القائمة الرئيسية

الصفحات

خواطر في الشان الدبلوماسي الدكتور حيدر أدهم الطائي


خواطر في الشان الدبلوماسي
الدكتور حيدر أدهم الطائي



خواطر في الشان الدبلوماسي
 الدكتور حيدر أدهم الطائي

حكايات هذا العالم كثيرة يلتحف النسيان بعضها الى الأبد رغم أهميتها لأنها تشكل جزءً من حقيقة العالم الذي نعيش فيه, وحقيقة الانسان في كل زمان ومكان, وهذه الحكايات تشبه أفاضل الناس, وأفاضل الناس كما يقال:( لا تأريخ لهم) في حين يطفو البعض الآخر منها على السطح رغم أنف الكثيرين شاء من شاء وأبى من أبى, ولا فاصل في عالم السياسة أو معيار لتمييز الصالح من الطالح على ما أظن رغم أن بعض الظن إثم.
على كل حال, هذه سطور أردت من خلالها أن أبرز بعض الاجابات ذات الطبيعة الدبلوماسية يعني باختصار والى حد ما  - يوديك للشط ويرجعك عطشان – فالحديث في الشأن الدبلوماسي أو عنه - بالنسبة لمن لم يدخل هذا العالم, وأنا واحد من هؤلاء حتى هذه اللحظة- له جاذبية متميزة, إنه يشبه الحديث عن المشاعر الانسانية الدافئة أو لأكن أكثر صراحة في التعبير وإستخدام المفردة فأقول إنه يشبه الحديث عن "الحب" لكن ليس على طريقة صديقي العزيز "علي المالكي".
الشاعر الكبير الغائب الحاضر نزار قباني يقول في سطور كتبها تحت عنوان "حبيباتي" : (ما كل امرأة عرفتها حركت رياح الشعر في داخلي, ولا كل علاقة نسائية فتحت شهيتي الى الكتابة. كثيرات من النساء ذهبن من حياتي كما أتين.... ولم يتركن وراءهن حرفاً.... ولا فاصلةً... لست حكيماً صينياً لأخبركم عن السر. ولكنني من خلال تجاربي, تعلمت أن المرأة – الشعر هي التي تترك شرخاً وإرتجاجاً في قشرة دماغي, هي التي تحدث خلخلة في إيقاع أيامي, وفي نظام الأشياء من حولي ....وإنني لأعترف هنا, إن النساء اللواتي أحدثن كسراً في زجاج حياتي, لا يتجاوز عددهن أصابع اليد.. أما الباقيات فلم يتركن سوى خدوش بسيطة على سطح جلدي. وأود هنا أن أرسم خطاً بين من أحببتهن فعلاً من النساء, ومن توهمت أنني أحببتهن.. هذا التفريق بين الحب ووهمه, بين ضوء الشمعة وبين الشمعة, شيئ أساسي. فالحب عاطفة متداخلة ومشتبكة كألوان قوس قزح. ومن الصعب في بعض الحالات على العاشق أن يكتشف في أي منطقة من مناطق اللون هو موجود ... إن أي حب لا يحدث ضمن حركة التأريخ, يبقى دائماً خارج التأريخ.. لذلك كان حبي مرة دمشقياً, ومرة بيروتياً, ومرة بغدادياً.. لأنني أريد أن أبقى هنا, وأكتب شعراً هنا, وأعشق هنا.. وأموت هنا...).
لن أستمر بالاقتباس من إبداعات شاعرنا الكبير, فانا أشعر أنني أظلمه لكوني أنظر الى زوايا من لوحة رسمها بقلمه, وعلى من يريد المزيد من الخمر الحلال شراء الأعمال النثرية الكاملة للشاعر حيث سيجد هذه القطعة في الجزء السابع منها.
الشاعر الجاهلي والفارس العاشق عنتره بن شداد العبسي يقول:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني    وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت   تقبيل  السيوف   لانها     لمعت كبارق ثغرك  المتبسم
انطونيو في مسرحية كليوباترا لأحمد شوقي أيضاً يعبر عن المعنى ذاته, فهؤلاء الفرسان لا يستطيعون نسيان الطرف الآخر حتى في أشد ظروف المعركة قسوة.
وبالعودة الى جوهر موضوعي الذي يذكرني بضحكة مجلجلة أطلقها أحد الأصدقاء, وهو تدريسي في اإحدى كليات العلوم السياسية, بعد أن قرأ لي شيئاً من هذياني السياسي قال: "هذه رومانسية سياسية, هذا غير ممكن يا دكتور". ولا أعرف حتى هذه اللحظة ما سيقول غدا اذا قدر له أن يقرأ هذه السطور ربما سيصف المكتوب بانه دبلوماسية الحب, وسأقبل ذلك على إعتبار أن دبلوماسية الحب أكثر تشويقاً من دبلوماسية كرة المنضدة التي لجأ اليها التنين الصيني قبل سنين مضت. إذن سنكون أمام نصف هذيان, فالدبلوماسية نصف السياسة, بل ربما تكون أكثر من كل السياسة بمعناها الميكيافيلي, بدليل أن دبلوماسياً بريطانياً شهيراً هو هنري واتن كان يقول: (الدبلوماسي رجل شريف يوفد الى الخارج ليكذب في سبيل مصالح البلد الذي يمثله) ومن الضروري في هذا السياق أن أذكر إن مثل هذا القول يقع بالضد من الدبلوماسية الحقيقية التي تتمسك في جوهرها بمضمون أخلاقي رفيع, أما الدبلوماسية غير الأخلاقية التي عبر عنها هنري واتن فكان جزائها على يد الملك جيمس الأول الذي طرد هذا السفير رغم تأكيداته بأنه أطلق هذه العبارة من باب النكتة.
قول آخر إطلعت عليه في تعريف الدبلوماسية بطريقة مميزة, ولم أعد أذكر القائل, فالدبلوماسية: هي أن نقول كل شيئ نريده على شرط أن لا يفهم أحد حقيقة ما نعني.
الصراحة في الدبلوماسية مطلوبة في بعض الأحيان, فهذا دبلوماسي ياباني يخاطب الغربيين مطلع القرن العشرين قائلاً: (لقد أظهرنا أننا نتساوى معكم على الأقل في علوم الدمار, وعندما تحقق ذلك سمح لنا على الفور أن نجلس على موائدكم باعتبارنا من المتحضرين)
أقول أيضاً بوجود جمل ومعاني تحمل الكثير من الدبلوماسية التي أعتقد أنها تعني الاخلاق, والتهذيب , والكلام أو النقد لكن بطريقة غير مباشرة فضلاً عن التفاؤل, ومن الأمثلة على ذلك ما نطق به توماس ألفا أديسون فهو القائل:(لن أقول أني فشلت ألف مرة, بل سأقول لقد أكتشفت ألف طريقة تؤدي الى الفشل)
قد يقول البعض وأين التراث العربي من الدبلوماسية أو ما يقترب منها ؟ ألا توجد إشارة تستحق الذكر ؟ فأقول: نعم حيث يذكر ابن الفراء صاحب كتاب "رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة" أشياء عن الدبلوماسي وما ينبغي أن تتوافر فيه من الصفات: (إختر لرسالتك, في هدنتك وصلحك ومناظرتك والنيابة عنك رجلاً حصيفاً بليغاً حولاً وقلباً, ذا رأي جزل وقول فصل ولسان سليط , وقلباً حديد قليل الغفلة ومنتهز الفرصة, سامياً لما يستدعيه إليك, ويستدفعه عنك, إن حاول جر أمر أحسن اقتلاعه وإن رام دفعه أحسن رده, حاضر الفصاحة, مبتدر العبارة ظاهر الطلاقة وثابتاً على الحجج مبرماً لما نقض خصمك ناقضاً لما أبرم ذو وجه سمح بالقاء شديد بالنداء)
أما الواقدي فيروي عن قريش أنها أوصت أحد مبعوثيها بالآتي: (إحفظ شيئاً, إنتهز الفرصة فانها خلسة, وبت عن رأس الأمر لا ذنبه, وإياك وشفيعاً مهيناً "فانه أضعف وسياة" وإياك والعجز فانه أوطأ مركب. وعليك بالصبر فانه سبب الظفر, ولا تخض الغمر حتى تعرف القدر)
وعلى مستوى الممارسة الاسلامية هناك أسلوب يتبع في كيفية مخاطبة الخلفاء, ففي عهد الخليفة المعتزلي المأمون (170 –  218 هجرية) يأتي الى بغداد (زعيم المانوية من مجوس فارس يزدانبخت, فيناظره المتكلمون المسلمون ويفحمونه, ويتوق الخليفة الى أن يسلم يزدانبخت, ويفاتحه في ذلك فيرفض الرجل, في أدب, قائلاً للخليفة: نصيحتك, يا أمير المؤمنين مسموعة, وقولك مقبول, ولكنك ممن لا يجبر الناس على ترك مذهبهم ! فيتركه الخليفة وشأنه, بل ويطلب حمايته من العامة حتى يبلغ مأمنه بين أتباعه وأنصار مذهبه) وهذه حادثة تكرس احترام حرية العقيدة في ظل حكم احد اقوى الخلفاء العباسيين, واكثرهم ثقافة.
وفي الفترة التي سبقت ظهور الاسلام تشير كتب التأريخ العربية الى أن النعمان ملك الحيرة كان قد بعث بجماعة من كبراء العرب, وعلى رأسهم أكثم بن صيفي الى كسرى للدفاع عن العرب وإبراز مآثرهم, وقد أحسن أكثم في أداءه للمهمة التي بعث من أجلها أمام ملك الفرس, فخطبته أمام كسرى إشتملت على نوع من النقد غير المباشر للأخير, كما إشتملت على مدح أكثم لنفسه وللعرب أبناء جلدته, ولكن بصورة غير مباشرة أيضاً, وهي مقارنات خفية بين العرب والفرس, وتقول الرواية: (إن كسرى تعجب من أكثم ثم قال: ويحك يا أكثم ! ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه. قال أكثم: الصدق ينبأ عنك, لا الوعيد. قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى. قال أكثم: رب قول أنفذ من صول)
إن الذي يبدو من هذا الحوار ان كسرى جعل ثناءه لحكمة أكثم ممزوجة بلهجة التهديد والوعيد عندما قال: "لولا وضعك كلامك في غير موضعه" فرد أكثم بما يحرج كسرى فقال: (الصدق ينبئ عنك لا الوعيد) أي أن ما يعبر عن جوهر أخلاقك هو مديحك في حقي لا تهديدك الذي لا أعيره اهتماماً لأنه لا يليق بك, وهنا إعترف كسرى لأكثم بالحكمة, وسحب تهديده قائلاً: (لو لم يكن للعرب غيرك لكفى). ويرد أكثم بالقول: (رب قول أنفذ من صول). أي أنك قد كسبت صداقة العرب التي لم تكن لتحصل عليه بالقوة والتهديد (التعليق للمفكر العربي محمد عابد الجابري)
التأريخ العربي في الأندلس يذكر لنا أيضاً يحيى بن الحكم البكري الجياني (156 – 250 هجرية) الشهير بلقب يحيى الغزال, وهو شاعر أندلسي ينتمي لأسرة عربية أصيلة عاصر خمس أمراء للدولة الأموية في الأندلس إبتداءً من عبد الرحمن الداخل وإنتهاءً بمحمد بن عبد الرحمن, وسمي بالغزال لجماله وظرفه وتأنقه. كلفه الأمير عبد الرحمن الأوسط سنة 225 هجرية بسفارة الى بلاط الامبراطور البيزنطي ثيوفيلوس راداً بذلك على سفارة أرسلها الأخير للأول بعد هزيمة البيزنطيين في معركة عمورية أيام المعتصم  ابن هارون الرشيد. كما أرسل يحيى الغزال في سفارة أخرى لبلاط ملك النورمان (الدنمارك) في رحلة إستغرقت عشرين شهراً عام 232 هجرية.
أخيراً أقول: ربما كان من الضروري للغاية أن تسعى البعثات الدبلوماسية الى تقديم الشاي المعد بطريقة رومانسية بحيث يكون طعمه متمتعاً بهذه الميزة – والحق اقول ان اعداد القهوة يجري بطريقة متميزة للغاية في معهد الخدمة الخارجية حتى انني احرص, وهذا اعتراف مني, على ان اتواجد في اكثر من غرفة اثناء حضوري الى بناية المعهد لاغراض اكاديمية لكي يتسنى لي  تناول اكبر عدد ممكن من فناجين القهوة الشهية, وقد اخبرت زميلي الدكتور احمد عبد الرزاق انني افكر في الدخول الى مطبخ المعهد لسرقة كمية من هذه القهوة المميزة لكن علينا اولا ان نتاكد من عدم وجود كاميرات للمراقبة لكي لا ينفضح امرنا, والعياذ بالله, والحقيقة انني لم اكن يوما من الايام من الذين يحبون تناول هذا المشروب الاسود اللون الا بعد ان اكتشفت طعمه في المعهد المذكور- اما إعداد الشاي بالطريقة الرومانسية فهو سر لن أخبر به إلا امرأة واحدة فقط, وهو ما سيتحقق إذا ربحت. ألم يكن الديكتاتور الألماني أدولف هتلر يقول:(إذا ربحت لا حاجة للشرح, وإذا هزمت, لا تبقى هناك لكي تشرح فلا أحد سيصغي اليك) فهل ربحت ام خسرت ؟


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع