميع بمختلف الظروف, ولكي نفصل بصورة او باخرى بين المصالح الاساسية ذات الطابع الجمعي التي تمثلها الدولة كمنظومة سياسية واقتصادية وقانونية بالدرجة الاولى من جهة, وبين "الانسان" كفرد الذي يجب ان تحترم ادميته الى اقصى الحدود الامر الذي يتطلب ازالة المعوقات المختلفة التي تقف امام تحقيق هذه الغاية, ومنها المعوقات القانونية, وانا اقصد في سياق هذه السطور "العقوبات الاقتصادية على وجه التحديد....الخ" فهل نستطيع تصور بث نوع من الوعي بهذه المشكلة تمهيدا للوصول الى اتخاذ خطوات عملية تؤدي الى تكريس احترام الحق في التعليم وحمايته سواء تعلق الامر بالمستوى الوطني او الدولي كلاهما على حد سواء, وانا اتبنى التوجه المذكور انطلاقا من تجربة شخصية كوني اكملت دراستي العليا في العراق اثناء الفترة التي فرضت فيها عقوبات اقتصادية قاسية لم يشهد لها العالم مثيلا ضد العراق ابتداء من مطلع تسعينيات القرن العشرين, وقد عانيت ما عانيت اثناء تلك الفترة من ندرة المصادر المختلفة ذات الصلة بدراستي, وهي معاناة تعرض لها كافة الطلبة تقريبا  اثناء تلك الفترة الزمنية العصيبة.

21. تبدو حقيقة في كل الفقرات السابقة لا يمكنني انكارها تتلخص في ان جانب كبير من المشكلة تتعلق بالتنشئة على مجموعة قيم واخلاقيات تفعل دور الضمير بصورة تلقائية في المحاسبة,, والحالة المذكورة من الضروري الانتباه اليها حتى بالنسبة لتصرفات بعض التدريسيين الذين لا يعيرون لسلوكهم وتعاملهم مع الطلبة اية اهمية, الامر الذي ينعكس سلبا على الطالب, فسلوك التدريسي ايجابيا كان ام سلبيا تجاه الطلبة يترك اثار ذات طابع نفسي ومعنوي كبير فضلا عن امكانية توجيه اختياراته المستقبلية على اساس نظرته الى "المدرس, الاستاذ" فالتمييز بين الطلبة امر مرفوض الا في حالة وجود خصوصيات تستدعي تبني نوع من المعاملة الخاصة المبررة من النواحي القانونية والاخلاقية التي تستدعيها حاجة مراعاة خصوصيات الطلبة "فالاهتمام يجب, كقاعدة عامة, ان يتسع ليشمل كافة الطلبة على قدر واضح من المساواة على ان يشمل الطلبة اصحاب الشخصيات الانطوائية المترددين في ابتكار المبادرات الذين عادة ما يفضلون العلاقات غير المباشرة مع ترك مسافة بينهم وبين الاخرين سواء تعلق الامر بعلاقاتهم مع زملائهم او مع التدريسين.

اذن من الضروري ان يكون هناك تعامل موضوعي في علاقة التدريسي مع كافة الطلبة لان ذلك ان تحقق سينعكس ايجابا على تقبل المادة القانونية وتحسين القدرة على استيعابها, بينما سنكون امام نتيجة معاكسة عند تحقق خلاف ذلك بمعنى وجود محاباة غير مبررة, (ولا تقتصر ظاهرة المحاباة على مجتمع دون اخر. وتقول الكاتبة البريطانية "تانيث كاري" في احدى الدراسات التي اجرتها جامعة برمنغهام ان 14000 الف طالب من ستة بلدان سئلوا عن "الانصاف" فاجاب 42% في المئة بانكلترا ان المدرسين يعاملونهم بطريقة عادية, وهي ادنى نسبة بين البلدان الاخرى. ووجدت بحوث وزارة التعليم ان المحاباة يؤثر على درجات الطلاب, وفحص المشرفون 2000 مدرس قاموا بتصحيح مقالات الطلاب في عمر "11" عاما على مدار عام وتبين ان الثلثين منهم يعتقدون ان المشاعر الشخصية تجاه طلاب معينين تؤثر على تقيماتهم) والحالة المذكورة نجدها ايضا حتى على مستوى احساس بعض الطلبة في الجامعات العراقية, بل وحتى على مستوى طلبة الدراسات العليا قد تكون بعضها مبررة واخرى غير مبررة حيث تبقى المسالة نسبية الى حد ما تعتمد على شخصية الطالب فضلا عن اعتبارات اخرى تتصل بالتدريسي وقدرة كل واحد منهم في تخطي هذه الازمة.

22.كنت قد اخترت جزء من عنوان هذه الورقة المطورة عن ورقة سابقة بالاضافة الي العنوان السؤال الاتي: "هل يتغير واقع التعليم العالي في العراق بعد جائحة كوفيد 19 ؟" وانا على يقين انه سؤال ملح يحتاج الى الانتباه اليه في الوقت الحاضر, ومحاولة اعداد تصورات فعالة وقابلة للتطبيق في المستقبل المنظور, والحقيقة لقد اعجبتني مقالة كنت قد اطلعت عليها للكاتب المغربي "سعيد ناشيد" نشرت في احدى اعداد صحيفة العرب اللندنية "نهاية ايار 2021" يطرح من خلالها الكاتب ضرورات التغيير التي يجب ان تبدا بتغيير نمط التفكير, وهذه مهمة في غاية الصعوبة, لكنها ايضا غير مستحيلة حين يقول ربما بشيئ من الياس (....تكمن المعضلة في ان كل واحد منا يحمل اصناما والغاما داخل كينونته, وهي التي تحدد لنا سلفا حدود الطاعة والحرية, وترسم له الافق الممكن وغير الممكن في اللاهوت والسياسة...... وحين يقول الخطاب القراني "ان الله لا يفير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم" فلان افق التغيير الممكن مرسوم داخل الاذهان قبل الاعيان.......من غير المؤكد ان الاستبداد سينهار قريبا, لكن المؤكد ان الثورات قد انهارت بالفعل, بل لعلها لم تكن في اساسها سوى طبعات متاخرة " للثورة المغدورة" غير المتاخرين يعاقبهم التاريخ كما يقال.......اقرأ. ألسنا أمة أقرأ ؟ التعليم, الثقافة, التربية, التنوير, هي شغلنا الحقيقي الذي انتبه اليه الكواكبي قبل ان نغفله او نغفل عنه في غمرة اوهام السياسة, واوهام السياسة لا حصر لها, ومن ضمنها الاعتقاد بان السياسة بوسعها ان تحل كل مشاكل الحضارة والوجود والعقل والتاريخ وهلم جرا. وهذا مجرد هراء.....ليس سلوك الحكام سوى قمة ظاهرة من هرم عريض في القعر يمتد في الاعماق ليشمل كل التفاصيل المرئية وغير المرئية للمجتمع, انظمة الرموز والدلالات, نمط الانتاج الاقتصادي, نمط انتاج الحقيقة, اللاوعي الجمعي, بنية الاسرة...الخ هنا يكمن مغزى مقولة تشرشل "كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها" وهي مقولة تشبه حديثا منسوبا الى رسول الاسلام "كما تكونوا يولى عليكم" المعطى الاساسي ان النظم السياسية لا تتغير جراء تغير الحكام او تغيير المسؤولين او طردهم حتى ولو كان طرد بعض المسؤولين يحمل بعض الانصاف احيانا لكن يتغير النظام السياسي جراء تغيير تلك الروح التي تسري في كل الحيثيات والجزئيات التي نصادفها يوميا, لعلها مهمة شاقة على الحالمين, محبطة للناقمين, طالما انها تراهن على تغيير العقول والاذواق رويدا رويدا. وبعيدا كل البعد عن عقيدة الخلاص........ان كان منتظرا من المثقف ان يكون شخصا مزعجا للسلطة كما يقال فان التعبير الادق ان يكون مزعجا لروح السلطة التي تسري في كل التفاصيل من القوانين الجنائية الى تقاليد الزواج ومن مؤسسات الدولة الى نمط اللباس, ومن نمط الانتاج الى طريقة تناول الطعام. دعونا نقولها بوضوح جبهتنا القادمة, وهي الجبهة الباقية ايضا تتعلق باصلاح العقل والحضارة والكينونة. المهمة الاكثر ثورية ان نعلم الناس كيف يفكرون وكيف يختبرون بانفسهم امكانيات اخرى من التفكير, وبما يقلص من الانفعالات السلبية التي هي شرارات الفتن كلها. ذلك ان تحسين شروط التفكير لدى الناس من شأنه ان يقود عمليا الى تحسن السلوك المدني, وتحسين شروط الحياة بعيدا عن خرافة عصر ذهبي قادم في الافق او عائد من جديد بعيدا كل البعد عن اساطير الخلاص. ليس الثوري من يعلم الناس الشؤم والشكوى والتذمر وما الى ذلك من امراض الروح لكنه من يعلمهم مهارات الحياة ويؤجج ارادة النمو باستمرار سواء في ذاته ام في سائر الذوات التي تقاسمه الحراك وذلك بالعمل على انتقاء الصياغة المناسبة للاسلوب الحكيم, كما ليست مهمته ان يبشر الناس بوعود عظيمة مثلما يفعل الانبياء واشباههم).

فهل نحن بحاجة الى معلمين وتدريسيين واساتذة جامعات يعلمون الناس ازعاج روح السلطة, ويعلمون الناس كيف يفكرون وكيف يختبرون بانفسهم امكانيات اخرى من التفكير وبما يقلص من الانفعالات السلبية التي هي شرارات الفتن ؟ هذا ما نحن بحاجة اليه لتغيير واقع التعليم العالي في العراق بعد جائحة كوفيد 19 ؟ فهل يمكن ان يحصل ذلك ؟ واذا توافرت امكانيات حصوله فكيف سيتم الامر ؟ بمعنى ما هي اليات التغيير المطلوبة لتحقيق الهدف المذكور ؟

حقا ان كل ما تقدم ذو صلة بتكريس المفاهيم الديمقراطية ومنها "قيم التسامح والرقابة الذاتية على تصرفات الانسان, والصدق في العلاقة مع الاخرين, واجتناب ازدواجية التعامل...الخ" بمعنى خلق منظومة قيم ثقافية تنبني على فهم الديمقراطية والروح الحقيقية للاسلام باعتباره ثورة غيرت واقع الكثير من المجتمعات ايجابيا. اما الثقافات ذات السمات الشمولية فلا يمكن ان تساهم في تكوين منظومة اخلاقية تنتمي لمفهوم الحضارة او الصفة المدنية التي ينبغي ان تتسم بها تصرفات البشر, فالحضارات الحقيقية لا تشكل قيم الاقصاء فيها قاعدة عامة, حيث انها لا تنتمي اليها مطلقا, وستبقى الحضارات في كل مكان وزمان نتاج الحوارات المبنية على قيم واخلاقيات رفيعة تتجاوز المفاهيم الضيقة, وهي نتاج حرية الفكر وحرية الاعتقاد وحرية الانتماء, كما انها نتاج تقبل الاخر وفهم المغايرة والاختلاف, وليست نتاجا للثبات الكامل وصناعة الالغاء واستخدام القوة.

23.ان جانبا مهما من تطوير التدريس في اية مادة قانونية او غيرها يعتمد على وجود تصورات للدور الذي تؤديه انظمة الاختبار "الامتحان" وما زلنا في العالم العربي نعتمد على اساليب تقليدية حيث التمسك بها الى اقصى الحدود, الامر الذي نعتقد انه لم يعد مقبولا في العصر الحالي حيث تعتمد انظمة الاختبار "الامتحان" في معظم المؤسسات التعليمية القائمة في العالم العربي بمستوياتها المتنوعة على فكرة استرجاع ما يفترض ان الطالب قد خزنه اثناء فترة التدريس او التعليم على نحو ما نظر اليه احد خبراء التربية كونه "تعليما بنكيا" لدى توصيفه لانظمة التعليم القائمة في العالم الثالث على وجه العموم, فالطالب عبارة عن حساب بنكي توضع فيه الودائع اثناء عملية الاكساب والتلقين ثم تجري عملية سحب المعلومات في الاختبار "الامتحان" من دون الاهتمام باي اثر ثقافي ووجداني وتطبيقي للمعرفة في سلوك وذهن هذا الطالب. والحقيقة ان جائحة "كوفيد 19" التي جرى التوجيه نتيجة لها باعتماد طرق اختبار "امتحان" اكثر تطورا, وفي ظل انظمة التعليم الالكتروني, الكثير من الصعوبات, فالنظم من قبيل "الكتاب المفتوح", والنمط الكندي القائم على الاسئلة القصيرة ذات الاجابات المحددة, فضلا عن الاسئلة الاحتمالية والاشغال التطبيقية غالبا ما لا تفي بالغرض عندما يتخذ قرار جريئ باعتمادها, وقد يعود الفشل الى عدم الرغبة في مغادرة الاساليب التقليدية للاختبارات "الامتحانات" من جانب القائمين بالتدريس كونهم جزء من مجتمع محبط وبالتالي فان من غير الممكن ان نتوقع منهم استجابة نشطة للبدأ بعملية التغيير.

24.اذا كانت  جائحة "كوفيد 19" قذ شكلت تحديا امام البشر, واذا كنا نؤمن بضرورة احداث مجموعة من التغيرات في عملية التعليم تساهم في تعزيز المنظومة الاخلاقية للبشر كافة التي تاثرت بالاعتبارات المادية والتسابق الاقتصادي الذي تلهبه عملية المنافسة الشديدة في قطاعات الزراعة والصناعة وتقديم الخدمات....الخ فان من المهم ايضا ان تستجيب عملية تطوير تعليم القانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الانسان "للتحديات المعقدة والمترابطة التي يواجهها العالم, ولا سيما ازمة تغير المناخ, والفقدان الهائل للتنوع البيولوجي, والتلوث, والامراض الوبائية, والفقر المدقع واوجه عدم المساواة, والنزاعات العنيفة, وغيرها من الازمات البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي تعرض الحياة على كوكبنا للخطر" فالطابع الملح لهذه التحديات التي تفاقمت نتيجة تفشي جائحة "كوفيد 19" يتطلب اجراء تحول جذري باتجاه تحقيق التنمية المستدامة التي تتاسس على علاقات اكثر عدلا وشمولا واكتراثا وسلما بين البشر وبين البشر والطبيعة. ونحن في العالم العربي الاكثر حاجة لمثل هذه القيم التي يجب ان تدخل في المنظومة التعليمية التابعة لنا بحيث يكون التعليم عامل تمكين فعال للغاية في احداث التغيير الايجابي في العقليات ووجهات النظر ازاء العالم تحقيقا للتكامل بين كل جوانب التنمية المستدامة والاقتصاد والمجتمع والبيئة.....الخ "الافكار الاساسية في هذه الفقرة ماخوذة عن اعلان برلين بشان التعليم من اجل التنمية المستدامة لعام 2021" فهل نستطيع نحن العرب في هذا العالم ان نكون السباقين الى تحويل ما جاء في اعلان برلين او بعضا مما جاء فيه الى برامج عمل حقيقية تعكس الجدية في تحقيق اهداف الاعلان المذكور على اعتبار اننا الاكثر حاجة الى تحقيق الاهداف التي عبر عنها هذا الاعلان ؟

ان جانبا اساسيا في الاجابة عن السؤال المتقدم يعتمد على الاعتراف بحقيقة كوننا نحن العرب ما زلنا نعرف المشكلة لكننا لا نتخذ القرارات الجريئة لمواجهتها, فعلى سبيل المثال ارسل لي احد الزملاء الاعزاء كتابا عنوانه "ذروني اتكلم, مهزلة التعليم في العراق" مطبوع في العراق عام 1958 بطبعة اولى, كما انني اطلعت على بعض الكتابات العربية, بعد نشر هذه السطور للمرة الاولى, تحمل الهموم ذاتها وتحدد العلل التي لا تختلف عموما عما اوضحناه في هذه الصفحات نلخصها بافة "الفساد القيمي" حيث عقلية الغنيمة ما زالت مسيطرة على سلوكنا حتى في ميدان التعليم, فمن المعيب حقا ان ينظر الى الشهادة الجامعية العليا باعتبارها  نوعا من "الوجاهة الاجتماعية"!!! وتفرغ  بهذا الشكل من القيمة العلمية بصورة كاملة. واذا كانت المصيبة كبيرة فان البلسم في بعض القراءات التي تؤكد على تعزيز المنظومة القيمية للانسان, فهي ذات اهمية ففي عام 1949 تم تعيين "بهيج تقي الدين" وزيرا للزراعة في لبنان وحين علم اخوه الكاتب والصحفي "سعيد تقي الدين" بذلك كتب له هذه الرسالة "تحياتي اخي بهيج علمت انك قد اصبحت وزيرا, وهذا شرف كبير لعائلتنا ومنطقتنا, لكني احب ان اذكرك باننا عندما كنا صغارا كنا نتسابق للنوم في فراش ابينا لروحه السلام, واتذكر ان الوالد كان يشم رائحة ايدينا ليتاكد انها نظيفة واننا غسلنا ايدينا بعد الطعام لكي يسمح لنا بالنوم معه. والان يرقد ابونا تحت التراب, ولا شك اننا سوف نرقد معه بعد مدة, فاحرص يا اخي ان تكون يداك نظيفة لترقد معه بامان".

اخيرا اقول تحياتي وسلامي للانسان  الذي كان الفيلسوف اليوناني "ديوجين" يبحث عنه.

 

 

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع