القائمة الرئيسية

الصفحات

اشكالية الحماية الدستورية لحقوق العراقي المائية بقلم الدكتور علي سعد عمران بروفيسور القانون العام معهد العلمين للدراسات العليا

 

 

اشكالية الحماية الدستورية لحقوق العراقي المائية

بقلم الدكتور علي سعد عمران

بروفيسور القانون العام

معهد العلمين للدراسات العليا


 

 

من الثابت بأن الانسان بصفته الادمية هذه, خضع الى الطبيعة, بما امدته من موارد استخدمها في تسهيل معيشته على سطح الكرة الارضية, وكان من اكثر الموارد الطبيعية التي لم يكن للإنسان ان يستغني عنها, هو "الماء", الذي كان معينه الاول في هذه الحياة. لذا فإنه لا غرابة ان نجد الاهتمام الكبير بهذا المورد الطبيعي لحياة الانسان في الحضارات الانسانية جميعها, ومنها اهتمام الشريعة الاسلامية الغراء بصورة ملحوظة بأحكامه.

ان الحق في الماء يعد من الحقوق الحديثة الظهور على الرغم من أهميته الكبرى, فهو لم يكتب له البروز الى ساحة الفكر القانوني, وكونه محلا للنقاشات الفلسفية القانونية –الدولية منها والداخلية- الا في الثلث الاخير من القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين([1]), وان اشتد الاهتمام به في بدايات هذا القرن, على المستوى الدولي وعلى مستوى المشرع الدستوري.

كما ان الحق في الماء له أهميته العظمى في العراق, الذي اصبح مهدداً بالجفاف والتصحر, على الرغم من امتلاكه نهرين عظيمين "دجلة والفرات", اللذان تقع منبعاهما خارج العراق, وهو مايعد جزء كبير من المشكلة في هذا المجال. وبالتالي تنهض مسؤولية الدولة وسلطاتها المتعددة في تأمين هذا الحق لمواطنيها.

ان البحث في اشكالية الحماية الدستورية للحق في الماء تتطلب منا تقسيم الموضوع وفق الاغصان التالية:

الغصن الاول: الاهتمام الدولي والدستوري بحق الامن المائي:

        لم يكن الحق في الماء من فئة الحقوق التي لفتت انظار المشرع الدولي ونظيره الدستوري, في السنوات المنصرمة, وذلك لوجود حقوق اخرى اخذت المساحة الكافية على المستويين الدولي والداخلي, غير ان المتغيرات البيئية, وعدم ترشيد استخدام هذا المورد الطبيعي الهام, وتزايد اعداد البشر مع مايقابله من تزايد حاجاتهم, وغيرها من الاسباب, دفع هذا الحق الى مصاف الحقوق الاساسية للإنسان في الوقت الحاضر. واحتلاله موقع الصدارة تجاه باقي الحقوق الاخر وعلى المستويين الدولي والدستوري.

فمن حيث المستوى الدولي, فقد عرف الحق في الماء على المستوى الدولي بتعريفات عديدة منها, بأنه يقصد به ان "تُـتَاح لكلّ شخص مصدر للمياه؛ ويشترط في هذه الأخيرة (المياه) أن تكون مأمونة، وبالقدر الكافي، وبالسّعر المناسب؛ حتّى يتمكّن الشّخص من العيش حياة صحّية وكريمة ومنتجة، لكن مع الحفاظ في نفس الوقت على النُّظُم الإيكولوجية المساعدة على إعادة انتاج المياه"([2]). وفي نفس السياق عرّفت لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة عام 2002, الحق في الماء بأنه حقّ كل فرد في "الحصول على كمية من الماء تكون كافية ومأمونة ومقبولة ويمكن الحصول عليها ماديا وميسورة ماليا لاستخدامها في الأغراض الشخصية والمنزلية"([3]).

وفي سنة 2010 اعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنّ تأمين مياه الشّرب، وما يرتبط بها من خدمات للصّرف الصحّي هي حقّ أساسي من حقوق الإنسان. كما أثمرت جُهود برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) التابع للأمم المتحدة في مجال الاعتراف بحق الإنسان في الماء إلى اعتبار الحق في الماء حقّ جديد يَتَسَاوى مع باقي حقوق الإنسان المعترف بها في الوثائق العالمية لحقوق الإنسان([4]).

وفي عام 2017 أصدرت منظمة الصحة العالمية "المبادئ التوجيهية" الخاصة بنوعية مياه الشرب, إذ عرفت ماء الشرب السليم بأنه "الماء الذي لايشكل أي خطر على صحة الشخص الذي يستهلكه طول مدة حياته مع الاخذ بعين الاعتبار التغيرات الحساسة الممكنة في مختلف مراحل الحياة"([5]).

أما من حيث المستوى الدستوري –وهو مايهمنا في هذه الورقة البحثية- فان الالتفات الى هذا الحق الانساني الهام لم يتحقق, ولم ينص عليه, الا بعد حملة التعديلات الدستورية التي طالت أغلبية دساتير العالم. التي جاء في قسم منها الى ما شهده, ويشهده العالم من تحديات وارهاصات تنال من الحق في الماء, وسبل توفيره لمواطني كل دولة. ذلك لان الحق هذا اضحى أساس كل الحقوق الاخرى ابتداءً من الحق في الحياة والحق في الصحة والحق في التعليم وغيرها.    

ولذا قيل بأن الحق في المياه حقاً اجتماعياً وحقاً جماعياً "جديداً"؛ فبصفته "حقاً اجتماعياً"، يمكن لأفراد المجتمع مطالبة السلطة السياسية في الدولة بتوفير وحماية حقهم في المياه. ولذلك، يتعين على تلك السلطات تأمين هذا الحق لأفراد المجتمع الذي تحكمه من الناحية الاجتماعية. وباعتباره "حقاً جماعياً"، يجوز للسلطات السياسية التي تمثل مواطنيها بصفة شرعية في إقليم ما من العالم المطالبة بحقها في المياه ضمن النظام القانوني الدولي. وفي هذا الإطار، فأن الحق في المياه لا يعتبر مجرد "حق فردي"، أو "حق عالمي" عام، بل هو "حق للإنسانية" من جهة، إضافة الى كونه "حقاً طبيعياً" من جهة أخرى.([6]) لذا كان من الواجب على الدساتير ان تستوعب التطور الحاصل في ميدان هذا الحق, فالقاعدة الدستورية تستهدف تحقيق التوازن السياسي والحقوقي مع مواكبتها للمتغيرات العديدة المحيطة بتطبيق الوثيقة الدستورية, فالدستور "تنظيم للسلطة من أجل الحفاظ على الحرية"([7]).

انطلاقاً مما تقدم , ومن خلال استقرائنا النصوص الدستورية, اتجهت الدول الى الاهتمام بتنظيم الحق في الماء في ثنايا دساتيرها, بوصفه حقا لمواطنيها, والتزاماً قانونياً على مؤسساتها, وهدفاً تسعى الدولة الى تحقيقه.

فمن جهة بعض الدساتير الاجنبية, اتجه دستور كولومبيا لعام 1991 المعدل, في الفصل الخامس الى اعتبار توفير مياه الشرب من الاهداف التي يجب تحقيقها, إذ ورد الفصل بالعنوان "الغاية الاجتماعية للدولة والخدمات المدنية" حيث قضت المادة (366) بأن "تشكل الرفاهية العامة وتحسين جودة حياة السكان أهدافا اجتماعية للدولة, وأحد الاهداف الاساسية لنشاط الدولة في تلبية احتياجات السكان من الصحة العامة والتعليم والبيئة ومياه الشرب".

ذهب دستور فنزويلا لعام 1999 المعدل الى اعتبار كفالة حق الماء من واجبات الدولة الاساسية, إذ قضت المادة (127) بأن "من الواجبات الاساسية, على الدولة ان تكفل.... الحصول على الماء وله حماية خاصة بموجب القانون".  

قرر دستور بوليفيا لعام 2009 المعدل, في ديباجته بأن "تُنشأ دولة قائمة على الاحترام والمساوة للجميع... واتاحة امكانية الوصول الى المياه والعمل والتعليم والصحة للجميع", أما المادة (16) فقد قررت بان "لكل شخص الحق في الحصول على الماء والغذاء", وقضت المادة (20) بأن "لكل شخص الحق في الوصول العام والعادل الى الخدمات الاساسية لمياه الشرب وانظمة الصرف الصحي". وفي الفصل الخامس من الدستور والموسوم ب "الموارد المائية" جرى نص المادة (373) على ان "يعد الماء أكثر الحقوق الاساسية للحياة في اطار سيادة الشعب. تدعم الدولة استخدام المياه والوصول اليها على أساس مبادئ التضامن والتكاملية والتبادلية والعدالة والتنوع والاستدامة".

أما دستور كينيا لعام 2010 المعدل فقد عالج الحق في الماء في نصوص متعددة ملقياً على الدولة جملة من الالتزامات, إذ ورد في المادة (43/1) الموسوم "الحقوق الاقتصادية والاجتماعية" بأن "لكل شخص الحق في الحصول على مياه نظيفة وآمنة بكميات كافية". وان "تضع الدولة برامج تمييز ايجابية مصممة لضمان ان الاقليات والفئات المهمشة, تستطيع الحصول على المياه والخدمات الصحية والبنية التحتية بصورة معقولة"([8]). وان "لاتستخدم الحكومة الوطنية صندوق تكافؤ الفرص الا لتوفير الخدمات الاساسية من بينها مرافق المياه.... لرفع جودة تلك الخدمات في تلك المناطق الى المستوى الذي تتمتع به في باقي انحاء البلاد, بشكل عام, وبأكبر درجة ممكنة"([9]).  

ومن جهة الدساتير العربية, فإننا نجد ان الدستور المغربي لعام 2011 قضى في المادة (31) بأن "تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في ..... الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة"([10]).  

أما دستور الجزائر لعام 2016 المعدل عام 2020, فقد قضت المادة (63) منه بأن "تسهر الدولة على تمكين المواطن من الحصول على : ... ماء الشرب وتعمل على المحافظة عليه للأجيال القادمة".

واتجه دستور مصر لعام 2014 المعدل عام 2019 الى النص في المادة (79) منه على هذا الحق بالقول "لكل مواطن الحق في ... وماء نظيف. وتلتزم الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين كافة.".  

 

 

 

الغصن الثاني : النصوص الدستورية والقانونية المنظمة للحقوق المائية في العراق:

        تعد النصوص الدستورية والقانونية الادنى منها مرتبة في سلم الهرم القانوني, الاسس التشريعية والنظام القانوني للدولة, ولأجل معرفة موقف النظام القانوني من الحق في الماء لابد لنا من ايضاح النصوص ذوات العلاقة وكل بحسب قوتها القانونية.

        فبالنسبة للنصوص الدستورية, نجد ان تلك النصوص الناظمة والضامنة للحقوق المائية, تؤشر هذا الحق بطريقين الاول مباشر والثاني غير مباشر. وبمطالعة الدستور العراقي لانجد فيه نصاً مباشراً يتناول هذا الحق الواجب توفيره للعراقيين وفق مبدأ المساواة كما قضت بذلك الدساتير السابق الاشارة اليها. ولعل هذا اغفال تشريعي في الوثيقة الدستورية يتطلب مراعاته عند تعديل الدستور.

أما النص غير المباشر, فيمكن من خلاله بيان هذا الحق وفق نصوص عامة وردت في الدستور العراقي لعام 2005, يستشف منها الاشارة الى الحق في الماء. منها ماورد في المادة (33) القاضية بأن "اولاً: لكل فرد حق العيش في ظروف بيئية سليمة.", والمادة (31) قضت بأن "اولاً: لكل عراقي الحق في الرعاية الصحية، وتعنى الدولة بالصحة العامة.". كما قضت المادة (15) بأن "لكل فرد الحق في الحياة". باعتبار ان هذا الحق من مقومات الحياة الانسانية كما سبق القول.

وفيما يتعلق بالنصوص القانونية الادنى مرتبة من الدستور, نجد ان قانون وزارة الموارد المائية رقم 43 لسنة 2008 المعدل, قد بين أهداف هذه الوزارة في تأمين جانب من الحق المائي في النصوص ذوات العلاقة, منها نص المادة الثانية التي بينت بأن أهداف الوزارة هي "أولاً- التخطيط لاستثمار الموارد المائية في العراق واستغلال المياه السطحية والجوفية لتحقيق الاستخدام الأمثل للثروة المائية. ثانياً-تطوير الموارد المائية وتنميتها وتحديد مصادرها واستخدامها. ثالثاً- رعاية حقوق العراق في المياه الدولية المشتركة وإدامة الاتصالات وتبادل المعلومات مع دول الجوار والدول المتشاطئة على أحواض الأنهر وبما يضمن الوصول إلى اتفاقيات عادلة لتقسيم كمية ونوعية المياه الداخلة إلى العراق. رابعاً- المحافظة على المياه السطحية والجوفية من التلوث وإعطاء الأولوية للناحية البيئية وإنعاش وإدامة الاهوار والمسطحات المائية الأخرى.".

أما عن كيفية تحقيق هذه الاهداف فقد قضت المادة الثالثة من القانون بأن "تسعى الوزارة إلى تحقيق أهدافها بما يأتي: أولاً- تنظيم توزيع المياه ودرء اخطار الفيضان والسيطرة على السيول وأحواض الأنهر. ثانياً- القيام بالدراسات الخاصة بمشاريع الري والاستصلاح والسدود والمياه الجوفية ووضع التصاميم والوثائق المتعلقة بها عن طريق تشكيلاتها أو الجهات الاستشارية المختصة. ثالثاً- إدارة وتشغيل وصيانة مشاريع السدود والاستصلاح والري والبزل والمياه الجوفية. رابعاً- تنفيذ المشاريع الخاصة بالري والاستصلاح والسدود وغيرها عن طريق أجهزتها التنفيذية أو التعاقد مع المقاولين والشركات المحلية أو العالمية. خامساً- التنسيق مع المنظمات الدولية والإقليمية والعربية والمنظمات غير الحكومية المتخصصة في الموارد المائية والبيئية. سادساً- تنسيق خطط الوزارة مع الجهات التخطيطية والقطاعات المستهلكة للمياه بما ينسجم مع التنمية المستدامة في العراق وللقطاعات كافة. سابعاً- إدخال التقنيات الحديثة ونظم المعلومات الجغرافية (GIS) لتطوير أساليب العمل في الوزارة وتدريب الملاكات الفنية والإدارية بما يحقق إدارة واستغلال المياه بالطرق العلمية المتطورة. ثامناً- التوعية الشعبية بأهمية المحافظة على الثروة المائية واستثمارها بالشكل الأمثل وصيانتها من التلوث وتوسيع قاعدة المساهمة الجماهيرية ومنظمات المجتمع المدني في نشاطات الوزارة.". 

الغصن الثالث: التنظيم الدستوري للصلاحيات الاتحادية المتعلقة بالحقوق المائية:  

        منذ دستور عام 2004 اصبح العراق, وبموجب النصوص الدستورية, دولة اتحادية, وهو مااكده نص المادة الاولى من دستور عام 2005 النافذ حالياً, ومن المعروف بأن الدولة الاتحادية تعمل على توزيع الصلاحيات الدستورية بين السلطة الاتحادية في المركز, وبين الوحدات المكونة لهذه الدولة, وتختلف طرق توزيع الصلاحيات بحسب الفكرة الدستورية السائدة عند واضعي الدستور, مع الاشارة الى وجود جملة من الصلاحيات المشتركة بين السلطة الاتحادية المركزية والاقليمية, تستهدف من ورائها اشاعة روح التعاون ولتحقيق مبدأ التوازن والمشاركة في إدارة شؤون الحكم والادارة في الدولة الاتحادية([11]).

        وبخصوص التنظيم الدستوري العراقي, فانه يلاحظ اخذ الدستور بقاعدة حصر صلاحيات السلطات الاتحادية وترك ماعداها الى الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم وهو مايتضح من نص المادة "110"([12]) ثم أورد المشرع في المادة "114" بأن "تكون الاختصاصات الاتية مشتركة بين السلطات الاتحادية وسلطات الاقاليم", غير ان مطالعة بنود النص الدستوري "114" تتحدث في الحقيقة عن أقاليم ومحافظات غير منتظمة في اقليم ولعل هذا من أوجه الارباك التشريعي الذي وقع فيه المشرع الدستوري عند تنظيم فكرة الدولة الاتحادية عموماً([13]).  

وعلى أي حال فقد قضت المادة "110" من الدستور على ان "تختص السلطات الاتحادية بالاختصاصات الحصرية الاتية :... ثامنا: تخطيط السياسات المتعلقة بمصادر المياه من خارج العراق وضمان مناسيب تدفق المياه وتوزيعها العادل داخل العراق . وفقا للقوانين والاعراف الدولية.".

        ووفقاً للنص الدستوري المتقدم ذكره فان مايتعلق بتوفير وتأمين حق الامن المائي للعراقيين انما هو من الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية, التي عليها ان تبذل وسعها في سبيل تحقيق هذا الهدف المنشود.

وفي ميدان الاختصاصات المشتركة ولغاية تأمين الحق المائي, نجد ان المادة "114" قضت بأن "تكون الاختصاصات الاتية مشتركة بين السلطات الاتحادية وسلطات الاقاليم:.... سابعاً: رسم سياسة الموارد المائية الداخلية وتنظيمها بما يضمن توزيعا عادلا لها، وينظم ذلك بقانون.". 

ان فكرة الاختصاصات المشتركة يراد منها تحقيق أهداف ينص عليها المؤسس الدستوري ذاته تتمثل إما بتمكين الوحدات الفيدرالية من التصرف مع اخضاعها لنوع من الرقابة الاتحادية تظهر من خلال اشتراط موافقة السلطة الاتحادية على التصرف, أو منح السلطة الاتحادية اختصاصاً بوضع الاسس والمبادئ المعيارية وترك التفصيلات واجراءات التنفيذ للوحدات الفيدرالية([14]). ولأجل تفعيل هذا النص الدستوري فإنه يلزم صدور قانون ينظم كيفية تطبيق البند "سابعاً" أعلاه, مع مراعاة –فيما نعتقد- قانون وزارة الموارد المائية مار الذكر. هذا القانون الذي يجب ان يتضمن القواعد المعيارية التي ستنظم وبصورة دقيقة اليات تنفيذ البند "سابعاً" المذكور لتأمين الحق في الماء. غير ان هذا القانون لم يصدر لحد الان.   

الغصن الرابع: التزام السلطات الاتحادية في حماية الحقوق المائية للعراقيين:   

تتعدد السلطات الاتحادية التي يقع عليها الالتزام الدستوري بتأمين حقوق العراقيين بالماء المناسب لمعيشة ملاءمة, لاسيما ان أعضاء هذه السلطات ملزمة بإداء اليمين الدستورية بالصيغة الآتية "اقسم بالله العلي العظيم أن اؤدي مهماتي ومسؤولياتي القانونية بتفانٍ واخلاص وان ... ارعى مصالح شعبه واسهر على سلامة ارضه وسمائه ومياهه وثرواته ... وان اعمل على صيانة الحريات العامة .... والتزم بتطبيق التشريعات بامانة وحياد، والله على ما اقول شهيد"([15]). وسنوضح التزام كل سلطة مختصة في هذا الميدان وكالاتي:

أولاً: التزام السلطة التنفيذية الاتحادية:

        من اجل انفاذ أي من الحقوق الدستورية فلا يكفي مجرد التنصيص عليها في صلب الوثيقة الدستورية, بل لابد من اتخاذ السلطات السياسية جملة من القرارات والتصرفات التي تعد تنفيذا وايفاءً منها لالتزاماتها الدستورية, لذا فإن للسلطة التنفيذية الاتحادية ممثلة بمجلس الوزراء صاحب السلطة التنفيذية الحقيقية في العراق, جملة من الاختصاصات الدستورية([16]) التي من خلالها يمكن لها تأمين حق العراقيين بالماء, لعل من أهمها : مسألة المعاهدات والاتفاقيات الدولية إذ ان من صلاحيات هذا المجلس وفق المادة (80) من الدستور "سادسا: التفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية والتوقيع عليها أو من يخوله.".

ومسألة الدبلوماسية الدولية, والتي هي من الاختصاصات الحصرية للسلطة التنفيذية الاتحادية وفقاً لأحكام الدستور, إذ قضت المادة (110) من الدستور بأن  "تختص السلطات الاتحادية بالاختصاصات الحصرية الاتية: اولا: رسم السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي والتفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية وسياسات الاقتراض والتوقيع عليها وابرامها ورسم السياسة الاقتصادية والتجارية الخارجية السيادية".

        ولعل الواقع العملي للازمة المائية الحالية في العراق توضح بعدم اخذ مجلس الوزراء لدوره الدستوري المرجو, لتوفير الامن المائي لا من ناحية المعاهدات والاتفاقيات ولا من ناحية التجارة الخارجية لتكون اداة ضغط بيد الحكومة الاتحادية في مواجهة اخلال الدول المجاورة بحقوق العراق المائية.

        كما يلاحظ القصور الحكومي في تنفيذ قانون وزارة الموارد المائية وفق الاهداف التي يراد تحقيقها بهذا الجانب.

ثانياً: التزام الهيئات المستقلة (المفوضية العليا لحقوق الانسان):

        استناداً لنص المادة (102) صدر قانون المفوضية العليا لحقوق الانسان بالرقم 53 لسنة 2008 المعدل([17]), وقد بين هذا القانون بأن المفوضية لم تنشأ الا من اجل "أولاً- ضمان حماية وتعزيز احترام حقوق الإنسان في العراق. ثانياً- حماية الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور وفي القوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من قبل العراق."([18]).

وان مهام هذه المفوضية حددتها المادة الرابعة من قانونها بالقول "تتولى المفوضية المهام الاتية: أولاً- التنسيق مع الجهات ذات العلاقة في أعداد استراتيجيات وآليات عمل مشتركة لضمان تحقيق اهدافها الواردة في المادة (3) من هذا القانون .ثانياً- إعداد الدراسات والبحوث وتقديم التوصيات وإبداء الرأي في المسائل المتعلقة بتعزيز وتنمية حقوق الإنسان.
ثالثاً- دراسة وتقييم التشريعات النافذة ومدى مطابقتها للدستور وتقديم توصياتها لمجلس النواب.
رابعاً- تقديم المقترحات والتوصيات لانضمام العراق إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بحقوق الإنسان. خامساً- التعاون والتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق الانسان في العراق والتواصل مع مؤسسات حقوق الإنسان الدولية المستقلة وغير الحكومية بالشكل الذي يحقق أهداف المفوضية. سادساً- العمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان من خلال الوسائل الآتية:-أ- تضمين ثقافة حقوق الانسان في المناهج التعليمية والتربوية. ب‌- عقد المؤتمرات والندوات والفعاليات الفنية والاجتماعية وإصدار النشرات والمطبوعات واعداد البرامج الإعلامية للموضوعات المتعلقة بحقوق الإنسان .سابعاً- تقديم التوصيات والمقترحات إلى اللجان المكلفة بإعداد التقارير التي تلتزم الدولة بتقديمها إلى منظمة الأمم المتحدة. ثامناً- تقديم تقرير سنوي إلى مجلس النواب متضمناً تقييماً عاما عن حالة حقوق الإنسان في العراق ويتم نشره في وسائل الإعلام المختلفة"..

        على ان المفوضية العليا لحقوق الانسان لم تتناول هذا الحق الهام الا وهو الحق في الماء, بالعناية الكافية, مستهدية بذلك في مجموعة المهام والاهداف التي أُنشئت من اجلها.

        ان المفوضية المذكورة الان تعاني من شبه تعطيل لعملها بصورة فعلية وذلك بسبب إحالة أعضائها على التقاعد استناداً لقانونها وذلك من تاريخ 20/تموز/2021, وذلك بقرار من رئيس مجلس النواب العراقي, مع تشكيل لجنة من مجلس النواب تحل محل أعضاء المفوضية!!!. الى حين اختيار أعضاء جدد, ولم يتمكن مجلس النواب من انجاز هذه المهمة والواجب القانوني, وهو ماتأسف له مكتب المفوض السامي لحقوق الانسان في بعثة الامم المتحدة لمساعدة العراق. بعدم تمكن مجلس النواب العراقي من تشكيل لجنة لاختيار أعضاء جدد في المفوضية, وحث على اتخاذ تدابير فورية لتعيين مجلس المفوضين وبما يتفق مع المبادئ الدولية المتعلقة بحالة المؤسسات الوطنية لحقوق الانسان.

ثالثاً: التزام السلطة التشريعية الاتحادية :  

        للسلطة التشريعية الاتحادية, ممثلة بمجلس النواب, العديد من الصلاحيات الدستورية والقانونية, التي من خلالها تستطيع وتتمكن من توفير وتفعيل الحق في الماء للعراقيين, ويتضح ذلك من خلال الآتي :

1. الصلاحية التشريعية: يعد مجلس النواب الجهة المختصة بالتشريع ابتداءً وفق النظام الدستوري العراقي, ولها ان تشرع في كل المجالات التي تريد, وذلك بسبب اخذ المشرع الدستوري العراقي بفكرة المجال المطلق للقانون وعدم تقييد صلاحية المجلس النيابي بالتشريع في مجالات محددة. وفيما يخص حق الامن المائي, فإن للمجلس دورين واضحين, الاول يتعلق بتشريع القوانين التي تمكن من انفاذ هذا الحق وتحقيقه, سواء على المستوى الاتحادي الحقوقي, أم على مستوى الصلاحيات الحصرية السابق بيانها والتي لم يشرع القانون الخاص بها الذي أشارت اليه المادة (110), أم على مستوى الاختصاصات المشتركة الواردة في المادة (114). والدور الثاني يظهر  من اختصاص المجلس المذكور في الموافقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بالحق في الماء الذي لابد ان يكون داخل مجلس النواب, بوصف اعضائه ممثلي الشعب العراقي([19]).  

2. الصلاحية الرقابية: تعد الرقابة على عمل السلطة التنفيذية من اهم مهمات واختصاصات المجالس النيابية, وفي مختلف الانظمة السياسية, وان اختلفت بالمدى القانوني نتيجة اختلاف بنيوي في النظم السياسية ذاتها, غير ان وجود الرقابة البرلمانية داخل كل نظام سياسي ديمقراطي, تعد حقيقة لاتنكر. ولمجلس النواب العراقي الادوات الرقابية المتعدد التي جاء على ذكرها الدستور, وفصلها النظام الداخلي للمجلس, إذ ان للمجلس الحق في السؤال وطرح موضوع عام للمناقشة والاستجواب وانتهاء بطرح الثقة وسحبها من الوزير او رئيس مجلس الوزراء, فيعد المجلس حينئذٍ بأسره مستقيلاً([20]).

وبمتابعة نشاط المجلس النيابي فإننا نلاحظ ضعف الاداء البرلماني في خصوص الامن المائي سواء من الناحية التشريعية –كما اشرنا- أم من الناحية الرقابية, إذ لم نر استجواب موجه الى الحكومة الاتحادية, او الى وزير الموارد المائية, يتعلق بالحق مدار البحث. او سحب للثقة بسبب الاهمال الحكومي لهذا الملف الهام لحياة العراقيين.

        ان البحث في جانب الحماية الدستورية والقانونية للعراقيين في حق الماء, انما يستوجب منا القول بأن على سلطات الدولة تفعيل النصوص الدستورية والقانونية, الناظمة لاختصاصاتها في هذا الميدان, وتكثيف العمل السياسي والتحرك الدبلوماسي الدولي من اجل تلبية حاجة العراقيين لهذا الحق, مع استغلال المياه الداخلة الى العراق بنهريه العظيمين, الاستغلال الامثل, والابتعاد عن اهدار هذا المورد الطبيعي وعدم استغلاله بطريق علمي قويم.

 

 



[1]) في تفصيلات ذلك ينظر : أميمة سميح الزين/ الحق في الماء حق اساسي من حقوق الانسان/ مقال منشور في مجلة جيل حقوق الانسان/ العدد الاول/ 2014/ النسخة الالكترونية على الرابط الآتي :

https://jilrc.com/archives

 

[2]) كردالـواد مصطـفى / الحق في الماء كحق جديد من حقوق الإنسان/ بحث منشور في مجلة أفاق البيئة والتنمية الالكترونية على الرابط الاتي :

https://www.maan-ctr.org  

[3]) الحق في المياه / من منشورات منظمة الصحة العالمية / منظمة الامم المتحدة – مكتب المفوض السامي لحقوق الانسان / صحيفة الوقائع رقم (35). ص1. 

[4]) للتفاصيل ينظر : دانيلو زولو/  الحق في المياه باعتباره حقاً اجتماعياً وحقاً جماعياً/ مقال منشور على الموقع الالكتروني :

https://www.juragentium.org

كردالـواد مصطـفى / المصدر السابق  

https://www.maan-ctr.org

 

[5]) العربي بوكعبان/ علاقة الحق في الصحة مع الحق في الماء والحق في البيئة/ مجلة القانون العام الجزائري والمقارن/ المجلد السابع/ العدد الاول/ 2021/ ص112.  

[6]) دانيلو زولو/ المصدر السابق                                            https://www.juragentium.org

[7]) د. علي سعد عمران / المنتقى من أحكام دستور العراق لعام 2005-دراسة تحليلية مقارنة/ العلمين للنشر/ العراق - النجف الاشرف/ 2021/ ص 50.

[8]) ينظر نص المادة (56) منه.

[9]) نص المادة (204) منه.

[10]) ورد هذا النص في الباب الثاني من الدستور والموسوم "الحريات والحقوق الاساسية". 

[11]) لتفاصيل د. علي سعد عمران/المصدر السابق/ ص56-57.

[12]) التي قضت بان "تختص السلطات الاتحادية بالاختصاصات الحصرية الاتية.." .

[13])  لتفاصيل د. علي سعد عمران/المصدر السابق/ ص 69.

[14]) د. سعد عصفور/ القانون الدستوري /الاسكندرية /مطبعة المعارف / 1954/ ص 277 هامش رقم (2). 

[15]) وردت صيغة اليمين الدستورية في المادة (50) من الدستور وهي تؤدى من أعضاء المجلس النيابي, ورئيس الجمهورية بدلالة المادة (71) ورئيس مجلس الوزراء والوزراء بدلالة المادة (79).

[16]) مع ضرورة ملاحظة نص المادة (81) من الدستور التي تقضي بأن "اولا: يقوم رئيس الجمهورية مقام رئيس مجلس الوزراء عند خلو المنصب لأي سبب كان .ثانيا: عند تحقق الحالة المنصوص عليها في البند "اولا" من هذه المادة يقوم رئيس الجمهورية بتكليف مرشح آخر بتشكيل الوزارة خلال مدة لا تزيد على خمسة عشر يوما ووفقا لأحكام المادة (76) من هذا الدستور.".

[17]) قررت المحكمة الاتحادية العليا عدم دستورية المواد (2/أولاً, 12/خامساً, 16/ رابعاً) من قانون المفوضية العليا لحقوق الانسان, بموجب قرارها بالعدد 43/اتحادية/2019 بتاريخ 11/7/2021.

[18]) وفق المادة الثالثة من قانونها والمعنون بأهداف المفوضية.

[19]) بدلالة المادة (73/ثانياً) من الدستور.

[20]) تنظر المادة (61 /سابعاً – ثامناً) من الدستور. فضلاً عن اللجان التحقيقية المنعقدة بأعضائها البرلمانيين, والتي فصل أحكامها النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي لعام 2007.

 

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع