القائمة الرئيسية

الصفحات

العراق ما بين حل الأزمة ... وأزمة الحل . الدكتور علي كحط جالي

 

 

    

العراق ما بين حل الأزمة ... وأزمة الحل  .

الدكتور علي كحط جالي



   يعيش العراق تحدياً كبيراً وأزمة خطيرة متصاعدة ، مابين حل الأزمة ... وأزمة الحل، فمن تشكيل الحكومة التي عجزت كل أطراف العملية السياسية عن تشكيلها سواء من حظيت بالأغلبية الانتخابية أو بالتوافقية ،إلى خيار الحل : بالدعوة إلى حل مجلس النواب وإعادة الانتخابات.

   وإذا كانت هذه الدعوة خياراً لمواجهة الخصوم أو الشركاء أو لتصحيح مسار العمل الحكومي في العراق ومحاربة الفساد بمنهج الإصلاح المرتقب أو الموعود ،فإنها تواجه معارضة داخلية مابين دستورية حل مجلس النواب وإعادة الانتخابات قبل تشكيل الحكومة ،لأن جوهر المشكلة ليس في نتائج الانتخابات أو أداء مجلس النواب الذي هو بالتأكيد لا يرضي الجميع أو يرتقي إلى تطلعاتهم وطموحاتهم ، ولكن حقيقة الأمر الذي لا يريد الجميع الخوض فيه ، إن الأداء الوظيفي لمجلس النواب مرتهن لإرادة قادة الكتل لذلك لا يمكن له تلبية تطلعات الشعب العراقي في مواجهة سلطة الفساد ونفوذ أصحابها ،أو القدرة على إعداد وصياغة قوانين جديدة تضمن الحرية والسلامة للمواطنين وتساعد في دعمهم لتوفير حياة آمنة كريمة ، أو ممارسة دوره التشريعي والرقابي،  فالمجلس عاجز حتى عن الاستجابة لأفكار النواب في حدها الأدنى من الحرية والمسؤولية لدور النائب ،فالمجلس يعمل برأي النخبة من قادة الكتل السياسية وإن كانوا خارج قبة المجلس أو المسؤولية القانونية عن سلوكهم النفعي السلطوي ، وهذا الحال يعد من أهم أسباب فشل مجلس النواب في أداء دوره الوظيفي كما نص على ذلك الدستور والنظام الداخلي له ،لأن الأغلب من أعضائه أسرى لسطوة وأراء وأفكار قادتهم وإن كانت تلك الآراء والأفكار أو المصالح تتعارض مع مصلحة الشعب والنواب والحكومة العراقية ،لهذا فأن من أهم اصلاحات مجلس النواب ضمان حرية النائب في القرار والمسؤولية والعمل ، لذلك فأن تحرير النواب من مزاج قادة كتلهم هو البداية الحقيقية لأداء دورهم الوظيفي التشريعي الرقابي وهو أيضاً نقطة الانطلاق الأولى نحو الاصلاح السياسي.

   ويجد الباحث أو المتابع لتطورات الشأن السياسي العراقي العديد من المؤشرات السلبية في الاداء الحكومي لضبط الأوضاع وفرض سيادة القانون ، وكذلك يمكن له إن يؤشر الى خلل مؤسساتي وعدم وضوح في رؤية المنظومة القيادية لجميع الأحزاب التي تحولت الى متفرج عاجز عن ممارسة الدور القيادي النخبوي لإيجاد حل قانوني للأزمة أو حتى حل توافقي لمنع تدهور الأمور وتصاعد التوتر إلى مرحلة التصادم والتشظي، على الرغم مما شهدته أروقة تلك الأحزاب من تسابق وتنافس محموم للظهور الإعلامي غير المدروس وأحيانا غير المنضبط الذي يؤشر إلى غياب النضج السياسي والخبرة المعرفية والقانونية للتعاطي مع الازمات الداخلية ونزع فتيل أتقادها ، إذ كانت تلك المنظومة في حراك وارتباك أحيانا بين تمنيات لقاء المندوبة الأممية " هينيس بلاسخارت " كجزء من الأهمية وتهيأت الدور القيادي لأحزابهم ،وأحيانا بين رفض هذا التدخل كجزء من تعزيز مفهوم السيادة الوطنية والحل قانوني بعيداً عن القوة والمواجهة والتبعية ، لهذا كانت المندوبة الأممية تدور كدوران الأزمة بين أطرافها أحيانا ناقدة بلغة دبلوماسية تفاقم الأوضاع وانحدارها نحو الهاوية والفوضى ،وأحيانا محذرة من خطورة الأزمة بصيغة الأمر الذي يشكل تهديداً وتحدياً لمفهوم السيادة الوطنية وما بين هذا وذاك ،وكشأن كل الشعوب المتعبة المغلوبة على أمرها كان الصمت الشعبي تجسيدا لواقع مرير إن الذي يحصل هو تعارض مصالح بين جيوش الفرقاء التي أوصلت زعاماتها مرتبة القداسة من حيث المعرفة وقدراتهم على تصورات إيجاد الحلول للأزمة بافتراض واقع جديد للحل هو خلاف أسباب الأزمة في كل أبعادها التي تكشف هشاشة تركيبة النظام السياسي في العراق ،فهذه الأزمة نتاج اختلاف في الرؤية السياسية لمفهوم النظام وسيادة القانون وحدود السلطة السياسية للأحزاب ،واختلاف في المصالح بين تلك الجماعات ،واختلاف في الأسلوب والسلوك لمعالجة الأوضاع العامة في البلد والتي هي منذ عام 2003 تسير باتجاه واحد لكل الفرقاء والشركاء هو استمرار نظام المحاصصة والتوافق والفساد كثلاثية ثابتة للأزمة العراقية ،أصبحت بموجبها المحاصصة والتوافق نظاما عاما للبلد بديلاً عن الدستور الذي أضحى معلقا ولا يتم العودة اليه إلا كمظهر من مظاهر الشكلية للأنظمة الديمقراطية .

   في حين صار الفساد محورا وشكلا لطبيعة النظام السياسي الذي بات اليوم عاجزاً عن وقف امتداد وأتساع وهيمنة الأحزاب والجماعات والفصائل من التدخل في إدارة شؤون القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية ،ليتحول الفساد إلى منظومة مرعية لها سلطتها القوية  التي تطيح بكل من يتصدى لها بالإبعاد والاقصاء إن لم يتطور الأمر حد الأنهاء بالقتل وكل ذلك برعاية حزبية قوية توفر الحماية والغطاء الشرعي لمنظومة التمويل والثراء ،وإذا كانت هذه الثلاثية توضح حجم معاناة الأمة العراقية في إيجاد فرص للعيش الآمن ،فأن انعدام فرص العمل وإيجاد الحلول لتفاقم نقص الخدمات وتراجع قيم ومفهوم  العدالة الاجتماعية ،نتيجة ضعف وغياب فاعلية  أداء مؤسسات الدولة في أرسى دعائم  "دولة قانونية " تفرض سيادة القانون وتخلق مجتمع متوازن الحاجات جيد التنظيم ، وتحقق أهداف وغايات عامة في حدودها الدنيا لإصلاح الأوضاع ،وهذا الحال ليس بالأمر الجديد فكل الحكومات المتعاقبة منذ 2003 وحتى الآن تفتقر إلى برامج لمعالجة حالة الانغلاق السياسي ،وقدرة إنتاج الحلول الاستراتيجية  التي هي من مهام مراكز الأفكار والبحوث والدراسات التي أهملت الحكومات العراقية المتعاقبة الاهتمام بها على الرغم من الخدمات والمعالجات العلمية التي تقدمها في ضوء دراسة الأحداث والتنبؤ بمسارها وتوقعات تطورها.

   لاسيما إن تلك القدرة على "انتاج الحلول" تُعد عالميا مقاسا لنجاح الدول في إدارة شؤونها المحلية ومراقبة وقياس المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والخدمات العامة ، وتمثل في شكلها النهائي قدرة الدول على بناء "القرار السيادي الوطني " في المعالجة والتصدي لكل الظواهر السلبية في المنظومة السياسية الحاكمة، التي فرضتها في العراق ظروف الاحتلال أولاً، وتراجع قيم النظام العام في المجتمع ثانيا ،وفشل ترسيخ مفهوم النظام الديمقراطي ثالثا ،لأن ما يحصل في العراق اليوم يؤشر وبشكل واضح الى إن التجربة الديمقراطية فيه لم تأتي من حالة صيرورة طبيعية لحاجة وقناعة وتطور في شكل النظام الاجتماعي وإنما فرضت من خارج  بيئتها الاجتماعية والنفسية بالقوة والاحتلال ، ولذلك ما كانت تشكل استجابة لقدرة النظام الاجتماعي على بناء أسس النظام السياسي الذي يمثل حاجة العراق الى السلطة الفاعلة القوية العادلة التي تعمل على تحقيق الأمن وتمنع العدوان ، وتصون مبدأ السيادة والمصلحة الوطنية ، وتحقق أعلى جودة لبناء اقتصاد قوي متنوع يعتمد على الاكتفاء الذاتي ،وتطور منظومة العمل والعدالة الاجتماعية بخلق أفضل الفرص للتعليم والصحة ونشر ثقافة التسامح ،وتفعيل مبدأ سيادة سلطة القانون على الجميع ،وتعزز قيم المواطنة الصالحة على أسس من التساوي في الحقوق والواجبات ،ومحاربة الفقر والعوز الاجتماعي .

    ويمكن وبكل وضوح تحديد  إن النظام السياسي في العراق يعاني خللا تركيبا بنيويا ،هو غياب المعارضة السياسية ،وهذا الخلل جعل من النظام السياسي فريدا في سماته من بين كل الأنظمة السياسية في العالم ،فهو يختار أو ينتقي معارضته السياسية مع كل من يختلف معه سواء في المصالح والنفوذ والسلطة ،أو يختلف معه في الرأي أو الأفكار والاطروحات الاستراتيجية حول فلسفة إدارة النظام السياسي وبناء الدولة وتحديد علاقاتها الخارجية في ضوء مصالحها الحيوية السيادية وقضاياها الإستراتيجية في الأمن والدفاع والحلفاء، لذلك النظام السياسي في العراق لم يبنِ ولم يؤسس لوجود معارضة سياسية بعيدا عن فكرة التخوين والاقصاء على الرغم من إن المعارضة السياسية هي الصورة المثالية أو النموذجية لأي نظام ديمقراطي حقيقي ،المعارضة هي صورة مكملة الوجود والعمل ، لمعنى النظام السياسي تختلف في الرؤى والأفكار والإدارة ولكنها لا تختلف حول الولاء والانتماء للوطن ،تختلف في طريقة البناء ولكنها لا تشارك في عملية التفكيك والهدم لكيانها السامي "الوطن" .

   تختلف في التقييم لعملية البناء المؤسساتي للدولة  ،ولكنها لا يجب إن تختلف حول الدفاع عن الوطن ،فالمعارضة في كل العالم هي شأن داخلي محلي الأهداف والتوجهات ، إلا في العراق هي رؤية لمصالح وارتباطات خارجية أضعفت فاعلية النظام السياسي في العراق ،وقلصت من قدرة الحكومات المتعاقبة على بسط الأمن والاستقرار داخلياً، وجعلت من القرار العراقي السيادي الوطني مرتهن بأوضاع ومصالح وحاجات ونفوذ دول إقليمية ، فأصبحت المعارضة السياسية لدى بعض الجماعات والتنظيمات والشخصيات صراع وتقاتل حول الولاء لتبعيتها وليس مشروعا وطنيا لتعزيز قدرات النظام السياسي الديمقراطي وممارسة الرقابة على أداء الحكومة لمهامها الوظيفية والالتزام بتطبيقات بالدستور، فصارت المعارضة في نظامنا السياسي تعبير عن خلق أعداء محليين وفرصة للتخوين وتبادل الاتهامات والاقصاء ،وليس فاعليات وفعاليات وطنية تشارك في البناء الفكري والاجتماعي والسياسي ،ويبدو إن هذا التداعي والضعف في النظام السياسي العراقي يرجع إلى خلل ونقص في بناء المنظومة الفكرية السياسية العراقية وهي عدم وجود قانون ينظم عمل الأحزاب والحياة السياسية ويضع لها شروط ومحددات قانونية تحولها الى هيئات مدنية فكرية تهتم بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية  والثقافية ، لها برامج عمل محددة واضحة للتنظيم الحزبي ،ومصادر تمويل معلومة ، وحصر اعدادها التنظيمية بالانتماء  القانوني ،حتى لايمكن لأي تكوين تشكيل حزب دون أن يعلن وببيانات رسمية موثقة عن أفكاره وأهدافه وبرامجه، ويحظر عليه تشكيل أجنحة عسكرية وحمل السلاح تحت أي ظرف ومسببات .   

    لذلك فأن الدعوات المتكررة لإثارة الشارع هي بالتأكيد ليست الحل ،ولن تكون الحل لأنها تمثل تخليا عن مواجهة المشكلة إلى الاستعانة بالقوة أياً كانت هذه القوة "جماهيرية شعبية ثورية دينية مؤدلجة منظمة أو فوضوية " ، لأنها خلاف الحل الدستوري والقانوني للأزمة التي لن تكون حلولها ثورية باستمالة الشارع والاتباع لبيان الكثرة والقوة والاستعداد للمواجهة التي ستكون خاسرة في كل نتائجها أياً كان طرفها الرابح ، لأن قاعدة الحل الأولى لهذه الأزمة : هي إن تكون كل الفاعليات السياسية والقانونية متحاورة لا متخاصمة فما بينها فنهالك مشكلة سياسية دستورية قانونية وليس "ثأر عشائري " بين أطراف معادلة السلطة ،فالحلول المتصورة بين الشارع ونطاق الثورية لن تجدي نفعا في البلدان الديمقراطية التي يجب إن تحكمها سيادة القانون وليس الآراء الذاتية أو التقييمات الشخصية ،فالتصعيد باتجاه حلول الشارع والقوة لن يؤدي إلى مخرج للأزمة ،وإصلاح الأوضاع يجب إن يكون إصلاحا قانونيا، وليس تغييرا قسريا بالغلبة وقوة السلاح .

    فالديمقراطية هي الالتزام بالقواعد الدستورية والقانونية وتغليب المصلحة العامة على المصالح الحزبية أو المكاسب الفئوية لجماعات دون آخرى ،فالرؤية الوطنية تحتم على الجميع التعامل على أساس إن الشراكة السياسية تكامل وليس أقصاء وغلبة ، وبناء وحوار ومعارضة سياسية بناءة وليس تقاتل ،ولذلك فأن كل الرؤى التي يطرحها التيار أو الاطار مابين الاصلاح أو التمسك بما هو قائم هي ليست فرض  بقدر ما هي مشتركات عامة لكل التكوينات العراقية والتي يجب أن تحظي بالقبول والتأييد والمشاركة، بعيدا عن ضغوطات القوة والسلاح والقدرة على تعبئة المقاتلين فمهما كانت قدرات القوة العسكرية عالية فأنها أضعف من فاعلية الحوار لإيجاد الحلول وحقن الدماء ،لأن قدرة الاستعداد للحوار أكثر شجاعة وأكثر فاعلية للتعبير عن ثقافة وحضارية وسلمية أفكارنا  .

    لذلك يجب الابتعاد عن استمرار التعبئة النفسية للجماهير وتحشيد قوى الشارع من قبل أطراف الصراع السياسي والمعادلة السياسية في العراق لأنها ليست هي الحل ،وليست هي صورة الديمقراطية الحقيقية ،فالديمقراطية نظام قانوني يعني الجلوس إلى طاولة المفاوضات والتحاور وليس التناحر ،فالكل شركاء في الوطن ،والكل شركاء في الأزمة ،والكل شركاء في الحل ، لذلك أرى الاحتكام والأخذ  برأي النخبة الأكاديمية والثقافية والقانونية والسياسية والاجتماعية والدينية هي الحل وصوت العقل والمنطق وهي الانتصار لرؤية الإصلاح المنشود ،وليس هدير المدافع  وأزيز الرصاص  .

    لأن الحل بكل بساطة هو تحديد المشكلة ...والمشكلة واضحة وهي عدم قدرة النظام السياسي على وضع قواعد انتقال السلطة وقواعد تشكيل الحكومة، وإن كانت تلك القواعد قد أشار إليها  الدستور العراقي ولكنها تكاد إن تكون إشارات عابرة لأسقاط فرض كما يقال ، وإن عدم تحديد تلك الأسس والقواعد كان في بعض صوره هو "الاستئثار بالسلطة " الذي كان منهاجا لحزب الدعوة على حساب الأطراف الأخرى ، وهذا الاستحواذ على السلطة كان دافعا قويا لمنع كل الجهود لتشكيل حكومة جديدة يقودها طرف جديد على رئاسة الوزراء  هو "التيار الصدري" الذي حقق أغلبية تفوق نسبية في نتائج الانتخابات الأخيرة ،ولكن في العراق يبدو إن الفوز في نتائج الانتخابات لا يعني تشكيل الحكومة ورئاستها نتيجة لغياب الأسس العادلة لمفهوم الشراكة الوطنية وانتقال السلطة السلمي ونفوذ الفواعل غير الرسمية "محلية وإقليمية" في القرار السياسي الداخلي .

   ولذلك كتبت في مقالة سابقة إن فوز التيار لا يعني تشكيلهم الحكومة  في ضوء "متغيرات العملية السياسية القائمة " مالم ينجحوا في تحديد دور الفواعل غير الرسمية "محلية وإقليمية" تحديداً قانونيا ،وكانت تلك مسؤولية الفريق المفاوض للتيار الصدري كوحدة عمل ودراسة وتحليل للمتغيرات في معادلة تشكيل الحكومة المرتقبة ، ولكن لأننا في العراق نؤمن بالولاء لا بالكفاءة نفشل دائما في إيجاد الحلول ونتمسك بآراء الولاءات الحزبية والبيتية والعشائرية النفعية القريبة من مصدر القرار ،لهذا ذهب الجناح السياسي للتيار الصدري كدَيدَن أهل السياسة في العراق في فلسفة وسلوك بناء القرارات المصيرية إلى تكرار أخطاء استراتيجية عرفت بها الحكومات العراقية السابقة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا ،لاختيار فريق مفاوض يتميز بالولاء ويفتقر الى الخبرة في إدارة المفاوضات لتشكيل الحكومة ومعرفة سلوك لعبة المحاور والسياسة وقياس الزمن "المدد القانونية " للتفاوض، وغاب عنه إن تشكيل الحكومة في العراق عملية تفاوضية محاصصاتية أرضائية واتفاقيات في الخفاء تفتقد الى الوضوح والشفافية والى النزاهة والأمانة والمسؤولية وإدراك للمخاطر والأزمات التي تولدها هكذا ممارسات وسلوك بعيدا عن المصلحة العامة والأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي ،أدت الى ترسيخ مفهوم "سلطوي نفعي" إن الحكومات تشكلها الإرادات الخارجية والمصالح الحزبية والنفوذ والقوة  وليس نتائج الانتخابات  .

   وبالمحصلة فأن استمرار هذا السلوك "النفعي السلطوي" للاستحواذ على السلطة الذي يمارسه الإطار بأفكار "النخبة القيادية" جناح المالكي بعدم قبول الشراكة السياسية وتشكيل حكومة بحسب نتائج الانتخابات الذي يصر "التيار الصدري" عليه كجزء من الاستحقاق الانتخابي والثقة الجماهيرية سيقودنا الى التصادم والحرب والفوضى لذلك على جميع الفرقاء والشركاء ترك الشارع فلعبة الشارع معروفة حدود إثارتها ، ولكن غير معروف ولا محدد ولا محمود تجاه عواقبها فهي -"كحد السيف ليس بثابت" كما يقول الشاعر ابن حزم الأندلسي - لايمكن الامساك فيها إن أخرجت من غمدها ،لذلك لابد من التوجه الى التهدئة والعمل على فسح المجال أمام النخبة من خبراء القانون والسياسة والاقتصاد والإدارة من اساتذة الجامعات والقضاء من غير المتحزبين لإيجاد مخرج للحل النهائي وليس إجراء مناورة لكسب الوقت أو أرضاء طرف ما فالوضع يحتاج إلى قوة في قول الحق وإلى جرأة في وقف التداعي بين أطراف الصراع السياسي ،لأن الدعوة الى حل البرلمان وإعادة إجراء الانتخابات ليست هي الحل وليست هي المشكلة في المدى المنظور، لأننا إلى الآن لم نتجاوز نتائج الانتخابات السابقة إلى تشكيل الحكومة التي فشلت كل الأطراف في تشكيلها كما أسلفنا، وحتى لو سلمنا بحل مجلس النواب وإعادة الانتخابات ،فمن يضمن إن النتائج لن تكون كسابقتها من حيث توزيع عدد المقاعد بين أطراف السلطة وأحزابها وجماعاتها وكل المؤشرات تقول إننا بعد تلك الجولة من الانتخابات وإعلان نتائجها سنصل إلى  "عقدة المنشار "ذاتها وهي  عقدة تشكيل الحكومة ، لذلك على كل الأطراف إن تصل الى قناعة إن القفز على المراحل ليس حل بقدر ماهو عجز حقيقي عن إدراك الواقع والمشكلة .            

   لأنه لايمكن في النظام الديمقراطي لطرف ما إن يفرض رؤيته للحل أو ما يؤمن به خارج موجبات التغيير الدستوري لقواعد النظام السياسي السائد ،إن أزمة الحل في العراق ليس محلية في كل تجلياتها ،فهي إقليمية وهي دولية ،ولكن الأخطر فيها هي غياب الإرادة الوطنية للحل ،الحل الذي يجب إن ينطلق من مصلحة العراق أولا والحفاظ على أمنه وسيادته ونظامه الديمقراطي ثانيا والذي وإن كان هشاً في أغلب ملامحه ومعطياته ، ولكنه أعطى لنا قدرة التعبير وأبداء الرأي بعيداً عن التسلط والاستبداد لذلك يجب إن ينطلق الجميع للحل من خلال الوعي بالمخاطر التي تواجهنا جميعا ،"تواجهنا كوطن وكشركاء وحتى كفرقاء ".

    إن الخوف من الحلول الثورية التي يطرحها "التيار الصدري" هو ليس في حالة  مواجهة الفساد فقط بكل تأكيد، بل هو الخوف من مصادرة مزايا النظام السياسي الحالي الذي أعطى مساحة كلية للثراء والتلاعب حتى بمقدرات وحقوق الناس دون أدنى شعور بالمسؤولية الإنسانية عن حال هؤلاء البسطاء وفرص عملهم وتعليمهم وتأمين صحتهم ،علاوة على إن ثورية  القوى الراديكالية  والتي غالبا ما تكون خارج السيطرة المقننة في التيار- وهذه الحالة موجودة في أغلب التنظيمات الثورية في كل العالم - هي عامل الخوف الأساس الذي جعل كل الأطراف في العملية السياسية تحت طائلة الحساب الثوري، وليس القانوني ، لذلك كل مؤسسات النظام الدستورية والقانونية والقضائية والسياسية تخشى مواجهة "رؤية التيار الجديدة للحل "وهذه الرؤية الجديدة هي في حقيقتها رد على فشل وهشاشة النظام السياسي في العراق الذي لم يتمكن طيلة العشرين عاما الماضية من بناء قواعد دستورية عامة عادلة لتداول السلطة سلميا بعيداً عن التفسير القضائي الأول "للكتلة الأكبر" في عام2010 الذي أبعد "القائمة العراقية " بقيادة الدكتور أياد علاوي من تشكيل الحكومة على الرغم من فوزها بنتائج الانتخابات ، وعد التحالفات ما بعد إعلان نتائج الانتخابات هي الكتلة الأكبر، من هنا كان هذا التفسير اجتهاد وقراءة غير صائبة للمشهد السياسي العراقي وقرار جعل من محصلة الانتخابات لعبة محاور وتجاذبات أدت الى عزوف الناخب عن المشاركة السياسية ، وبلورة فكرة استبداد جديد للسلطة الديمقراطية في العراق للقوى ذات الخطاب السياسي الديني الذي يرتكز على أسس المظلومية التاريخية لهذه القوى والاستحقاق الجهادي، وفقدان الثقة والعدالة وإجراءات الشفافية في نتائج الانتخابات، وكذلك تدخل الإرادة الخارجية "إقليمية أو دولية" في تشكيل الحكومة كل هذه الوقائع وحتى الشكوك والرؤى المتباينة للقوى السياسية والفواعل الأخرى ، حولت التيار الصدري من شريك في الحكم إلى "ساعي الى الثورة والتغيير " وإن كانت تلك الثورة وذلك التغيير خارج الأطر الدستورية للتغيير والانتقال المرن للسلطة "التيار الصدري "لا يعد عدم تشكيل الحكومة فشلا سياسيا له أو خلل في منظومته التعبوية في المواجهة ، وإنما هو جاء كنتيجة طبيعية لحرب "الاستئثار بالسلطة" التي يجيد جماعة حزب الدعوة لعبتها لدرجة عدم فسحهم المجال وإعطاء الفرصة حتى لشركائهم في العملية السياسية من ذات المكون الديني والمذهبي من ممارسة حق تشكيل الحكومة كل تلك الأحداث جعلت من التيار طرفا ساعيا الى تغيير معادلة السلطة بقيادة "حزب الدعوة "من عام 2003 والى الآن حتى وان كانت نتائج الانتخابات في غير صالحهم .

   لهذا فأن لعبة الاستئثار في السلطة يجب إن تنتهي وإن تكون نتائج الانتخابات والقواعد الدستورية هي الفيصل في تشكيل الحكومات بعيداً عن الفئوية والمصالح الحزبية ،فالعراق يحتاج الى الأمن والاستقرار والبناء ،لتنتهي كل أشكال الاستبداد والغلو والاستئثار بالسلطة ، وليكن رئيس الوزراء موظف يؤدي خدمة عامة بموجب وأحكام الدستور وليس بوصاية خارجية يفرضها صراع المحاور والمصالح والقوة ،فنحن نحتاج كوطن وكمواطنين الى العيش بسلام ومحبة ،فالوطن للجميع ،والسلام للجميع  .

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع