القائمة الرئيسية

الصفحات

أثر منظومة الدرع الصاروخي الأميركي على التوازن الاستراتيجي العالمي المدرس الدكتور سماح مهدي صالح العلياوي


أثر منظومة الدرع الصاروخي الأميركي على التوازن الاستراتيجي العالمي
المدرس الدكتور سماح مهدي صالح العلياوي


أثر منظومة الدرع الصاروخي الأميركي على التوازن الاستراتيجي العالمي
المدرس الدكتور سماح مهدي صالح العلياوي

تعتبر مسألة الأمن على جانبي الأطلنطي من المسائل المعقدة، فخلال الحرب الباردة كان التركيز يتعلق بالهجوم الصاروخي النووي على الصواريخ الباليستيّة طويلة المدى، والموجهة من الاتِّحاد السُّوفياتي إتجاه أراضي الولايات المتَّحدة، وإلحاق الدمار الشامل بالتجمعات المدنية. وبناءً عليه، فقد احتفظت الولايات المتَّحدة بـ"قدرة نووية إستراتيجية" (Nuclear power strategy) أساسيَّة، وليست قدرة "شاملة للردع" (Comprehensive deterrence)، وإذا لزم الأمر تقوم الولايات المتَّحدة بالرد على استخدام الاتِّحاد السُّوفياتي "للأسلحة النووية" (nuclear weapons)، لكن تمَّ صياغة الترتيبات الأمنيَّة بين الطرفين في معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستيّة المعروفة اختصاراً باسم "أيه بي أم" (ABM) في أيار/مايو 1972، وقد حدَّدت هذه المعاهدة حقّ كلتا الدولتين من نشر أنظمة دفاعية ضدَّ هجمات صاروخية نووية باستخدام صواريخ باليستيّة طويلة المدى.
وبعد وتفكُّك الاتِّحاد السُّوفياتي في كانون الأول/ديسمبر 1991، ظهرت الخلافات في الرؤى حول البعد الدفاعي الإستراتيجي للأمن العالمي بين الولايات المتَّحدة والاتِّحاد الأوروبي، من جهة، وروسيا الاتِّحادية والصين، من جهة أخرى، حيث تمتلك واشنطن نوعين من الدفاعات الصاروخية، هي: الأول، "نظام الدفاع الصاروخي لمسرح العمليات" (Missile defense system for theater operations) ويشتمل على نشر صواريخ مضادة للصواريخ الباليستيّة محدودة المدى يمكنها حماية مناطق صغيرة، مثل: القوَّات، والقواعد، والمعدات العسكرية من هجمات الصواريخ الباليستيّة قصيرة المدى والمحدودة. والثاني، "نظام الدفاع الصاروخي القومي" (National missile defense system)، ويعمل على نشر صواريخ مضادة للصواريخ الباليستيّة يمكنها حماية الدُّوَل والأقاليم من هجمات الصواريخ الباليستيّة طويلة المدى، ومصادر التهديد المحتملة، والّتي تقوم عليها إستراتيجية "الدرع الصاروخي الأميركي" (United States missile defense)، وهو نظام يتمُّ فيه بناء شبكات حماية مكوِّنة من "أنظمة صواريخ أرضية" (Ground – based missile systems)، مستندة إلى نقاط أرتكاز جغرافية عدَّة، قادرة على إسقاط أيّ صاروخ باليستي عابر للقارات يستهدف أراضي الولايات المتَّحدة أو حلفائها.
وقد سعت الولايات المتَّحدة لتشكيل ما يُسمَّى البيئة الأمنيَّة العالمية تحت هيمنة الإستراتيجية الأميركية، وذلك بعدَّة طرق، أهمُّها: منع انتشار أسلحة الدمار الشامل: اذ أكَّد الرئيس الأميركي "جورج دبليو بوش" (George W. Bush) في كلمة ألقاها في أكاديمية "وست بوينت" (West Point) العسكرية في حزيران/يونيو 2002، بأن الخطر يكمن عند التقاطع الخطير للراديكالية التِكْنُولُوجيا، فعندما تنتشر الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية والنووية، وتترافق مع تِكْنُولُوجيا الصواريخ العابرة للقارات، يصبح بإمكان حتى الدُّوَل الضعيفة أو الجماعات الصغيرة إحراز قوَّة مدمرة تمكنها من ضرب الدُّوَل العُظمى.
وقد ركَّزت الإدارة الأميركية على فكرة أن مفاهيم الحرب الباردة، الّتي قامت على حتمية الدمار المتبادل، وعلى احتواء تلك الأخطار، لم تُعدُّ تصلح لجهود درء التهديدات الملحة في القرن الحادي والعشرين، وقد كانت التكتيكات السابقة منطقية عندما كان مصدر الخطر هو دولة كُبْرَى عدوة مسلحة نووياً، ولهذا عملت الولايات المتَّحدة العديد من الإجراءات لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهي: خفض  إنتاج المواد المستعملة في صنع أسلحة الدمار الشامل وإيقافها، ومحاولة إيقاف الدُّوَل المُناهضة للسِّياسة الأميركية من الحصول على الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل، وإيقاف انتشار الصواريخ والأسلحة النووية في جنوب آسيا، وتعزيز إجراءات مراقبة التصدير، وعمل الوكالة الدُّوْلية للطَّاقة الذرية، فضلاً عن تعزيز الوجود العسكري الأميركي المنتشر على مساحة واسعة من العالم، والاحتكار الأميركي لقدرات الحرب البعيدة المدى، وهو ما أعطى هامشاً واسعاً للتفرد في صناعة السِّياسات والاستراتيجيات.
وبقصد الاستجابة للوضع الأمني الدَّوْلي الجديد، أتفق الرئيس الأميركي "جورج دبليو بوش"، والرئيس الرّوسي "فلاديمير بوتين" (Vladimir Putin) على إيجاد إستراتيجية أمنيَّة شامل تحت اسم "أطار العمل الإستراتيجي الجديد" (New Strategic Framework) خلال اجتماع القمة في موسكو في أيار/مايو 2002، ويشمل تخفيض الأسلحة النووية الهجومية، وإنشاء أنظمة دفاعية للحماية من الهجمات بالصواريخ، وتقوية إجراءات منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، واتَّخاذ إجراءات مضادة لها.
كما سعت الولايات المتَّحدة لإنشاء نظام دفاعي فعال مضاد للصواريخ، إذ أعلن الرئيس "جورج دبليو بوش" عام 2001، عقب حضوره مراسيم أداء اليمين الدستورية لوزير الدفاع السابق "دونالد رامسفيلد" (Donald Rumsfeld)، عن عزمه إقامة منظومة دفاعية مستقبلية، تعتمد على التِكْنُولُوجيا الجديدة، وفق أهداف واضحة لتوجيه السِّياسة الدفاعية للولايات المتَّحدة، وهي: تعزيز علاقات الثقة بين الشَّعب الأميركي والشَّعوب الّتي تخدم تحت راية الأمة الأميركية، بأمداد تلك الشَّعوب بالرسائل الأمنيَّة الّتي تحتاج إليها، ومنحها الاحترام الّذي تستحقهُ، والبدء في إنشاء جيش المستقبل بالإفادة من التِكْنُولُوجيا الجديدة لإعادة تحديد وسائل خوض الحروب، والسّعي إلى الدفاع عن الشَّعب الأميركي، وحلفاء الولايات المتَّحدة ضدَّ التهديدات المتزايدة، مثل: الصواريخ الباليستيّة، وخلال الاجتماع الّذي جمع كلٌّ من وزير الدفاع الألماني "رودولف شاريتيغ" (Rudolph Scharping)، والأمين العام "لحلف شمال الأطلسي" (North Atlantic Treaty Organization) "جورج روبرتسون" (George Robertson)، أعلن وزير الدفاع الأميركي "دونالد رامسفيلد" في آذار/مارس 2001، بأن واشنطن ستتحدث من الآن فصاعداً عن نظام دفاع مضاد للصواريخ لحماية القوَّات الأميركية وحلفاؤها، وليس فقط عن نظام دفاع وطني، حيث تكون الولايات المتَّحدة قادرة على الدفاع عن كل بقعة من أرضها، وعن سكانها، وعن قواتها المنتشرة في أنحاء العالم، والعمل أيضاً على أن يشعر حلفائها بالأمان.
ويتكون التصميم لمنظومة الدرع الصاروخي من نظام مندمج بالكامل، يكون قادراً على الاشتباك مع فئات التهديدات كافة بالصواريخ العابرة للقارات ابتداءً من الصواريخ التَّكتيكة القصيرة المدى، وصولاً إلى الصواريخ العابرة للقارات، حيث يكون الدفاع في منتصف المسار انطلاقاً من قاعدة أرضية، ويتكون النظام إلى ما يصل (20) صاروخاً اعتراضياً مُتعدِّد المراحل، وتحمل واسطة نقل خارج الغلاف الجوي، ومهمته اعتراض "الصواريخ الباليستية العابرة للقارات" (Intercontinental ballistic missiles) الّتي يصل مداها إلى حوالى (5500) كم خلال منتصف مسار طيرانها، وكذلك نظام الدفاع في منتصف المسار انطلاقاً من قاعدة بحرية، ويتكون النظام من (3) طرادات ما يُسمَّى "نظام أيجيس المضاد للصواريخ" (The Aegis Ballistic Missile Defense System) مجهزة برادارات من طراز "سباي 1" (Spay – 1)، وما يصل إلى (20) معترضة صاروخية قياسية محدّثة، ومهمته اعتراض الصواريخ الباليستيّة القصيرة والمتوسطة المدى خلال مرحلة منتصف طيرانها.
ونظام الدفاع الصاروخي "باتريوت" (Patriot) ذو القدرة المتقدمة، ويتكون من قاذف ذو قاعدة أرضية يُمكن نقله جواً مجهز بثلاثة صواريخ اعتراضية عالية السرعة، ومهمته اعتراض الصواريخ الباليستيّة القصيرة والمتوسطة المدى، وكذلك نظام أجهزة استشعار، ويتكون من رادار ذو نطاق "أكس" (AX) في جزيرة الآسكا، ويعمل بـ"نظام الأشعة تحت الحمراء" (Infrared system) العالية، و"رادارات أنذار مبكر" (Early warning radars) محدثة، ومهمته كشف انطلاق الصواريخ الباليستيّة في جميع مراحل مسار الطيران، وتأمين بيانات تعقب الهدف. ولعلَّ منظومة الدرع الصاروخي تهدف إلى تحقيق جملة من الانجازات، وهي: توفير سلاح طويل المدى يتعدى مداه الألف ميل، وذو سرعة فائقة للوصول إلى الهدف، وتبكير الاشتباك مع الأهداف المعادية، والتدرج في التعامل معها من الاكتشاف إلى الاعتراض إلى التدمير، والمزج بين تخفيض تكلفة القذيفة مع زيادة خسائر العدد في الأرواح نتيجة لتأثير القذيفة الواحدة، والموازنة بين تقليل تكلفة وعدد القذائف مع زيادة الأثر التدميري لكل قاذف، وأن كل سلاح، أو قاذف، أو قاعدة تمثل نظاماً متكاملاً، يتمُّ تشغيل جميع مكوِّناتهِ بشكل محوري أو مركزي، وتوفير أنظمة مصيرية ذات قدرة فائقة على المراقبة، والاكتشاف ثمَّ توجيه القذائف إلى أهدافها بدقة عالية.
إنَّ الولايات المتَّحدة عازمة على بناء درع صاروخي عالمي عالي القدرات لهدفين، هما: الأول، إظهار قوَّة تِكْنُولُوجية كفيلة بأن تكون رسالة ردعية معنوية إلى جانب ردعها المادي للأعداء والمناهضين، والثاني، إظهار الخطر أكبر من حجمة الواقعي، وهو أحد السبل لضمان تأييد الحلفاء والأصدقاء، إذ أكَّدت زيرة الخارجية الأميركية "كونداليزا رايس" (Condoleezza Rice) بأن الرئيس الأميركي يلتزم التزاماً مطلقاً بمسألة الدفاع المضاد للصواريخ، وهو يعتقد أن هناك ادراكاً متزايداً في أنحاء العالم بأن خطر الصواريخ خطر حقيقي في عالم اليوم، وليس من أخطار الحرب الباردة.
إن منظومة الدفاع الإستراتيجية الأميركية لا تتَّحدد على الصعيد الإقليمي للولايات المتَّحدة، بل تمثل مناطق وأقاليم أوسع من ذلك، كما هو الحال في منطقة أوروبا الشَّرقية، ومنطقة الشَّرق الأوسط، وتساهم هذه المنظومة في وضع أسس إستراتيجية فعالة لتعزيز القدرات الدفاعية لأعضاء حلف شمال الأطلسي الذين يشعرون بالتهديد من انتشار السِّلاح، ولا سيّما الأعضاء الجنوبيين، وخاصة تركيا، وكذلك تساهم في تأمين الدُّوَل الحليفة في الشَّرق الأوسط، وخاصة إسرائيل، وعلى الرغم من وجود الولايات المتَّحدة العسكري في أغلب المناطق العالمية، فإن انتشار الأسلحة يعرض الوحدات العسكرية الأميركية المنتشرة لأخطار متزايدة، حيث تخضع متطلبات تعزيز القدرات الدفاعية الذاتية لأغلب دُوَل العالم لدراسة مستفيضة من قِبَل الولايات المتَّحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي.
إنَّ المسوغات والمبِّررات الّتي تسوقها واشنطن لحلفائها وخصومها على حد سواء لتسويغ نظام الدرع الصاروخي ترتكز في معظمها على أمرين أساسيين، هما: الأول، إن الشبكة الدفاعية الصاروخية لا تحدث أيّ تغيُّرات جذرية في الوضع القائم للأمن والتوازن العالميين، فهذه الشبكة مصممة لصد صواريخ فردية محدودة قد تصدر قصداً عن "الدُّوَل المارقة" (Rogue states), وليست مصممة لصد هجوم كاسح تكون فيه الصواريخ مكثفة بغزارة سواء أكان مثل هذا الهجوم مصدره روسيا أم الصين, وهي الدُّوَل الأكثر تضرراً من اختلال التوازن الّذي تحدثه شبكة الدرع الصاروخي، وبالتالي فإن "الردع المتبادل" (Mutual deterrence)، الّذي حفظ التوازن الدُّوْلي ما زال قائماً، والتخوفات من اختلال ذلك التوازن بين القِوى الكُبْرَى مبالغ فيها. والثاني، إن شبكة الدرع الصاروخي قد تتطوُّر مستقبلاً لتضمُّ دُوَل حلف شمال الأطلسي, وبالتالي، الانسجام في الشراكة مع الاتِّحاد الأوروبي، وليس الابتعاد عنها، لكن محاولات واشنطن تسويق فكرة محدودية فعالية النظام الدفاعي تظلّ محاطة بشكوك, إذ من الطبيعي أن يكون تصميم مثل هذا النظام آخذاً بالاعتبار توفر إمكانية تحويله وتطويره بسرعة في حالات الطوارئ, ليصبح قادراً على صد الهجمات الغزيرة، كما إن قيام الدُّوَل المارقة بالهجوم على الولايات المتَّحدة ينطوي على مغامرة انتحارية، إذ قد تقوم الولايات المتَّحدة برد عنيف انتقامي.
وبناءً عليه، فإن القِوى الكُبْرَى في المجتمع الدُّوْلي اصبحت أكثر قلقاً حِيَال التوجُّه لتخفيض الأسلحة النووية، وقرار نشر منظومة الدرع الصاروخي الأميركي حيث أثار الامتعاض لدى القادة العسكريين الرّوس، لأن الجانب الرّوسي كان يفضل تدمير الرؤوس النووية، بدلاً من تخزينها، لأنَّ التخزين يحتاج إلى إمكانيات تفوق الطَّاقة المالية لدى روسيا، كما إن الواقع يشير إلى ما هو عكس ما تدعيه الولايات المتَّحدة بشأن منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ولا سيّما انسحاب واشنطن بشكل أحادي من معاهدة الحد من انتشار الصواريخ المضادة للقذائف الباليستيّة، ومن بعض المعاهدات الدُّوْلية، وهو ما يعطي انطباعاً بالرغبة في استمرارية نظام الأحادية والهيمنة المُطلقة على حيازة وامتلاك السِّلاح النووي.
كما إن روسيا تسعى إلى الربط بين خفض الأسلحة النووية، وبين تقديم الولايات المتَّحدة تنازلات بشأن برنامج الدفاع الصاروخي الّذي تتبناه، على وفق تعبير الرئيس الرّوسي "فلاديمير بوتين"، والّذي أكَّد رفضه لنشر منظومة الدفاع الصاروخي بالقرب من موسكو، وأن روسيا حريصة في الحفاظ على مكانتها على اعتبارها قوَّة كُبْرَى على السِّاحة الدُّوْلية، وأن منظومة الدرع الصاروخي الأميركي تهدف إلى تطويق روسيا، ومنع موسكو من التوسع في محيطها الإستراتيجي، كما حذرت وزارة الخارجية الروسية على نحو متماثل من أن خطط الدفاع الصاروخي الأميركي دخلت مرحلة جديدة مزعزعة للاستقرار، وقد واصلت روسيا الضغط محتجة بأن منظومة الدفاع الصاروخي لا تتلاءم مع العلاقات الجديدة من الشراكة الإستراتيجية بين روسيا والولايات المتَّحدة، ويجب إيجاد برنامج بشكل أفضل من البرنامج الأحادي الجانب الّذي يحث عليه البيت الأبيض، كما أبدت الصين قلقها من التأثير السلبي المحتمل لنظام الدفاع الصاروخي على الاستقرار الإقليمي والدُّوْلي، وعلى أن تأخذ واشنطن بنظر الاعتبار مصالح الدُّوَل الكُبْرَى.





هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع