القائمة الرئيسية

الصفحات

معاناة المحامي بتحصيل أتعابه


المحامي

معاناة المحامي بتحصيل أتعابه


بتاريخ 16 كانون الأول عام 2005 عُثر في منطقة يعفور في ريف دمشق على جثة شاب بهي الطلعة مفتول العضلات في مقتبل العمر مقتولاً بالرصاص مرمياً بين الأشجار.

بالتحقيق تبين أن الجثة تعود لشاب من إحدى القرى التابعة لقضاء قطنا، وأن هذا الشاب مرتبط بعلاقة غرامية آثمة بسيدة متزوجة من نفس القرية، وسبق أن افتضح أمر هذه العلاقة في أوساط القرية مما أدى لطلاق السيدة قبل مصرع الشاب بعدة أشهر.

ومن نافلة القول أن القتيل كان السبب بافتضاح أمر هذه العلاقة وشيوعها في ذلك المجتمع المحافظ الضيق، حيث كان يتباهى بين شباب القرية أنه تمكن من الظفر بتلك السيدة الجميلة بغفلة عن زوجها، فكان في بعض الأحيان وحتى يعطي المصداقية لقصة الخطيئة مع السيدة، كان يسرب مواعيد اللقاء بها لبعض الشباب حتى يحضروا و يشاهدوا بأنفسهم دخول الاثنين للمكان الذي يمارسوا فيه الإثم والرذيلة والخيانة والغدر.

نظراً لهذه الخلفية الآثمة للمغدور انحصرت الشبهات في قتله بالعشيقة وطليقها وأشقائه الأربعة، وبالفعل قام والد القتيل بالادعاء عليهم جميعاً بجرم القتل العمد، فقامت الأستاذة قاضي التحقيق بقطنا بالتحقيق معهم فأنكروا جميعاً (العشيقة وطليقها وأشقائه) الجرم ولكن القاضي قامت بتوقيفهم جميعاً على الشبهة وبدون وجود أي دليل حسي أو مادي يؤشر على ارتكابهم الجريمة.

مضت عدة أشهر على توقيف المتهمين عجز خلالها كافة المحامون الذين توكلوا عن طليق العشيقة وأشقائه عن إخلاء سبيلهم، أو معرفة الدليل الذي تستند إليه السيدة قاضي التحقيق في توقيفهم، وعجزوا عن القيام بأي إجراء يذكر للدفاع عنهم.

أثناء وجود المتهمين –الرجال عدا العشيقة الموقوفة بسجن النساء- بالسجن تعرفوا على موقوف آخر، متهم بجريمة قتل عمد استطاع محاميه بعد صدور حكم مبرم بإعدامه، أن يبطل حكم الإعدام بدعوى مخاصمة قضاة ويعيد محاكمته مجدداً.

استفسروا منه عن هذا المحامي الذي قام بهذا الإنجاز الكبير، فتبين لهم أنه محام شهير مرموق، يعتبر أحد كبار المحامين بالبلد، له تاريخ قانوني حافل، فقد شغل قبل المحاماة منصب وزير العدل وقبلها كان قاضٍ وله مؤلفات عديدة في القانون.

فقام المتهمون بإرسال ذويهم لمقابلة هذا المحامي وعرض القضية عليه، وهذا ما حصل حيث تمت مراجعة المحامي من قبل ذوي الموقوفين الخمسة وعرضت القضية عليه مع تأكيد قاطع بأن الموقوفين لم يرتكبوا هذه الجريمة نهائياً وبعدم وجود أي دليل يجعلهم موضع شبه ما عدا الفضيحة الشائنة المذكورة سابقاً، وطلبوا منه قبول الوكالة عنهم مع استعدادهم لدفع أية أتعاب يطلبها، وأنه في حال ظهر أن الموقوفين مذنبين فلا مانع لديهم من ترك القضية فوراً.

طلب منهم المحامي إحضار أوراق القضية لدراستها، فلم يكن لديهم سوى ضبط الأمن الجنائي وعدة تقارير ملحقة به كتقرير الطبيب الشرعي وتقرير خبير السلاح والبصمات، وقالوا بأنهم لم يستطيعوا تصوير إفادات الشهود المستمعين أمام قاضي التحقيق نهائياً (من المعلوم أن إفادات الشهود أمام قاضي التحقيق تبقى سرية).

بعد الاطلاع على ضبط الأمن الجنائي والتقارير الملحقة به، لم يجد المحامي أي مؤشر على ارتكاب التهمين للجريمة، ولكنه تردد بقبول القضية فقد أحس بشيء من الريبة إذ شعر أن الدليل الذي تستند إليه القاضية بتوقيفهم مستمد من أقوال الشهود، فاعتذر عن قبول الوكالة في القضية.

فلم يستسلم المتهمون لاعتذار المحامي فاتصلوا به من السجن، وبدأ ذويهم بالتوافد على مكتبه والإلحاح عليه بشتى الطرق لقبول المرافعة بالقضية وبالأتعاب التي يريدها، مع التأكيد له بأنه لو ثبت ارتكابهم للجريمة فله الحرية باعتزال الوكالة وأخذ كامل أتعابه.
((هذه الوقائع أنا شخصياً شاهد عليها، وحضرت بعض الحوارات بنفسي)).

بالفعل قبل المحامي الوكالة بالقضية وطلب أتعاباً له مبلغ 400 ألف ليرة عن كل متهم من الأشقاء فيها، على أن يدفع النصف سلفاً، فوافق المتهمون جميعاً على ذلك فكان مجموع أتعاب القضية بكاملها مبلغ مليونيّ ليرة سورية، وتم الاتفاق على كيفية الدفع، حيث قبض المحامي أول دفعة، وبعد فترة دفعة أخرى، حتى بلغ مجموع ما قبضه مبلغ مليون ومائتي ألف ليرة. 


المحامي


استدراكاً وتصويباً لما ذكرناه في القسم الأول من هذه القضية حول الأتعاب المتفق عليها، فقد كان الاتفاق بين المحامي والمتهمين كما يلي:

1 – مبلغ 400 ألف ليرة عند تنظيم الوكالة.
2 – مبلغ 200 ألف ليرة عن كل متهم يدفع عند إخلاء سبيله.
3 – مبلغ 200 ألف ليرة عن كل متهم يدفع عند ثبوت براءته.

ويلاحظ على الاتفاق ما يلي:
بما أن عدد المتهمين خمسة فإن كامل مبلغ الأتعاب مليونين وأربعمائة ألف ليرة، ولكن يجب الانتباه أن المحامي في هذا الاتفاق خلافاً للمألوف التزم بتحقيق غاية وليس بذل عناية كما هو ثابت قانوناً، فعند إخلاء السبيل يستحق جزء من الأتعاب، وعند البراءة يستحق باقي الرصيد، وعند الاتفاق لم يكن واضحاً من منهم البريء ومن المذنب، ومن المحتمل في حال إدانتهم أن تبقى أتعابه بحدود الدفعة الأولى التي تقاضاها عند تنظيم الوكالة، وبالتالي فإنني أعتقد أن الاتفاق على الأتعاب بهذا الإطار منطقي ومنصف للطرفين.

بعد تنظيم الوكالة بدأ المحامي مهمته فوراً وراجع الأستاذة قاضي التحقيق وأبرز وكالته وطلب الاطلاع على ملف القضية، فأخرجت الأستاذة القضية من درج مقفول وسحبت منها فوراً أقوال الشهود، حيث كانت محتاطة لهذا الأمر سلفاً كما ظهر وأعطت الملف للمحامي ليطلع عليه، ووافقت على تصويره باستثناء أقوال الشهود.


لم يجد المحامي شيئاً جديداً بالملف لم يكن يعرفه سوى لائحة بالمكالمات الصادرة والواردة لموبايل المغدور والسيدة وردت للملف من شركة الموبايلات بناء على طلب المحقق، فتأكد له بأن أي دليل على شبهة ارتكابهم الجريمة لابد ان يكون مستمد من أقوال الشهود، إذ لربما يكون أحد الشهود أدلى بمعلومات تعزز الاشتباه بارتكابهم الجريمة أو التآمر أو التخطيط أو التهديد بارتكابها كأن يكون أحد الشهود سمعهم يتحدثون عن تصفيته أو شيء من هذا القبيل.

سأل المحامي الكبير السيدة القاضي عن إمكانية الاطلاع على أقوال الشهود، وخاصة بعد مضي أشهر على سماعهم وبالتالي لم يعد للسرية جدوى، وأن وأكد لها أن جوهر وروح المادة 70 من قانون الأصول الجزائية يحظر حضور جلسة سماع الشهود، وليس الاطلاع على أقوالهم بعد الإدلاء بها، وأن حجب إفادات الشهود عنه يعيق مهمته في الدفاع عن موكليه، وأنه حينما كان هو بالذات قاضياً للتحقيق منذ عقود لم يكن يسمح بحضور جلسة الشهود ولكنه كان يتساهل بالسماح بالاطلاع عليها بعد فترة، فرفضت السماح بالاطلاع على أقوال الشهود بشكل قاطع!!


نلاحظ في هذه الجزئية كيف يتجلى الصراع الأزلي بين مدرسة عبيد النص وروح النص في تفسير النصوص.

تقدم المحامي للقاضي بعدة بمذكرات دفاع تحدث فيها بالعموميات والمبادئ العامة للتوقيف وعن حضور المدعى عليهم للاستجواب أمام قاضي التحقيق من تلقاء أنفسهم فور علمهم بالادعاء عليهم من والد المغدور، دون الحاجة لإحضارهم بالقوة، مما يدل على عدم ارتابهم للجريمة، كما تحدث عن بيئة المدعى عليهم المثقفة والمكافحة التي تنفي الانحدار بهم للتآمر على ارتكاب الجريمة.


وطلب في إحداها إخلاء سبيل الموقوفين على أمل التمكن من الاطلاع على أقوال الشهود عند قاضي الإحالة، فلم تنفع هذه الطريقة بسبب إرسال الملف مختوماً مع توصية الفتح بالذات، ويبدو أنه كان هناك تنسيق مع قاضي الإحالة لإعادة الملف بنفس الطريقة مع الحرص الشديد بعدم الاطلاع على أقوال الشهود أو تصويرها.
وهكذا وصلت كافة المحاولات المباشرة وغير المباشرة للاطلاع على أقوال الشهود أو تصويرها لطريق مسدود.

فلم يبق أمام المحامي من وسيلة لمعالجة القضية بضوء هذه العقبة سوى إخراجها من يد السيدة القاضي بالعمل على استعجال فصلها سلباً أو إيجاباً، فبدأ المحامي السعي للبت بالقضية على وضعها الراهن سواء بمنع المحاكمة أو بالإيداع لدى قاضي الإحالة، وطلب ذلك من السيدة القاضي صراحة، ولاسيما أن التحقيق كان مؤجل بسبب مراسلة إدارية جانبية ليس لها تأثير يذكر، وشرح لها وضع الموكلين الصعب بانقطاع مورد رزق خمس عائلات بسبب وجود معيلها بالسجن، فتبين له أن السيدة القاضي ليست بعجلة من أمرها لفصل القضية في المدى المنظور.

فحمل المحامي قضيته مراجعاً عدداً من كبار أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وقابل أيضاً وزير العدل في سبيل حث السيدة القاضي على سرعة البت بالقضية سلباً أو إيجاباً، وهذا ما حصل فعلاً خلال أيام حيث فصلت السيدة قاضي التحقيق القضية بإيداع الأوراق لدى قاضي الإحالة للنظر باتهام المدعى عليهم بجناية الاشتراك بالقتل العمد مع جهالة الفاعل المستقل !! (كذا) وفق أحكام المادة 535 عقوبات، وكان تاريخ القرار 18 حزيران 2006 بعد شهر وأربعة أيام من تنظيم الوكالة للمحامي.



 المحامي

كان قرار قاضي التحقيق بمنتهى السوء بالنسبة للمتهمين جميعاً لأنه لم يكتف بالاشتباه بهم بالاشتراك بجناية القتل العمد مع جهالة الفاعل المستقل، وإنما نسب لهم وقائع كاذبة لم ينهض عليها أي دليل بالملف مطلقاً، فقد ورد في حيثيات القرار حرفياً:

((... وباليوم التالي الواقع في 14 / 12 / 2005 ذهب المغدور في الموعد المحدد له مسبقاً من المدعى عليها.......... إلى منطقة الصبورة فوجد المدعى عليهم ......و .......و .......و .......و ........ الذين قاموا بإطلاق النار عليه من مسدسات حربية غير مرخصة، وذلك عدة طلقات أصابته في جسمه وكانت إحداها القاتلة حيث اخترقت قلبه بعد دخولها من الخاصرة اليمنى ....
وحيث أن فعلهم هذا كان بعد ثمرة تفكير عميق وتصميم على قتل المغدور ...... بالرصاص))

هذا الافتراض غير صحيح نهائياً ولا يوجد أي دليل عليه ومن مخيلة السيدة قاضي التحقيق الخصبة بكل معنى الكلمة.
إذ لم يثبت بالملف أن فوارغ الرصاصات القاتلة التي وجدت جانب الجثة تعود لعدة مسدسات كما ورد بقرار قاضت التحقيق.
وبالرجوع لإفادات الشهود بالملف تبين أنه تم الاستماع لحوالي العشرين شاهد، وبتدقيقها جميعاً ظهر أنها كانت تنصب على الأقاويل التي كانت تدور بالبلدة حول تلك العلاقة الآثمة، وبأن فلان قال لي، وسمعت من علتان كذا، ومنذ فترة جرت الحادثة التالية..... وعلى هذا المنوال، ولكن أياً من الشهود لم يدل بأية معلومة تعزز الفرضية التي تفيد باشتراك المتهمين بالجريمة أو التآمر عليها ولو بطريق غير مباشر تؤيد السيناريو الخيالي الذي ورد بالقرار لكيفية ارتكابهم للجريمة.


حطت القضية رحالها عند قاضي الإحالة الأستاذ (نهاد شحادات) الذي أبدى تعاوناً حقيقياً وكبيراً فعلاً، وبدأ المحامي المشوار الطويل بإزالة العقبات التي تقف بوجه حرية موكليه.
فتقدم المحامي بمذكرة مطولة لقاضي الإحالة فنّد فيها القرار التحقيقي وطلب التوسع بالتحقيق وإعادة سماع أقوال بعض الأشخاص من أقارب المغدور وبعض الشهود فاستجاب الأستاذ القاضي لذلك.

بتوفيق من الله تعالى تمكن المحامي من تحقيق إنجاز عظيم وحاسم ومصيري في القضية استطاع من خلاله حسمها لمصلحة موكليه أمام قاضي الإحالة.


حيث تمكن من العثور على الشاهد الملك الذي أماط اللثام عن هذه الجريمة بأكملها وكشف فاعلها وأنقذ موكليه من ظلام السجن....


فأثناء تدقيق المحامي
بأوراق وأدلة القضية ومنها قائمة الاتصالات التلفونية الصادرة والواردة على جوال السيدة بيوم الجريمة تبين تلقيها عدة اتصالات من موبايل المغدور وموبايل أحد أصدقائه، ولكن وقعت عين المحامي على اتصال وردها من رقم غريب لم يحاول أحد تحديد صاحب هذا الرقم وسبب اتصاله بالمتهمة صبيحة يوم الجريمة؟؟

استطاع المحامي بوسائله الخاصة الحصول على اسم ومفصل هوية ومكان إقامة صاحب الرقم، فقام بإيفاد أحد زملائه بالمكتب لمقابلته في مكان عمله وهو محل تجاري، وشرح المحامي له القصة بالتفصيل، وسأله فيما إن كان لديه تفسير لاتصال صادر عن هاتفه منذ أشهر، في صباح يوم الجريمة لهاتف سيدة متهمة بالجريمة.

تحققت المعجزة بتذكر هذا الشخص للاتصال وأنه كان حينها يعمل سائق تكسي وذكر وقائع هامة تميط اللثام عن الجريمة، فسأله المحامي إن كان مستعد للإدلاء بإفادته أمام القاضي فأجاب بالإيجاب، ومباشرة تقدم المحامي بطلب سماع أقواله للأستاذ قاضي الإحالة مع شرح شفهي لصفة الشاهد ومعلوماته، فاستجاب الأستاذ القاضي على الفور حيث أدلى الشاهد أمامه بالإفادة التالية التي ننقلها حرفياً لأهميتها البالغة بحسم القضية:

(( ... إنني وفي السنة الماضية وقبل بداية السنة الحالية وفي وقت لا أتذكره تحديداً وكوني أعمل سائق سيارة عامّة وبالقرب من مشفى الأسد الجامعي ركب معي شاب وقال لي إنه يريد أخذ شقيقته من أمام كلية الآداب، حيث توقفت وإياه أمام كلية الآداب حيث تأخرت شقيقته وطلب جوالي ليتصل بها حيث قان بالاتصال مرتين حيث تكلم في المرة الأولى ولا أذكر إن كان تكلم في المرة الثانية أم مجرد تعليم فقط، وبعد الاتصال الثاني حيث كان يتكلم معها بعصبية قائلاً لها لماذا تأخرت، حضرت الشابة وصعدت معنا بالسيارة وركبت بالمقعد الخلفي وكان ذلك الشاب يركب بالمقعد بجانبي وطلب ذلك الشاب الذهاب من خلال المحلق الجنوبي حيث سألته عن الجهة التي يريد الذهاب إليها فقال اذهب من طريق المحلق الجنوبي.


وعندما سألته عن وجهته ثانية قال لي اذهب بطريق الزبداني، فقلت له لماذا لم تقل ذلك من البداية، فقال لي ليست مشكلة، وبالفعل سلكت طريق الزبداني الاتستراد الذاهب باتجاه لبنان وقبل مفرق الصبورة بحوالي 100 – 200 متر طلب مني التوقف وقال لي إن أهله ينتظرونه في المكان المذكور ونزل هو والشابة التي كانت معه، وحصل خلاف بيني و بينه حول الجرة حيث عتبت عليه أنه بعد أن سمحت له بالاتصال من جوالي لم يعطيني حقي من الأجرة كاملة حيث تعلل أنه ليس لديه فرطة ليعطيني باقي حقي، فغادرت من جسر الصبورة والعودة إلى دمشق، وعند عودتي في الطريق العائد إلى دمشق لم أشاهد الشاب و الشابة التي معه، وإنني أستطيع تحديد المكان الذي أنزلتهم به.

وعندما صعد الشاب كان معه كيس لم أعد أذكر ما بداخله، وإن رقم جوالي هو ....... ومازال رقمي مستمر حتى الآن))


وهكذا أماط الشاهد الذي اكتشفه المحامي من خلال الاتصال الصادر من جواله لجوال السيدة اللثام عن كيفية وصول المغدور للمكان الذي انتقاه بنفسه ولقي به حتفه هو والعشيقة المطلقة المتهمة بالقضية، والتي أضحت المشتبه الرئيسي بارتكاب الجريمة، وبالتالي تمكن من دحض الفرضية التي وردت بقرار قاضي التحقيق أن الجريمة تمت بواسطة كمين واشتراك المتهمين الرجال به.



المحامي


ما أن أدلى الشاهد المعجزة (سائق التكسي) الذي نقل المغدور والسيدة لمكان ارتكاب الجريمة بأقواله أمام قاضي الإحالة، حتى قام المحامي بإجراء أول اتصال بالسيدة المتهمة في القضية والتي باتت الأدلة تشير بوضوح لارتكابها الجريمة، فأرسل إليها حيث تقيم في سجن النساء أحد زملائه المحامين في المكتب، الذي قابلها وأطلعها على آخر التطورات بالقضية لجهة سماع شهادة سائق التكسي الذي أقلّها مع المغدور، وأنه هو صاحب الرقم المجهول الذي اتصل على جوالها يوم وقوع الجريمة، وقال لها بمنتهى الوضوح أنه بهذه الشهادة فإن الدليل على ارتكابها هذه الجريمة يكاد يكون قاطعاً، وأن اعترافها بها مع بيان الأسباب التي دعتها لارتكابها، بالنظر للأفعال القذرة والحقيرة التي قام بها المغدور معها ومع والدها وأسرتها، والثابتة بأقوال مختلف الشهود في القضية ستلعب دوراً حاسماً في تخفيف العقوبة عنها لحدها الأدنى لأن الدافع الذي دعاها لارتكاب الجريمة ينطبق على الدافع الشريف.

وعرض عليها المحامي في حال تعاونها واعترافها بالجريمة استعداده لتوكيل محام للمرافعة عنها بكل طاقته وبإشرافه شخصياً وبدون أي مقابل مادي، وتركها لتفكر بالموضوع لمدة يومين إذ انها لم تبد أي ردّة فعل أثناء الحديث سوى الإطراق والنظر إلى ما لا نهاية، ولكن شعر المحامي الذي قابلها بالسجن، من خلال نظراتها البعيدة والأنفاس العميقة أنها تريد أن تزيح عبء يثقل كاهلها.

وبالفعل بعد يومين عاد المحامي وقابل السيدة فوجدها مرتاحة منفرجة الأسارير، استقبلته بابتسامة وادعة قائلة له الكلمة السحرية:
- حسناً سأعترف.....
وتنفست الصعداء وبدأت والدموع تفيض من عينيها تزيح الجبل الجاثم على كاهلها وسردت قصتها مع الوحش البشري الذي لم يترك قيمة إنسانية تحملها إلا وانتهكها بمنتهى الجبروت حتى اللحظة الأخيرة من حياته بحيث لم يبق أمامها من خيار سوى الإطباق على أنفاس الوحش.

بعدما أفرغت ما في جعبتها سألت المحامي عما ينبغي عليها فعله فأشار عليها بأن تكتب مذكرة لقاضي الإحالة تدون فيها قالته له الآن وترسلها عن طريق السجن بالبريد وسيتولى هو الباقي، وهذا ما حصل فعلاً كتبت مذكرة من ثلاث صفحات تعترف فيها بالجريمة ووقّع عليها مدير السجن وأرسلت للأستاذ قاضي الإحالة.

ما أن وقعت عينا القاضي على المذكرة حتى حدد موعد لاستجوابها وحينما حضرت أخبر المحامي العام بالموضوع وكان حينها الأستاذ (أحمد عرموش) الذي كان متابعاً للقضية منذ أن كانت تحت يد قاضي التحقيق، وسأله فيما إن كان يرغب بحضور استجوابها فوافق.

بدأ الاستجواب باعترافها بتوجيه المذكرة من السجن التي اعترفت فيها بارتكاب الجريمة بملئ إرادتها وبدون أي ضغط أو إكراه من أحد، ثم تحدثت عن اتصال المغدور المتكرر بها صبيحة يوم الجريمة، وحضوره لمكان عملها بالتكسي وكيف ضغط عليها لتذهب معه وتطابقت أقوالها مع أقوال سائق التكسي في هذه الناحية، وعن خلافه مع سائق التكسي على الأجرة، وتابعت قائلة حرفياً:

(( ... جلسنا تحت إحدى الأشجار حيث قال لي:
كلما قلت لك انزلي يجب عليك أن تنزلي، كما أنزلتك هذه المرة بالاتصالات، ويجب أن تنزلي (بالصرماية).
وطلب مني أن يجامعني وقال: لا أحد سيشاهدنا هنا، وقال لي: كما طبقت لزوجك (سي دي) سابقاً سأطبق لك (سي دي) مثله كونه معي صورة لك، وسأنشر هذا الـ (سي دي) في العائلة وفي مكان عملك.


هنا فقدت أعصابي وأخرجت مسدساً كان بحقيبتي النسائية وأطلقت النار باتجاهه حيث كان متكئاً على إحدى يديه ويمد رجله على الأرض، وأذكر أني أصبته في البداية برجله وبعد إصابته في رجله رفع يده في وجهي وقال: لا.... وحاول النهوض فلم يستطع كوني قد أصبته، حيث تابعت إطلاق النار باتجاهه، كوني كنت بحالة عصبية فقدت بها السيطرة على نفسي حتى انتهت الطلقات التي كانت في المسدس ست طلقات، وأذكر أني أطلقت حتى فرغ مخزن المسدس من الطلقات، وأني لم أنتبه للمناطق التي أصبته فيها فيما بعد الطلقة الأولى، حيث اتجهت للطريق القريب من المكان ركضاً بعد وضع المسدس في الحقيبة، حيث ركبت في سرفيس الصبورة المتجه إلى دمشق، حيث نزلت أمام مبنى المخابز الاحتياطية في محلة المزة وركبت سرفيس جوبر استراد مزة وعدت إلى مكان عملي، وإني عندما غادرت المكان لم أنتبه إلى ..... أنه كان قد فارق الحياة أم لا ولم أشاهد دماء، وكما قلت لكم كنت في حالة عصبية لذت بالفرار فوراً .....))
ثم تحدثت عن كيفية حصولها من المسدس حيث اشترته قبل أشهر من بائع (بسطة) في منطقة البرامكة فقد أقنعته أنها تعمل لوقت متأخر من الليل وتريده لحماية نفسها فقام بتأمينه لها بعد يومين بثمن 28 ألف ليرة، وأن الطلقات القاتلة كانت موجودة بالمسدس منذ تاريخ شرائه.
وقالت إنها اتبعت في السابق دورة كتائب مسلحة وتعرف كيفية استخدام السلاح.
وعندما سئلت عن مكان المسدس حالياً، فقالت إنها دفنته بعد الجريمة بجانب دالية العنب في حديقة منزل أهلها.
وسئلت إن كانت قد أخبرت أحد بارتكاب الجريمة، فقالت إنها أخبرت أهلها ومختار القرية من هاتف السجن، وأنها تعرفت في السجن على موظفة في القصر العدلي موقوفة بجرم رشوة فصارحتها بارتكابها للجريمة، فنصحتها أن تعترف وتذكر الأسباب حتى تستفيد من تخفيف العقوبة.

بعد هذا الاعتراف قام القاضي بإرسال دورية لإحضار المسدس من منزل الأهل، فوجدته مدفوناً في نفس المكان الذي دلّّت عليه السيدة القاتلة وكان يكسوه الصدأ، فقرر القاضي إجراء الخبرة الفنية عليه لمعرفة فيما إن كان هو المسدس المستخدم بالجريمة بدلالة فوارغ الطلقات التي وجدت بجانب الجثة، وبالفعل وردت الخبرة الفنية من إدارة البحث الجنائي تثبت أن المسدس نفسه.

كما قام القاضي بالانتقال لمكان الجريمة برفقة المتهمة وسائق التكسي (الشاهد) الذي دلّ على المكان الذي أنزلهم به قرب جسر الصبورة، وقامت المتهمة بتمثيل الجريمة في ذات المكان الذي وقعت به والذي أرشدتهم إليه بنفسها.

كما قام القاضي بإحضار الموظفة الموقوفة بسجن النساء التي ذكرتها المتهمة بإفادتها السابقة، كشاهدة فأكدت له أن المتهمة اعترفت لها في السجن بارتكاب الجريمة بالكيفية التي وردت بالإفادة.

اتعاب المحامي


إزاء هذه التطورات المثيرة ارتبكت جهة الادعاء الشخصي (والد المغدور) فتقدم بمذكرة طاعناً فيها بالاعتراف، قائلاً بأنه مكيدة القصد منها أن تتحمل المتهمة الجريمة لتنقذ طليقها وأشقائه.

وتقدمت جهة الادعاء الشخصي بفرضية جديدة تزعم فيها أن الجريمة تمت بمكان آخر!! وتم نقل الجثة للمكان الذي عثر عليها فيه في منطقة الصبورة، واستندت في اقوالها لصور الجثة المحفوظة بالملف، والتي لا تشير لوجود دماء، وبدأت تشكك بالاعتراف سائلة عن مصير الدماء، وهل يعقل أن يقتل إنسان بالرصاص ولا ينزف دماً !!

فقام المحامي الوكيل بالتصدي لهذه النظرية البدعة وتفنيدها، فاستحصل على كتاب من مديرية الأرصاد الجوية يؤكد هطول أمطار كثيفة في المنطقة التي وقعت فيها الجريمة بالليلة السابقة، وهذا يدلّ أن التربة الرطبة امتصت الدماء النازفة.

كما قام المحامي بالحصول على معلومات علمية حول النزف من بعض الأطباء من معارفه تفسر عدم انتشار بقعة واسعة من الدماء، وعرض هذه المعلومات العلمية على القاضي مع كتاب مديرية الأرصاد.
فقام القاضي بالاستيضاح من الطبيب الشرعي الذي كشف على الجثة عن هذه المسألة فقدم الطبيب تقريراً علمياً فنياً مفصلاً يفسر فيه هذه الظاهرة لجهة سرعة تخثر الدماء حسب درجة حرارة الجو، ناهيك عن أن ملابس المغدور العديدة غبّت معظم الدماء إذ أن الفصل كان بمنتصف الشتاء وكان يرتدي كنزتين من الصوف بدل واحدة كما هو ثابت من وصف الجثة.
وبالإضافة لذلك قام القاضي باستدعاء الطبيب واستمع لتوضيحه بشكل شخصي، وأكّد الطبيب من خلال خبرته أن الجريمة وقعت بنفس المكان الذي وجدت الجثة به.


وهكذا استطاع المحامي بجهد استثنائي وبفضل التعاون الكامل والمشكور من قاضي الإحالة الأستاذ (نهاد شحادات)، حل لغز الجريمة وإثبات عدم براءة موكليه منها، وأضحى الطريق ممهداً أمامهم نحو الحرية.



lawyer


بعد انتهاء التحقيق الموسع أمام قاضي الإحالة استشعر المحامي أن الوقت وملابسات القضية والأدلة الجديدة فيها باتت تسمح بالتقدم بطلب لإخلاء سبيل موكليه، فتقدم للقاضي بمذكرة طويلة في 4 تشرين الأول 2006 طالباً فيها إخلاء سبيل موكليه.

عُرض طلب إخلاء السبيل على المحامي العام الأستاذ (أحمد عرموش) لإبداء الرأي فأجاب بأن النيابة العامة ليس لديها مانع من إخلاء سبيلهم، وهذه واحدة من أندر الحالات التي تثبت فيها النيابة العامة أنها خصم شريف، إذ جرت العادة أن النيابة ترى (ردّ الطلب) كما هو معروف، وهكذا أخلي سبيل الموكلين جميعاً دفعة واحدة بعد ثلاثة أشهر ونصف من صدور قرار قاضي التحقيق ضدهم، تخللها شهر ونصف عطل قضائية، أي أن العمل الفعلي لإثبات براءتهم وإخلاء سبيلهم استغرق شهرين وهو زمن قياسي بالنسبة لمتهمين بجريمة قتل عمد.

لم يكتف المحامي بممارسة مهمته من الناحية القانونية، وإنما مارس دوراً اجتماعياً في القضية بعد إخلاء سبيل موكليه، حيث كانت له مساهمة فعالة في جهود المصالحة التي جرت بمساعي أهل الخير بين عائلة المغدور وعائلة المتهمين، حتى يتم تطويق الآثار الاجتماعية السيئة للجريمة في مجتمع ريفي مغلق ومحافظ، وبالفعل تمت المصالحة بين العائلتين بعد حوالي ثلاثة أشهر من إخلاء سبيل الموكلين، وبتاريخ 7 كانون الثاني 2007 أسقط والد المغدور الحق الشخصي عن المتهمين جميعاً بما في ذلك السيدة القاتلة.

عندما أرسل قاضي الإحالة الملف للمحامي العام لإبداء مطالبته فيه تمهيداً لفصل القضية، أثبت ثانية المبدأ الشهير بأن النيابة العامّة خصماً شريفاً وطلب منع محاكمة الموكلين في واحدة من أندر الحالات التي تشهدها المحاكم في القضايا الجزائية.
بالفعل صدر قرار قاضي الإحالة بتاريخ 24 نيسان 2008 بمنع محاكمة الموكلين، واتهام السيدة بجرم القتل قصداً وفقاً لأحكام المادة 533 ع .ع وليس جرم القتل عمداً كما طالب قاضي التحقيق.


بعد أربعة أشهر في 26 آب 2008 أصدرت محكمة الجنايات حكمها بحق المتهمة بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة وللأسباب المخففة التقديرية تخفيض العقوبة لمدة سبع سنوات ونصف.


وهكذا أسدل الستار على القضية من الناحية القانونية، وانتهت المهمة التي توكل فيها المحامي وأنهاها على أكمل وجه، وبدأت معاناته في تحصيل بقية أتعابه المتفق عليها.

لقد استعرضنا وقائع هذه القضية بشيء من الإسهاب وقمنا بتصويرها من زاوية محامي الدفاع فقط، وأغفلنا بعض التفاصيل الصغيرة بدون أن نخلّ بالسرد لأننا لم نسرد القضية من زاوية المتهم، أو من زاوية القاضي المحقق، أو من زاوية جهة الادعاء، ولا حتى من زاوية الروائي أو القاص الذي يهتم بالحبكة والتفاصيل والتشويق.

لقد تقصدنا تسليط الضوء على الجهد الخارق الذي بذله المحامي في القضية، والإنجاز الذي حققه لمصلحة موكليه لأنها من المعايير الأربعة الرئيسية في تقدير أتعاب المحامي.

الأخوات والإخوة الكرام:

لا أريد إظهار المحامين كشريحة مظلومة في تحصيل أتعابها، فأنا أعي تماماً نظرة المجتمع لأتعاب المحامي، ولكن بالرغم من هذه النظرة التي فيها الكثير من المبالغة، يجب أن يعلم الناس أنه لا يوجد محامي على الإطلاق، لم يلق موقف مجحف من موكل بموضوع الأتعاب.

أريد أن أكرر العبارة ثانية على الملأ:


لا يوجد محامي على الإطلاق، لم يلق موقف مجحف من موكل بموضوع الأتعاب.

وهذا ما يفسر الغالبية العظمى من المواقف السلبية التي يشكو منها الناس من محاميهم.

وسنتحدث في الجزء الأخير القادم الحديث عن هذا الموضوع من الناحية المهنية والقانونية إن شاء الله


المحامي عارف الشعال / سوريا



هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع