القائمة الرئيسية

الصفحات

الأساس الفلسفي للبراغماتية في السِّياسة الخارجية الأميركية المدرس الدكتور سماح مهدي صالح العلياوي



الأساس الفلسفي للبراغماتية في السِّياسة الخارجية الأميركية
المدرس الدكتور سماح مهدي صالح العلياوي



إنَّ الفكر السِّياسي الأميركي يركَّز على المنفعة في الأفكار والنظريات مهما تكن هذه الأفكار، إذ إن الغاية والنجاح هما الحكم والفيصل في قياس مدى أهميَّة الفكرة ونفعها، والنتائج المتمخضة عنها، وقد سيطر هذا الفكر بشكل مطلق على السِّياسة الخارجية الأميركية في إطار العلاقات الدَّوْلية، ولهذا أصبح الفكر البراغماتي الترجمة السُّلوكية الحقيقة للفكر السِّياسي الأميركي، وهو في جوهره نهج محافظ يرى من حقه إتباع كل وسيله ممكنة في سبيل الوصول إلى حقه في البقاء، وأن المصلحة والمنفعة والذاتية هي معيار الصدق والأخلاق.
وتعرف البراغماتية من الناحية اللغوية بأنها الاستشراف العملي، والبراغماتي يعني العملي، والبراغماتية كلمة مشتقة من اللفظ اليوناني "براغما" ومعناها العمل، وقد اشتقت منها كلمتا "ممارسة" practice)) و"عملي" (practical)، وتأتي منها كلمة "مزاولة" (Practice)، وقد استعار الرومان المصطلح واستخدموا عبارة "التداولية" (pragmatics)، وقصدوا بها المتمرس في المسائل القانونية، ويترجم مصطلح البراغماتية إلى اللغة العربية بـ"الذرائعية" (pragmatism). أمَّا من الناحية الاصطلاحية فإن كلمة البراغماتية تطلق على المذاهب الفلسفية الّتي ظهرت في الولايات المتَّحدة على يدّ الفيلسوف "تشارلس ساندرس بيرس" (Charles Sanders Pearce)، وتطوُّرت على يد العالمِ "ويليام جيمس" (William James) والعالمِ "جون ديوي" (John Dewey)، ويقرَّر هذا المذهب إنَّ العقل يحدَّد هدفه حين يقود صاحبه إلى العمل الناجح, فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة أيّ الفكرة الّتي تحققها التجربة، وألا يقاس صدق القضية إلاَّ بنتائجها العملية والفعلية، وهذا يعني إن النتائج النهائية المستحصلة هي الّتي تحدَّد قِيَمة أيّ فكرة, فهي الّتي تقطع الشك باليقين كما ترى البراغماتية.
ويرى العالمِ "تشارلس ساندرس بيرس" أن معيار الحقيقة هو العمل المنتج، وليس الحكم العقلي، وأن العمل مبدأ مطلق ممَّا يترتب عليه أنْ يتصف العالم بالمرونة بحيث نستطيع التأثير فيه وتشكيله، ولكي ننشئ فكره معينة فكل ما نحتاج إليه إنَّما هو تحديد أيّ سلوك، وأيّ فعل تصلح لإنتاجه, وأننا لكي نتأكد من وضوح أيّ فكرة علينا أن ننظر في الآثار والنتائج العملية الّتي تحققها في الواقع, سواء أكانت هذه النتائج مباشرة أم غير مباشرة، فالبراغماتية مفهوم نسبي تنظر إلى كل شيء بنسبية، فالأفكار تقاس بمنافعها إلاَّ أنَّ البراغماتيين العمليين قد صنفوا المنافع على وفق المفهوم البراغماتي إلى "منافع عليا" (High benefits)، و"منافع دنيا" (Minimum benefits)، وفي ضوء هذه التفرُّقة ميزوا بين قِيَم الأفعال على وفق اختلافها فيما يترتب عليها من وجوه النفع.
ويحدَّد العالمِ "ويليام جيمس" مدلول البراغماتية بأنها الفكر الّذي ينشد السُّلوك الناجح الّذي يؤدي إلى نتائج فعلية فالشعور نشاط إيجابي ينشد هدفاً محدَّداً يحقِّق صالح الإنسان, فليس العالم فرضاً عليه, بل يختار منه ما يريد من بين الأحداث الّتي تواجهه, وتعتبر الإرادة والمصلحة الذاتية من أبرز ما تنم عنه طبيعة الإنسان، وأن المعرفة هي أداة تحقيقها، وأمَّا الحق فهو العمل الناجح الّذي يصل بالإنسان إلى مبتغاه, ومن ثمَّ تصبح البراغماتية الفكر الّذي يقود إلى العمل الناجح، ويرسم خطاه، وعلى حد تعبير العالمِ "ويليام جيمس" للبراغماتية في الخطاب الّذي القى في مدينة كاليفورنيا قائلاً: "بأنها تعني إنَّ أيّ قضية يُمكن إن يكون لها نتائج عملية في حياتنا العملية المستقبلية, وفي خبرتنا سواء أكانت إيجابية أم سلبية, أضفت إن الخبرة يجب إن تكون جزئية أكثر من كونها نشطة, وعنيت بالنشطة إن تكون عملية بالمعنى الضيق للكلمة، وتؤدي إلى أدارك موضوعها, وحين تثبت أنها قابلة للعمل".
أمَّا العالمِ "جون ديوي" يرى "إن البراغماتية في جوهرها هي نظرية في القِيَمة، وسلوك تُجَاه الأشياء، وهو الّذي يحدَّد قِيَمتها, وأن المعرفة وحدها أو العقل وحده لا يستطيع إن يحدَّد من الناحية النظرية البحتة قِيَمة التصوُّرات، ولكن العمل هو الّذي يُمكن إن يحسم الخلاف بين الفلاسفة"، وبالتالي، فإن البراغماتية هي النظرية الّتي ترى إن عمليات المعرفة ومواردها إنَّما تتحدَّد في حدود الاعتبارات العملية أو الفرضية فليس هناك محل للقول بأنَّ المعرفة تتحدَّد في حدود الاعتبارات النظرية التأملية الدقيقة أو الاعتبارات الفكرية المجردة، وإنَّما من خلال النتائج المستحصلة.
وبناء عليه، فإن فالبراغماتية هي مذهب فلسفي سياسي يعتبر أنَّ نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة, فالسِّياسيّ البراغماتي يدَّعي دائماً أنه يتصرف ويعمل من خلال النظر إلى النتائج العملية المثمرة الّتي قد يؤدي إليها قراره, وهو لا يتخذ قراراً بوحي من فكرة مسبقة أو أيديولوجيَّة سياسيَّة محدِّدة، بل من خلال الأخذ بعين الاعتبار النتيجة العملية المنشودة، ولهذا فأن البراغماتية تقترب في بعض جوانبها من المذهب التجريبي، والبراغماتية في العصر الراهن منهج يتلخص بأنه ينكر حكم العقل على اعتباره المعيار الوحيد للحكم على الواقع الحقيقة، ويقتبس الحق والصدق والخير والواجب بما يحقِّق للفرد أو الجماعة من ميول ورغبات، فهي أيّ البراغماتية في صميمها لا تحتم الوصول إلى نتائج معينة.
وتقوم البراغماتية على مجموعة من السِمَات، وهي: اعتماد النفع وحده للإنسان شرط أن يكون ثابتاً مفيداً بالتجربة, بما في ذلك العقيدة الدَّينيَّة والخلق، بالإضافة إلى تقديس العمل لهذا تعرف البراغماتية بالعملية، ناهيك عن التغيّر والنسبية أيّ أن البراغماتية تنظر إلى الظواهر جميعاً بوصفها غير ثابتة وعرضة للمراجعة، وتهتم بمرحلة استخدام المعرفة أكثر من اهتمامها بالحقيقة بوصفها كتلة من المعرفة، بالإضافة إلى الفردية فالبراغماتية تصنف ضمن الفلسفات الإنسانية الفردية لأنها تركَّز على الفرد المتعلم، وتطرح البراغماتية نفسها بوصفها نظرية للحقيقة القائمة على معياري النجاح والفعالية، وتوصف البراغماتية فلسفة العلم التطبيقي، وهي نوع من فلسفة المنهج العلمي وشكل من أشكال التجربة.
وللبراغماتية العديد من الأنواع، وهي: "البراغماتية الانسانية" (Humanistic pragmatism)، وترى أن جميع النظريات والمعتقدات لا يُمكن أن تكون صواباً إلاَّ أذا كانت منطوية على قِيَمة إنسانية، و"البراغماتية البيــــولوجية" Biological Pragmatism))، وترى أن الفكر إنَّما يهدف لمساعدة الكائن العضوي ليتوافق مع بيئته, فالتأقلم الناجح المؤدي إلى البقاء، وأن النمو هو بمثابة المعيار لصدق الأفكار، و"البراغماتية التجريبـية" (Experimental Pragmatism)، وترى أن الحق هو ما يؤدي إلى عمل؛ بمعنى ما يكون متحققاً بصورة تجريبية، و"البراغماتية الأسمية" (Nominal pragmatism وهي صوره فرعية من البراغماتية التجريبية, وترى أن نتائج الأفكار هي ما نتوقعه في صور وقائع جزئية مدركة في الخبرات الّتي تحدث في المستقبل.
وهناك أنوع أخرى من الفلسفة البراغماتية ظهرت في ألمانيا على يدّ العالمِ الألماني "هانس فاينجر" (Hans Venger) تُسمَّى "فلسفة الوهم" (Philosophy of illusion)، وهو نوع متطرُّف من البراغماتية يرى أن المبادئ الرئيسة في العلوم الطبيعية والرياضيات والفلسفة والأخلاق والدين والقانون مجرد أوهام, وعلى الرغم من أن الحقائق الموضوعية تنقصها إلاَّ أنها مفيدة للعمل، ويبدو أن هذا الاتَّجاه لم يلق النجاح في ألمانيا نتيجة لوجود تيارات فلسفية متجذرة في ألمانيا، كما امتد تأثير البراغماتية إلى إيطاليا حيث تبناها الإيطالي "بايني" (Payne) الّذي يعتبر زعيم النادي الميتافيزيقي في فلورنسا، كذلك ظهر لهذا الاتَّجاه ما يماثله في فرنسا على يدّ "هنري برجسون" (Henry Bergson) صاحب الفلسفة الروحية, وقد ظهر على يدّ المفكر الأميركي "ريتشارد رورتي" (Richard Rorty) ما يُسمَّى "البراغماتية الجديدة" (New pragmatism)، وهي أحياء للبراغماتية الكلاسيكية.
وظهرت في الولايات المتَّحدة مجموعة من الاتَّجاهات الّتي كانت السبب في نشوء البراغماتية، خاصة الاتَّجاه الدِّيني، إذ منذُ بداية القرن السابع عشر ساد في الولايات المتَّحدة "البيوريتانية" (Puritanism) أو الطهرانية, وهي عقيدة تبناها المسيحيون الاصلاحيون "البروتستانت"، وبالذات الكالفينيين، وقد تمكَّنت هذه الموجات التبشيرية من المهاجرين إلى العالم الجديد من إقامة وبناء نظام اجتماعي وديني يتوافق مع ما يتطلعون إليه, حيث أنهم يمثلون الكنيسة البروتستانتية، وقد شكلوا ما يعرف بـ"العقيده الطهرانية" الّتي كانت وما زالت تؤثر تأثيراً كبيراً في صياغة الفكر الأميركي بما تحمله من أفكار وعقائد دينية ورأسمالية.
وتوضحت بوادر الاتَّجاه العقلي مع بداية القرن الثامن على يدّ الأب المؤسَّس للولايات المتَّحدة "بنجامين فرانكلين" (Benjamin Franklin)، و"توماس جفرسون" (Thomas Jefferson) الذين شاركوا مشاركة فعالة في حصـــول الولايات المتَّحدة على الاستقلال السِّياسيّ من بريطانيا، فقد دعا "بنجامين فرانكلين" إلى استخدام النقد الفلسفي والحوار من أجل الوصول إلى الحقيقة أو الخير، وقد عدَّ "توماس جفرسون" عقل الفرد مرجعه الوحيد في السِّياسة، وفي الدين لا سلطان عليه من حكومة أو كنيسة, وأكَّد على وجوب تعميم التعليم بين الناس لتمكينهم من ممارسة حقوقهم الطبيعية في تقرير مصائرهم بأنفسهم.
وظهر الاتَّجاه الرومانسي على يدّ الفيلسوف "رالف والدو إمرسون" (Ralph Waldo Emerson) واتَّسمت كتاباته بالشاعرية والرومانسية المفرطة حيث كان يتخطى العقل، ويعتقد بـروح عُليا، وهي تلك الروح المُطلقة الّتي يكون كل شيء جزءاً منها، وقد ظهرت هذه الروح في بعض البشر بشكل الفردية الشديدة، وفي بعض آخر بشكل العطف على الفقراء, وهذا الاعتقاد خلف في "رالف والدو إمرسون" اعتقاداَ راسخاً في وصول الإنسان بروحة إلى الحقيقة، وقد حاولت النزعة الرومانسية تحرير الفرد من القيود الّتي يكبله، ومن تزمت العادات وقوَّة التقاليد، والرومانسية هي حركة فلسفية عامة ارتبط مفهومها في المرحلة الابتدائية بالمثالية الألمانية، خاصة الغاية الأساسيَّة لتوسيع المعرفة إلى مجال الشيء بنفسه أو في حقيقيته، وأن الحقيقة كلها في النهاية روحانية مشتقة من روح حية يمكن معرفتها من قِبَل الروح الإنسانية، وترى الرومانسية الروح المطلق خلاق بشكل جوهري، وأن الأساس النهائي لكل الأشياء هو بالدرجة الأولى ينزع نحو التعبير الذاتي، وأن كل ما وجد هو الروح لتحقيق ذاته.
وقد ظهر في الولايات المتَّحدة ما يُسمَّى الفلسفة "الترنسندنتالية" (Transcendental) الفلسفة المتعالية،  وهي حركة دينية وفلسفية تطوُّرت في نهايات عشرينيات القرن الثامن عشر، وثلاثينيات القرن الثامن عشر في الولايات المتَّحدة، وبرزت كرد فعل للاحتجاج ضدَّ الحالة السائدة من الفكرانية والروحانية، وهي كل مذهب يقوم على مبادئ وصور أولية بحكم التجربة، وترى أن كل تجربة مهما صغرت تقودنا إلى ما يكشف عن الكون بأسره، فهي مذهب العقل المفتوح والعملي, وهي مزيج مستمد من كثير من أفكار مختلفة من التراث الفلسفي والأدبي الأوروبي والشَّرقي الّتي جعلته بالفعل ظاهرة اجتماعية وأدبية ممتعة أكثر منه ظاهرة فلسفية، وهذه الروح الفكرية الّتي عرفتها الولايات المتَّحدة تعني تفضيل المدركات العقلية على الاختيار المجرد, ويمكن تحديدها بتعبير آخر بأنها الأيمان الراسخ بصلاحية الطبيعة الإنسانية.
وتقوم الفلسفة "الترنسندنتالية" في الفكر السِّياسيّ الأميركي على الإيمان بتفوُّق المعرفة الحدسية على الحسَّية, وميزت بين العقل وبين الفهم وسبيله العقل, فالعقل تجريبي، وعارضت الحس المشترك, واحترمت الفردية بصوره مفرطة, وترى أن الإنسان له أفكار لا تأتيه عن طريق الحواس الخمس أو قوى استدلال العقل, بل هي نتيجة وعي مباشر أو فيض من الله، وكشفت عن ميل إلى عدم احترام التاريخ, ولهذا احتقرت البحث عن الماضي وأخطاء السلف, وهذهِ السِمَة في عدم احترام التاريخ أصبحت سِمَة أساسيَّة من سِمَات الفكر البراغماتي في الولايات المتَّحدة, وقد مجدَّت الفلسفة "الترنسندنتالية" أصحاب الحرية الفردية، ولكن بمعنى الاستقلال الفردي عن المجتمع.
كما ظهر في الولايات المتَّحدة ما يُسمَّى "النادي الميتافيزيقي" (The Metaphysical Club)، فنشأت البراغماتية في هذا النادي خلال الأعوام (1872 1874)، وكان "تشارلس ساندرس بيرس" قد قدم لهذا النادي ببحث نشره في مقالين منفصلين، الأول، بعنوان "تثبيت الاعتقاد" (Install belief) عام 1877، والثاني، بعنوان "كيف نجعل أفكارنا واضحة" (How to make our thoughts clear) عام 1878، وكانت البراغماتية حصيلة هذين المقالين، حيث أجاب "تشارلس ساندرس بيرس" عن معنى الفكرة، فالبراغماتية حصيلة هذا النشاط الفلسفي للنادي، وكان "تشارلس ساندرس بيرس" هو المتحدث الرسمي للنادي ومؤسَّسه، وكان من بين أهداف النادي الميتافيزيقي, أو من بين القضايا الفكرية الّتي شغلت اهتمام أعضاء هذا النادي مهاجمة "الميتافيزيقيا" (Metaphysics), والميتافيزيقا عندهم تعني ما هو مستقل عن خبرة الإنسان، وهنا يجمعون في سلسلة واحدة بين عالم الغيب، وبين العالم الموضوعي المادي، لأنه أيضاً مستقل عن خبرة الإنسان أو له وجود مستقل، قد جاء منتصف القرن التاسع عشر ليشهد انتعاشاً فكرياً رافضاً للتقاليد الأوروبية والمثالية الألمانية "الميتافيزيقيا"، الّتي كانت تسود الولايات المتَّحدة في ذلك الوقت، والّتي أنشأت البراغماتية، وعليه، فإن فالبراغماتية ولدت من رحم النادي الميتافيزيقي الّذي ضمَّ بين صفوفه أفراداً من المجتمع من مختلف  التخصصات والاهتمامات.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع