القائمة الرئيسية

الصفحات

التسامح الإنساني في فكر الثورة الحسينية بقلم الدكتور علي سعد عمران معهد العلمين للدراسات العليا



التسامح الإنساني في فكر الثورة الحسينية 
بقلم الدكتور علي سعد عمران . معهد العلمين للدراسات العليا

التسامح الإنساني في فكر الثورة الحسينية 
بقلم الدكتور علي سعد عمران . معهد العلمين للدراسات العليا

شهد التاريخ الإنساني كثيراً من الثورات ومنفذيها من الثوار , وأحداثاً غيّرت مسار التاريخ , ولكنها خضعت ـــ في نهاية المطاف ـــ الى قوانين الزمن في التوهج والأفول، والانزواء، وانحسار الضوء عنها شيئاً فشيئاً. ولم يخرق هذه القوانين غير الحسين (عليه السلام) , وما كان ذلك إلا نتيجة طبيعية تتناسب مع مكونات شخصية الحسين(عليه السلام) , وتراثها الإنساني والمعرفي، وايمانه الراسخ بحق الإنسان في العيش حراً كريماً . فضلاً عن دماثة أخلاقه وصدقه ونبله، الذي ظهر بوضوح في تلك الظروف الصعبة , فقد أوضح غرضه وهدفه على الجميع، من دون استثناء فبرزت عنده ظاهرة "عدم الالتواء بالفكر" لذلك انتمى له كل من جاء من بعده من الثوار والمناضلين، في سبيل حرية الإنسان وحفظ كرامته .
إن ما نشهده اليوم من حالة عدم التسامح ـــ في مجتمعاتنا الاسلامية والعربية ـــ إنما هو نتيجة طبيعية لتحكيم مبدأ العنف والتطرّف على مبدأ التسامح . لذلك سنوضح الفكرة محل البحث في الفقرتين الآتيتين :
أولاً : مفهوم التسامح : يشير مصطلح التسامح الى التساهل واللين , ومن مدلولاته الحلم والعفو والمسامحة والرفق , وينظر الى التسامح على انه احترام متبادل بين الأفراد والآراء واظهار الأدب في القول والفعل .
       وبذا يمكننا القول إن التسامح هو التزام ضابط التوازن والاعتدال في مخاطبة الآخرين، والتعامل معهم نظرياً وعملياً على أساس منهج موضوعي مرن، من دون انتظار مقابل أو جزاء .
       تظهر غاية التسامح في الانفتاح على الآخر وإشاعة الخير والمعروف، ونشر ثقافة الحوار، ونبذ التعصّب والصراع واحترام كرامة الإنسان , والعيش السلمي المشترك بين الأديان والفلسفات والمذاهب والقيم الأخلاقية السامية , وزرع الثقة والطمأنينة بين الناس .
       يجد الأصل التاريخي في أوربا لكلمة (التسامح) موضعه في كتاب "جون لوك" الموسوم ب"رسالة في التسامح" عام 1689 الذي جاء فيه "ان التسامح جاء كرد فعل على الصراعات الدينية المتفجرة في أوربا" . وبذلك كان أصل الكلمة أصلاً دينياً.
       غير أن التسامح ما لبث أن تجاوز حدود الدين، ليقترن بحرية الفكر وبدأ ينضوي تدريجياً تحت منظومة من المضامين الاجتماعية والثقافية .
       ولأهمية موضوع التسامح، وأثره في العيش السلمي داخل المجتمعات الإنسانية المعروفة بتنوعها الديني والثقافي والاجتماعي , فقد أعتُمد يوم 16 تشرين الثاني من كل عام للاحتفال بيوم التسامح العالمي , وقد جاء ذلك في الاعلان الذي أعتمده المؤتمر العام لمنظمة (اليونسكو) عام 1995 .
       على أن للتسامح حدود تتمثل بعدم مخالفة النظام العام للدولة والمجتمع، أو كما يقال: (عدم التسامح مع غير المتسامحين) أو (لاضرر ولا ضرار) , ولعل التنظيمات الإرهابية التي نشهدها اليوم من المصاديق الحية لحدود التسامح .
       مثلما شغل "التسامح" عقول المفكرين والمصلحين , فهو قد شغل فكر الحقوقيين كذلك،  لأن "القاعدة القانونية قاعدة سلوك اجتماعي" , ومن ثمّ اهتم الفكر القانوني في شتّى الدول، بتنظيم هذا المبدأ الانساني العظيم، في النصوص القانونية وايجاد مرتكزاته في الدساتير , ويمكننا القول إن المرتكزات الاساسية لهذا المبدأ في الدساتير الوضعية تتضح من خلال: (الاقرار بمبدأ المساواة بين الناس في شتى مجالات الحياة والاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية في المجتمع , فضلاً عن الاقرار بالحقوق والحريات في صلب الوثيقة الدستورية وايجاد ضمانات حقيقية لها).
ثانياً : التسامح الحسيني فكراً وعملاً : لم يكن خروج الحسين (عليه السلام) من أجل اشاعة الشر أو الفساد في المجتمع؛ بل هو خرج من أجل الانسانية وإصلاح احوال مجتمعه برمّته، في شتى مجالاته السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية , ولعله عبّر عن ذلك بكلماته الخالدة: (اني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً , وانما خرجت لطلب الاصلاح ...أريد ان آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر..) , فالحسين (عليه السلام) ثار من أجل الإنسانية ، وخرج لإحقاق الحق، ونبذ الباطل. وفي سبيل تحقيق ذلك نجده قد ضحّى بالغالي والنفيس، بل وصل الحالب= به الى التضحية بنفسه، وذلك اقصى غاية الجود . فإن قضية الحسين (عليه السلام) كانت ولا تزال تدافع عن الإنسانية، وتنصر المظلوم، وتدحر كل ظالم، وهي القضية التي هزّت مشاعر الإنسانية وضميرها ، لتفيقها من سباتها .
       إذا كان للتسامح مفهوم اجتماعي واخلاقي، تدعو له الأديان جميعها، كما دعا اليه الأنبياء والمصلحين من قبل، لما يؤدي اليه من تحقيق التعايش السلمي المجتمعي , فإن هناك فرقاً فيما بينه وعدم الاكتراث أو اللامبالاة . وقد أوضح الحسين (عليه السلام) هذا الفرق في ثورته المباركة , وخطّه بدمه ودماء أهل بيته وأصحابه , ففي الوقت الذي كان الحسين (عليه السلام) متسامحاً فهو لم يكن غير مكترث بأمور المسلمين، ونجد غيرته وحميته على الاسلام ومبادئه السمحاء، وقيمه العليا التي أضحت في مهب الريح .
       ولعل هذا الفرق سيتضح من خلال إيرادنا بعضَ التطبيقات التي سردها لنا التاريخ، التي تظهر التسامح عند الحسين (عليه السلام) في عاشورائه , والفرق سيتضح جلياً بين ثورته، وعدم الاكتراث أو اللامبالاة .
1.   سقايته الماء للحر بن يزيد الرياحي وجماعته بيديه الكريمتين , بعد أن جعجعوا به في الطريق الى كربلاء . (إن صح القول بان الحر لم يكن من انصار الحسين ابتداءً) .
2.   محاولاته العديدة قبل بداية المعركة , في ارشاد الجيش المعادي له الى طريق الله ونصحهم , وهو ما اجتهد به الحسين (عليه السلام) كثيراً , واستشهد بالأدلة المادية الملموسة لإرجاعهم الى جادة الحق والصواب . أي أن الحسين (عليه السلام) اتخذ طريق الحوار معهم , هذا الطريق الذي يمثل صورة من صور التسامح مع الأطراف المختلفة , لا بل نجده كان يأمر أصحابه جميعهم باتخاذ هذا المنهج سبيلاً لهم قبل القتال .
3.   عدم ابتدائه القتال مع اعدائه –وهذا هو منهج ابيه علي بن ابي طالب ومن قبله جده الرسول الامين – حتى قاموا هم باتخاذ أفعال مادية جرمية بلغة القانون اليوم , التي ظهرت من خلال رشقه واصحابه بالنبال , وحتى مع بداية القتال نجده يحاورهم وينصح لهم بالكف عمّا هم فاعلون، والانتباه الى ما هم عنه غافلون .
4.   بكائه وحزنه (عليه السلام) على تلك الفئة الضالة التي همّت بقتاله واتجهت له ، لجهلهم بما ينتظرهم من عذاب دنيوي وآخروي , وذلك بسبب قتلهم إياه . وهذا الموقف النبيل يربينا ويروض أنفسنا على الرحمة والرأفة، والتسامح والعفو حتى عن الأعداء: (ورأيتك النفس الكبيرة لم تكن حتى على من قاتلوك حقوداً).
لقد صاغ الحسين (عليه السلام) مبدأ التسامح وجسده في مواقفه مع اعدائه في تلك الظروف الصعبة للغاية , فقد كان يواجههم بالكلمة الطيبة والنصيحة، وهم يواجهونه بالسلاح والقتال .
       فيجب علينا ــ عند استذكارنا لثورة الحسين (عليه السلام) ــ ألّا نتوقف عند الجانب التراجيدي للواقعة , بل علينا أن نستلهم العبر والمثل العليا التي أراد منا الحسين ان نطبقها في مجتمعاتنا , وان نستذكر تلك الاخلاق الرفيعة التي انماز بها ، وذلك الحلم والرفق في التعامل مع الآخرين، وإن اختلفوا معنا في العقيدة , وان نستذكر تلك السماحة التي انماز بها (عليه السلام) وهو في أشد الظروف وأصعبها .
قال الشاعر :
وضعنـــــــــاك بالأعنــاق حزّاً وإنما                  خُلقت لأن تُمضى حُساماً فتشرعُ
وصغناك من دمعٍ وتلك نفوسنا                 نـــــصوّرها لا أنـــــــت انـــــك ارفــــــــــــــــــعُ     
        
  

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع